عجزت عن الكتابة عن موضوع آخر، فلا يزال الحزن يكبلني بعد اغتيال شيرين أبو عاقلة، وانت لا تستطيع أن تلحق اسمها بأي تعريف يليق بها، ولكن الاسم مفردا اصبح معروفا ويكفي ذكره لتفهم الكثير وتشعر بغصة في قلبك، ولذلك فقد أعلنت عجزي عن التوقف عن التفكير في كل ما حدث، حتى قال لي ابني محاولا أن يهون علي: ماذا تتوقعين يا أمي لمراسلة حربية تحمل روحها على كفها؟
وهكذا رحلت شيرين لأنها كانت تحمل روحها على كفها فعلا، وتركت خلفها حكايات صغيرة، وكأن ما حدث وما عاشته عبارة عن خرزات صغيرة ملضومة ومضمومة في عقد طويل ولا يمكن أن تتفرق حبة واحدة عن أختها، هكذا هي قصص الكفاح وروايات التاريخ تترابط وتتشابك، واليوم، مع رحيل شيرين أبو عاقلة اكتشفت الحكايات الصغيرة خلال جنازتها ومراسم تشييعها الممتدة والطويلة والمميزة والمؤلمة.
وقفنا طويلا عند مشهد قنص شيرين تحت الشجرة، واستعدنا مشهد قنص الطفل محمد الدرة قبل ذلك بسنوات كثيرة والذي كان سببا في تفجر انتفاضة شعبية عارمة، وتوقفنا عند مشهد التشييع ومحاولة الإطاحة بالتابوت المحمول على الأكتاف، وفي مشهد القنص ظهرت زميلتها ورأينا الخوف والرعب والحزن والألم على وجهها وهي ترى زميلتها وصديقتها مكومة بلا حراك إلى جوارها، ولكنها لا تجرؤ على التقدم نحوها ومساعدتها أو حتى التيقن من حجم إصابتها.
بالطبع، خرجت الزميلة شذا حنايشة من هذه التجربة بعذاب لا يوصف، حاولت الزميلة الأخرى والأقرب إلى شيرين وهي بنت جيلها جيفارا البديري أن تقلل من وقع الصدمة وربما تأنيب الضمير عليها وهي تواسيها بكلمات كثيرة، ولم تستطع أن تقلل من صدمتها فعلا وهي ترى الموت حاضرا على بعد خطوات منها.
في مشهد حملة التابوت أو النعش وبعد أن رأينا محاولات الشبان لكي لا يسقط النعش على الأرض وهم يصرون على أن تبقى شيرين عاليا وشامخة حتى آخر لحظة، وهي تمشي إلى محطتها الأخيرة، رأينا حكاية صمود مختصرة مثل كل حكايات هذا الشعب، ولكن بعد قليل بدأنا نسمع الحكايات الصغيرة عن أسماء بعض هؤلاء الشباب وبعض فصول نضالهم وهكذا أخذنا مشهد صغير سريع إلى قصص تشعبت وتفرعت وكأنك تلعب على رمل الشاطئ بأصبعك فتشق طريقا ثم تتبعه طرق ثم تأتي الموجة وتمسح احد الطرق ويبقى آخر وتعود إلى الطريق الأول وهكذا، وهكذا فعلا فالحادثة المفجعة فتحت وشقت حكايات وحكايات سوف تظل محفورة في القلوب وحاضرة في الوجدان الفلسطيني والعربي.
حلت ذكرى النكبة بعد رحيل شيرين بأيام، وظهرت روايات وحكايات كثيرة عن ذكريات الرحيل والتهجير واللجوء والألم والفقدان، وهكذا كانت الذكرى التي غيرت التاريخ الفلسطيني وهي تسطر على صفحة واحدة من صفحات التاريخ هي فاتحة لآلاف الحكايات حتى أن كل عائلة من العائلات المهجرة لديها روايتها، عمن مات وأصيب وفقد وتهجر عن أهله، تخيلوا لو جمعنا هذه القصص الصغيرة لا اعتقد أن مجلدا بحجم هذه الغرفة التي أقبع فيها مع صدمة الرحيل تكفي لكي يوضع فيها هذا المجلد المؤلم لتاريخ شعب يصر على أن يبقى ويصر على أن يوصف دائما بأنه شعب باسل مبهر مهما مضى به الزمن وتغيرت الأحداث ولكن الصفة باقية.
لا اعتقد أن مشهد شيرين تحت الشجرة سوف ينسى من الذاكرة، كما أننا لن ننسى مشهد محمد الدرة في حضن أبيه وهو يصرخ: مات الولد... مات، لم ننس أبدا حتى ونحن نمر بما أصعب وأكثر مرارة، ولكن أبدا لا ننسى وهذه ميزة تخصنا كشعب موعود بالعذاب والنضال، لا يفترق أبدا هذان الشعوران أو الواجبان، أبدا لا يمكن أن نتوقف عند عذاباتنا ولكننا نستمر في نضالنا ووفائنا لأننا شعب ليس ككل الشعوب، أبدا لم ولن نكون مثل كل الشعوب.