لم أشاهد النسخة الكاملة لفيلم «صالون هدى» للمخرج هاني أبو أسعد لأسباب تقنية، لكني شاهدت مقاطع من الفيلم المستخدمة من قبل البعض في وسائل الإعلام الاجتماعي المحلي والعربي؛ للتحريض عليه، كافية لفهم السياق وتحديد الموقف منه.
بكل الأحوال أمر طبيعي وصحي أن يختلف الناس في وجهات نظرهم حول أمور وقضايا مختلفة، والسينما سواء أكانت فلسطينية أم سواها تشكل ميداناً خصباً لإثارة النقاش والجدل في أفلام تطرحها للمشاهد. وبالتالي تقييم العمل السينمائي يجب أن يخضع لمعايير نقد علمية وموضوعية لها علاقة بالرسالة والمحتوى والاحترافية في الأداء وجمالية الصورة، وغيرها من الأمور التي هي من أصحاب الاختصاص.
هجوم منقطع النظير على الفيلم من قبل الناشطين على السوشيال ميديا. وبقناعتي إنه ليس كله محقاً، رغم أحقية ما تناولته تلك المقاطع في جوهر ما تناولته من محددات بالنقد، إلا أن الأسلوب المتبع من هؤلاء، عدا غياب منهجية قراءة نقدية فيه، مقزز ومنفر وتحريضي ومشخصن. وأسلوب إثارة المشاعر المتبع في استخدام المقاطع وإيقاظ الغرائز، وتوظيفها في التحريض على معدي الفيلم من مخرج وفنانين وفنانات وإثارة مشاعر العداء ضدهم كأشخاص، وصولاً لرفض فكرة الفيلم والمطالبة بسحبه ومحاكمة طاقمه كمجرمين، بما يمسّ حياتهم. ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل امتد الهجوم لدائرة أوسع لتطال الفنون بشكل عام وتأجيج مشاعر الكراهية ضدها، وهو ما لم يكن أحد بحاجته من أجل إقناع الجمهور بوجهة نظرهم الرئيسة، بل كان الأحرى بهم تركه للمجتمع الفلسطيني الذي يملك حساسية عالية تجاه ثوابته الوطنية والقيمية، وهي كافية من أجل إفشاله وإسقاطه.
صحيح أن القصة التي عكسها الفيلم واقعية وحقيقية، ولم تنبع من خيال مؤلف الفيلم أو مخرجه، لكن الصحيح أيضاً أن مخرجه فشل في إيصال رسالته بوضوح، والسبب عائد برأيي لإخفاقه في معالجة الآفة التي يمثلها العملاء في المجتمع بسبب خيانتهم للقضية وللمجتمع الذي ينتمون له، وبسبب الإيذاء العظيم الذي تسببوا في إلحاقه بالقضية وطهارتها، وبسبب اختراقهم تماسك المجتمع وخلق فجوات الثقة في صفوفه.
ولا نضيف جديداً بالقول: إن تجنيد العملاء ظاهرة قديمة عرفها معظم المجتمعات في العالم، ومن الطبيعي أن يستهدف الاحتلال الإسرائيلي أبناء شعبنا ويقوم بتجنيد العملاء؛ باعتبارهم أعين الاحتلال الخبيثة المتربصة بالوطنيين، وبذل الجهود من أجل الوصول إلى غاياته في الحصول على معلومات مهمة للقضاء على المناضلين وإفشال خططهم في مقاومته، ولقد نجح عبر سنواته الطويلة في تحقيق أهدافه، حيث قدم العملاء خدمات قذرة تسبّبت في اغتيال مناضلين عظماء، والوصول لهم بالقتل أو الاعتقال قبل تحقيق مساعيهم المشروعة في مقاومة محتليهم.
لم يكن المشاهد الفلسطيني بحاجة للفيلم لكشف أسرار التجنيد وآلياته، ووسائل الاحتلال في تحقيق الاختراق من خلال ملامسة الأبعاد الأخلاقية في إضعاف فرائسهم المستهدفة بالإسقاط والتجنيد، والسيطرة عليهم ووقوعهم في مصائده، وتوظيفهم الخبيث لثقافة المجتمع وخصوصياته وفي مركزها المرأة، فمثل هذه الأمور باتت من القضايا التي يعيها المجتمع بمختلف فئاته؛ لأنه يعرف جلاده جيداً ويدرك أهدافه ومراميه الخبيثة في تدمير المجتمع الفلسطيني من داخله.
وقد مثل الإسقاط الأخلاقي أحد الأساليب المتبعة من قبل الاحتلال للإيقاع بالمستهدفين، رجالاً ونساءً، إلى جانب طرائق أخرى منها الإغراء بالمال من جانب أو اللجوء إلى غسيل الدماغ وفكفكة المعتقدات. وقد شكل هذا استغلالاً للرجال والنساء وابتزازاً لهم لتجنيدهم للتجسس على المناضلين، والحصول على المعلومات اللازمة لمهمتهم وإحباط مخططاتهم النضالية، وقد استخدم الاحتلال النساء الإسرائيليات في الإيقاع بفلسطينيين مستهدفين بشكل محدد من أجل استخدامهم في الإيقاع بهم وابتزازهم.
في مطلق الأحوال، فيلم «صالون هدى» مثير للجدل، وهو ليس نهاية الكون، فهو اجتهاد فني من مخرج فلسطيني، اعتقد من خلال فيلمه أنه يقدم خدمة للشعب الفلسطيني، وأنه عبر هذا الفيلم يكشف ويعري الاحتلال ووسائله الخبيثة واللاأخلاقية في الإيقاع بأبناء الشعب الفلسطيني، وإن سقطته القاتلة كانت في مشهد التعري غير المبرر وغير المقبول من قبل فئات واسعة في المجتمع، إن لم نقل من عموم المجتمع، وبالتالي لا يجوز جلده والمشاركين في الفيلم من فنانات إلى حد التحريض السافر، واستخدام عبارات نابية لا تليق بنقد ولا اختلاف ولا تعددية ثقافية أو فكرية.
من حق مَن اختلفوا مع الفيلم أو جزء أو فقرة منه أن يعبّروا عن كامل رأيهم، مستندين إلى معايير وأسباب ومبررات، ومعللين رفضهم بشكل منطقي لا عنجهي، ومن حقهم أن يدعوا الجمهور لمقاطعة الفيلم أو عدم التعاطي معه، ارتباطاً برسالته التي لم تصل بنظرهم. وفي المقابل من حق المخرج وطاقم الفيلم الدفاع عن أنفسهم أيضاً أمام من يتهمهم بأخلاقهم ووطنيتهم، وتوضيح رؤيتهم الفنية والأخلاقية التي تكمن وراء بعض المشاهد المؤذية أو»الهوليودية» التي لا تليق بمجتمعنا ولا تتوافق مع ثقافتنا، والأهم أنها شوشت على الرسالة التي كان من المفترض أن ترسلها إلى الجمهور، وهي من المفترض أن تكون رسالة توعوية وطنية.
بالخلاصة، من حق المخرج أن يُبدع، وأن يقدم رؤية سينمائية متقدمة فنياً وثقافياً؛ لأن السينما عمل إبداعي بالمحصلة، ولكن الإبداع شيء والخضوع لشروط الممول في إدخال أو إسقاط بعض المشاهد على النص شيء آخر، والتي بنظرهم تشد المشاهد أو ترفع من عدد المشاهدين بعيداً عن اتفاقها أو اختلافها مع السياق الدرامي، وبعيداً عن ثقافة الجمهور المتلقي، فهذا أمر كان وما زال مثار جدل بين من يؤيده ومن يختلف معه، ونحن من مدرسة الإبداع في نطاق ما يرفع ويرتقي بوعي المجتمع، ويفتح نقاشاً يثري ثقافتنا ويعزز من نسيج المجتمع وتجانسه، دون أن يلغي بطبيعة الحال حق الاختلاف باعتباره حقاً أصيلاً لا مساومة عليه.