رغم المبادرات والمفاوضات وحتى رغم قبول رئيس الوزراء بمبادرة الجهات التربوية والقانونية ومجالس أولياء الأمور لحل أزمة إضراب المعلمين، إلا أن التخبط وعدم الوضوح والتشويش وغياب الأفق ما زال قائماً فيما يتعلق بالإضراب، ومع مازال يجره من خسائر فادحة متراكمة على الطلاب والعائلة والمعلمين وجودة التعليم، والأهم الثقة في نظام التعليم الذي كنا نفتخر به، وحتى على إدارات التخطيط في مؤسسات التعليم العالي التي تتوقع أن تستقبل طلاب السنة الأولى.
ومع إعلان المعلمين الإضراب قبل عدة أسابيع، تعود نفس المطالب أو نفس الحقوق لتشكل السبب أو الأسباب التي أدت وتؤدي إلى الإضراب، وبالطبع هي نفس المطالب التي طالب بها المعلمون وغيرهم من العاملين وبالأخص في مؤسسات التعليم العالي، في الإضرابات السابقة، وفي هذا الوضع، هناك العديد من الأطراف ذات العلاقة، بدءاً من الحكومة ووزارة التربية والتعليم ورديفتها وزارة التعليم العالي، ومجلس التعليم العالي، ومؤسسات المجتمع المدني، والهيئات الأهلية والقطاع الخاص وغيرهما من المهتمين في الشأن العام في بلادنا.
ومن غير المتوقع أو المنطق أن يجادل أو أن يشكك أحد بعدالة حقوق ومطالب المعلمين المتراكمة منذ سنوات، الذين يخوضون إضراباً متنوعاً ومتصاعداً منذ عدة أسابيع، وما رافقه من إشكالات ومن تداعيات وتصريحات وما الى ذلك. ومطالب المعلمين نقابية حياتية معيشية، تدخل بل تؤثر في صلب حياة ان لم يكن جميع المعلمين أو غالبيتهم، وبالتالي فتحقيق مطالبهم المشروعة والعادلة والمنصفة، والتي هي ليست بالكبيرة أو بالمعقدة، سوف يؤثر على المعلم وعائلته، وعلى إنتاجه أو على عطائه، وعلى العملية التعليمية والتربوية، التي يتحدث الجميع هذه الأيام عن أهمية تطويرها النوعي والجذري والشامل والمستدام، بل وسوف يؤثر على نظرة المجتمع إلى التعليم، وفي نفس الوقت مدى عطاء التعليم والمعلم نحو المجتمع وتنميته وتقدمه.
وتحقيق مطالب المعلمين يشمل غلاء المعيشة، وتحقيق العلاوات الأخرى، أو ما يتعلق بالراتب الأساسي، أو تعليم أبناء المعلمين، أو فيما يتعلق بالترقيات والدرجات واستخدام معايير الكفاءة والتقييم والنزاهة في ذلك، أو من ناحية نزاهة وشفافية وحياد العملية الديمقراطية داخل الأطر النقابية الخاصة بالمعلمين، حيث إن تحقيق هذه المطالب من المفترض أن يكون تحصيل حاصل ولا يستدعي المماطلة والعناد والتلكؤ وسرد الحجج والأسباب، وفي نفس الوقت، لم يكن ذلك يستدعي الإضراب والمناكفات والتشاحنات وخسارة مئات الآلاف من الحصص، والأهم الخسارة المعنوية للعملية التعليمية ولأطرافها، في أعين الطلاب والإعلام والمجتمع،
ولكن السؤال الأهم هو لماذا تصل الأمور إلى حد الإضرابات وتعطيل العمل، وبدء عملية شد الحبل بين الأطراف، مع ان هذه المطالب مشروعة، وبأنه كان من المتوقع أن يصل الوضع الى ما وصل إليه، فلماذا لم توجد آليات للتنسيق وللتشاور، وبالتالي استكشاف الإمكانيات ووضع التصورات وبهدوء وبعيداً عن التهدديات والبيانات والإعلام؟ وبالتالي الخسائر المتراكمة، ولماذا لا يتم المبادرة إلى تنفيذ الاتفاقيات أو حتى مناقشة المطالب أو حتى عقد الاجتماعات بدون الوصول إلى هذا الوضع من إضرابات وشل عمل المدارس والعملية التعليمية؟
وفي هذا الإطار، لا عجب أن توفير حلول جذرية للعملية التعليمية، وفي مركزها قضايا وحقوق المعلمين، شكّل ويشكل الأساس لتنمية وتقدم المجتمعات، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، هو ما حدث ويحدث في دولة مثل تركيا من تقدم وتطور وبأنواعه المختلفة، ولا عجب اذا علمنا أن حصة «التربية والتعليم» في تركيا، تشكل البند الأول من ميزانية الدولة، أي أن أعلى حصة من مليارات الميزانية يتم تخصيصها الى «التربية والتعليم» وبالطبع المعلمون هم الأساس في عملية التربية والتعليم، وما ينطبق على «تركيا» ينطبق على الكثير من الدول، القريبة والبعيدة عنا، والتي حققت وتحقق نمواً وتقدماً مستداماً.
وبدون الخوض في تفاصيل بنود الميزانية، وتوزيع نسبها وأولوياتها في بلادنا، وبدون الخوض في تفاصيل الإيرادات والنفقات والمنح والتبرعات، وبدون الخوض في دوامة وتفاصيل العجز المتراكم في الميزانية العامة منذ سنوات، أليس من الممكن مثلاً زيادة نسبة 5% فقط في ميزانية التربية والتعليم، أوَليس من الممكن اقتطاع هذه النسبة مثلاً، من ميزانيات او بنود أخرى في إطار الموازنة العامة؟ وإن لم يكن ذلك ممكناً، أليس من الممكن زيادة الإيرادات بشكل منصف وترشيد النفقات وبشكل عقلاني من أجل الحصول على هذه الزيادة في ميزانية التعليم؟
أليس من الممكن وبعيداً عن المانحين والدول المانحة والقروض، الاستثمار في قطاعات إنتاجية من قبل الحكومة أو بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص؟ سواء في الزراعة أو الصناعة أو السياحة، من اجل زيادة نسبة ميزانية «التربية والتعليم»؟ ولتكن هذه الزيادة وبشكل أساسي لتلبية الحقوق والالتزامات المنصفة نحو المعلمين، اي بمعنى آخر، ألا تستطيع الحكومة وبالشراكة مع المعلمين او مع من يمثلهم، العمل لإيجاد حلول جذرية مستدامة، لتلبية حاجات قطاع هام وربما من أهم القطاعات، ألا وهو قطاع المعلمين؟
وهناك دروس يجب الاستفادة منها من إضراب المعلمين الحالي وغيرها من الإضرابات. ربما يكون من أهم الدروس المستفادة، هو خطورة وعدم المنطق في الإقصاء، او الإهمال، أو التغاضي عن هذا الطرف أو هذه الجهة، وبغض النظر عن حجم الطرف أو الجهة، أو عن الآلية التي وصلت بها، وبالتالي عدم التعامل مع واقع أو مع أوضاع مستجدة، أو القبول بها، وصحيح أن هناك إجراءات وعملية انتخاب وبالتالي أجسام تتمتع بالشرعية أو بالتمثيل الشرعي حسب القوانين، ولكن وحين تختار الهيئة التي انتَخبت أو أوصلت هذه الأطر التخلي عنها أو فقدان الثقة بها، وبالتالي فإن الإقصاء أو عدم المقاطعة، يعني وبشكل آخر الإهمال أو محاولة الإذلال، وهذا لم ولن ينجح، سواء في الماضي أو في هذه الأزمة أو في أزمات أخرى، ربما تكون أكثر تعقيداً وشمولاً.
ومن الدروس التي أفرزنها أزمة إضراب المعلمين الحالية، هو أهمية وجود قنوات التواصل الواضحة والشفافة، سواء بين أطراف الأزمة المختلفة، او بين الأطراف والمجتمع او الناس ومنهم أولياء الأمور، وأظهرت هذه الأزمة مدى خطورة غياب أدوات التواصل الفعال والواضح مع الناس، سواء من قبل الحكومة أو من قبل المعلمين أو من قبل وسائل الإعلام أو الاتحادات النقابية، لأنه وان سأل الكثير من الناس لماذا أزمة الإضراب استمرت لهذه الفترة الطويلة، فإنك سوف تحصل على إجابات مختلفة ومتضاربة وحائرة، وهذا يوحي بعمق أزمة الثقة او عدم التصديق بهذه الجهة او تلك.
وفي ظل الدروس بعيدة المدى التي أظهرتها أزمة إضراب المعلمين، فالمطلوب التحرك السريع لدراسة الأسباب التي آلت بنا الى هذا التشرذم المجتمعي والاجتماعي، والتي أوصلتنا الى مرحلة من العناد الضيق الذي وفي أحيان كثيرة لا يمكن فهمه، والمطلوب كذلك البدء بنقاش مجتمعي شامل حول العدالة الاجتماعية أو حول توزيع الإمكانيات والمصادر المتوفرة، لأن استمرار غياب نوع من العدالة الاجتماعية، وبغض النظر عن الأسباب أو عن الإمكانيات والمصادر، فهذا الغياب سوف يؤدي إلى تراكمات وإحباطات وضغوط، قد تصل الى الحد الذي وصلت إليه الأزمة الحالية، وربما أخطر وأوسع.
وفي بلادنا، فإننا نعرف أن التعليم، بدءاً من الصفوف الأولى وحتى التوجيهي، يشكل جزءاً أساسياً من حياتنا، وان الإقبال على التعليم شكّل فخراً للكثير من الأفراد والعائلات، وأن نسبة الأمية في بلادنا تكاد لا تذكر بالمقارنة مع دول في محيطنا، وبالأخص عند الأجيال الحالية، وبـأن هناك اكثر من مليون طالب يلتحقون بالتعليم المدرسي، وبـأن هناك حوالي 40 ألف معلمة ومعلم، يبذلون جل جهودهم من أجل العطاء وتربية الأجيال، رغم القيود وضعف الإمكانيات والأولويات والمصادر المتاحة.
ولكن، ومع الإدراك الذي لا يجادل فيه أحد لأهمية التعليم والمعلمين، أليس من المجدي العمل لإيجاد حلول جذرية، مستدامة، عادلة، وتلقى قبول الناس والمجتمع، لقضايا المعلمين، وبالتالي العمل الحقيقي من أجل تطوير العملية التعليمية برمتها، نحو الإبداع والتفكير والريادة، ونحو مواكبة حاجات وقضايا المجتمع، أسوةً بما قامت وتقوم به دول كثيرة، ومنها من لا يملك الإمكانيات والمصادر والأموال الكثيرة والأهم الكفاءات البشرية الهائلة التي نملك.