يبدو أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، قد تعرّض لإحراجٍ، بشَكلٍ أو بآخر، وذلك حينما أعلن “مُنفردًا” أنه سيزور العربيّة السعوديّة شباط/ فبراير الماضي، وخلال زيارته للإمارات، ولكن المملكة لم تُؤكّد أو تنفي تلك الزيارة، ولم تُعلّق عليها أساساً، وعاد الرئيس التركي بدون أن يزور السعوديّة رغم تأكيده أنه تلقّى دعوةً من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو ما عكس وجود امتعاض سعودي مُتواصل من تركيا، ورئيسها وتعمّد تجاهله، انعكس سلباً على الاقتصاد التركي، وذلك لدعم تركيا العسكري لقطر في أزمة مُقاطعتها الشهيرة، وملف اغتيال جمال خاشقجي.
الرئيس أردوغان كان قد جرى توجيه سُؤال صحافي له بخُصوص حل مُشكلة منع دخول البضائع التركيّة إلى السعوديّة وتعليقها حتى التلف، وتأثيراتها السلبيّة على الصّادرات التركيّة للمملكة، لكنّه وعد بحل تلك المُشكلة خلال زيارته التي لم تتم إلى المملكة.
حجم الامتعاض السعودي من تركيا يبدو كبيرًا، وتبدو القيادة السعوديّة راغبةً بأن تُقدّم أنقرة ما يفتح شهيّة الأخيرة لإعادة فتح باب طاولة العشاء للأتراك، ولعلّ ملف اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، هو مفتاح ذلك الباب، والمُؤشّرات بدأت تلوح بالأفق، كي تُصبح الجريمة من الماضي، مع استغلال المملكة لأزمة أوكرانيا، ورفضها زيادة إنتاج النفط، وخفض أسعاره، والإصرار على اتفاق أوبك+ مع روسيا، مُقابل رفض إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التعامل مع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد لضُلوعه في اغتيال خاشقجي، وملف بلاده المُتراجع بحُقوق الإنسان.
الأنباء القادمة من أنقرة، تُشير إلى أن تركيا تُريد إغلاق ملف خاشقجي، حيث أعلنت المحكمة التي تنظر في مُحاكمة المُشتبه بهم في قتل الصحفي جمال خاشقجي أنها ستطلب رأي وزارة العدل في طلب الادّعاء تعليق المُحاكمة، ونقلها إلى السعوديّة.
الجلسة القادمة والتي من المُفترض أن تكون للبت في قرار النيابة العامّة إحالة قضيّة مُحاكمة 26 من المُتّهمين في قضيّة مقتل خاشقجي إلى السلطات السعوديّة وفي تاريخ 7 إبريل، يُجمع مُراقبون أن وزارة العدل ستبت لصالح نقل المُحاكمة للسعوديّة، وبالتالي إغلاق الملف نهائيّاً إرضاءً للرياض، وعدم الاستجابة لمطالب زوجة خاشقجي خديجة جنكيز، بتحقيق العدالة وجلب المُجرمين وعدم “استسلام” تركيا، والتغاضي عن الأدلّة، ومقاطع الفيديو التي بحوزة تركيا، وجرى اطلاع الاستخبارات الأمريكيّة عليها، وتُثبِت ضُلوع الأمير بن سلمان الشّخصي بأمر الاغتيال.
الرياض أساساً أغلقت الملف، فأعلنت مُحاكمة قتلة خاشقجي، واعتقلت أبرزهم كما قالت مُصدِرَةً بحقّهم أحكاماً بالسّجن، لكن تبيّن وفقاً لصحيفة “الغارديان” أن غالبيّتهم يعيشون في “فيلات فاخرة سبع نجوم”، ويتمتّعون بكافّة مزايا العيش الرغيد، ومن أبرزهم الطبيب الذي قطّع أوصال خاشقجي صلاح الطبيقي، مصطفى المدني الذي لعب دور خاشقجي، ومنصور أبو حسين الذي قاد العمليّة.
وبالتزامن مع نيّة تركيا نقل المُحاكمة للسعوديّة، حيث الأخيرة ترفض عادةً تسليم مُواطنيها للمُحاكمة خارج البلاد في أيّ قضيّة كانت، كما تعتبر أدبيّاتها أن التدخّل في أمورها، اعتداء سافر على الشؤون الداخليّة لدولة مُستقلّة ذات سيادة، وبالتالي حرص أنقرة على استخدام توصيف نقل المُحاكمة للسعوديّة، يُعيد للمملكة اعتبارها المعنوي والسياسي بعد تضرّر سُمعتها ورفض دول الغرب استقبال ولي عهدها، رغم أن الجريمة وقعت في إسطنبول بقنصليّتها، والمُحاكمة غيابيّة لم يحضرها 26 مُتّهماً، ومع ذلك جرى نقلها للسعوديّة، هذا عدا عن التساؤل الذي لم يُجِب عنه أحد: أين هي جُثّة جمال خاشقجي؟، وهل كانت أنقرة تُتاجر بدمائه لصالح تحقيق مكاسب سياسيّة بالنهاية؟
ومع تخلّي تركيا عن ملف قضيّة خاشقجي المُرتقب، ونقل المُحاكمة للسعوديّة، والأهم التوقّف عن النظر في القضيّة، تأتي تصريحات وزير الخارجيّة التركي مولود تشاووش أوغلو بالتزامن، مع إعلانه خطوات “مُهمّة” للتطبيع مع السعوديّة، وليس أهم من ملف خاشقجي الذي أقر الأمير بن سلمان أنه كان سيُطيح بطُموحاته بالإصلاح، وينسف رؤيته للتطبيع التركي مع السعوديّة ونيْل رضاها، كما يبدو أن الوزير أوغلو قد أعاد تذكير نظيره السعودي فيصل بن فرحان بإعلانه زيارة تركيا في وقت سابق لم يجر تحديده، وبرّر عدم حُصول الزيارة “بسبب الزّخم” الموجود في الحراك السياسي.
يحصل كُل هذا، ولم يصدر عن السلطات السعوديّة أيّ تعليق بالخُصوص حتى كتابة هذه السّطور، وسبق أن صمتت الرياض عن التعليق بتأكيد زيارة أردوغان التي أعلن عنها أو نفيها، وهي لم تحصل بكُلّ الأحوال.
السّؤال المطروح الآن بالنسبة للمُراقبين، ليس الموقف التركي من التطبيع مع السعوديّة، فهو موقف انفرط عقده مُنذ لحظة تخلّي أردوغان عن وعوده بخُصوص تسليم المُجرمين للعدالة مهما كانت مناصبهم، وهو هُنا كان يقصد الأمير بن سلمان، وفضح تورّطه بمقاطع الفيديو أمام العالم، وصولاً اليوم لنقل المُحاكمة للسعوديين في ظل سُمعة القضاء السعودي المشكوك باستقلاليّته غربيّاً، المهم الآن هو الموقف السعودي وشكله من هذه التنازلات التركيّة، وهل سيحظى أردوغان بزيارة المملكة، ويلقى استقبالاً حافلاً من الأمير بن سلمان، أم ستبقى دعوات التحريض والمُقاطعة السعوديّة تظهر بين الحين والآخر، داعيةً لمُقاطعة تركيا أردوغان، وسياحتها، ومُسلسلاتها، وبضاعتها، بانتظار تحديد الفائز بانتخابات الرئاسة التركيّة 2023، وبعدها لكُلّ حادث حديث، تساؤلات مطروحة.
الخُلاصة التي يُمكن أن يستخلصها كثيرون في تركيا بعد نقل مُحاكمة مُرتكبي جريمة خاشقجي، وتسليم جميع ملفّاتها، وربّما التحقيقات فيها إلى السعوديّة، إلى أن استقلاليّة ومهنيّة وعدالة القضاء التركي باتت موضع الكثير من علامات الاستفهام.