لم تكن المطالب الروسية التي سبقت الاجتياح العسكري لأوكرانيا تعجيزية أو مبالغاً بها. كل ما طالبت به روسيا هو موافقة الغرب على عدم قبول عضوية أوكرانيا في الناتو وإبقاؤها محايدة، عدم تمدد حلف الناتو شرقاً باتجاه الحدود الروسية، ووضع ترتيبات للأمن الجماعي في أوروبا.
هذه المطالب ليست متطرفة كما وصفها الرئيس بايدن، بل منطقية وضرورية أيضا لأن الأمن يجب أن يكون للجميع وليس لطرف واحد بعينه.
عندما سقط الاتحاد السوفيتي وتفكك في العام 1991، اختفى معه أيضا حلف وارسو الذي كان يضم ألمانيا الشرقية وكل دول الكتلة الشرقية التي كانت تدور آنذاك في فلك الاتحاد السوفيتي.
كان من الطبيعي ومن الضروري وقتها أن يختفي أيضا حلف الناتو لأن كلا الحلفين كان نتاج الحرب الباردة التي انتهت بهزيمة الاتحاد السوفيتي.
الأحلاف تتشكل ضد جهات محددة ولأن الجهة التي تشكل من أجلها الناتو قد اختفت فكان لزاما على الناتو نفسه أن يختفي.
لكن الذي حدث كان عكس ذلك تماما. قبل لحظة التفكك، دخل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في مفاوضات بشأن الشروط التي يمكن للأول القبول على أساسها وحدة المانيا الشرقية والغربية، وكان أن اتفق الطرفان أن هذه الوحدة مشروطة فقط في حالة قبول المانيا الموحدة بعدم السماح لقوات الناتو أن تبني قواعد عسكرية في الجزء الشرقي من المانيا الموحدة أو أن تتموضع فيها قوات من خارج ألمانيا. كان هذا هو شرط الاتحاد السوفيتي وهو ما تم كتابةً الاتفاق عليه مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.. الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
الى يومنا هذا، لا تستطيع ألمانيا الموحدة بناء قواعد عسكرية للناتو في الجزء الشرقي منها. لكن الاتحاد السوفيتي انهار قبل أن يتوصل الى اتفاقات بشأن باقي دول الكتلة الشرقية، وكل ما حصل عليه كان تصريحاً من قائد قوات حلف الناتو في ذلك الوقت بأن الحلف لن يقبل في عضويته أي دول من الكتلة الشرقية.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً.. حلف الناتو تمدد باتجاه الشرق رغم التعهد الشفوي السابق: بداية انضمت دول التشيك وهنغاريا وبولندا الى الناتو العام 1999، وبعدها انضمت رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا اليه العام 2004، ثم ألبانيا وكرواتيا العام 2009. جميع هذه الدول كانت جزءا من حلف وارسو بطريقة او بأخرى. استونيا ولاتفيا وليتوانيا مثلا كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره.
روسيا في تسعينيات القرن الماضي كانت في حالة انهيار وهذا لم يساعدها على التصدي لتمدد الناتو. لكن خلال عقدين من الزمان استعادت روسيا بعضا من تماسكها ومن قوتها، وكان ذلك في وقت كانت فيه الولايات المتحدة متورطة في أكثر من حرب (في العراق وأفغانستان) وهو ما شجع الروس على بدء معركة الدفاع عن مصالحهم بداية في جورجيا العام 2008، ومن ثم في أوكرانيا العام 2014، وبعدها بسنة في أوكرانيا مرة أخرى.
أوكرانيا في كل هذا السياق هي ضحية الغرب، دون أن ينسينا ذلك أن روسيا هي أيضا دولة توسعية ومصالحها بالضرورة لا تتقاطع مع مصالح شعوب الدول التي تغزوها او تتدخل عسكريا فيها.
أوكرانيا كانت دولة نووية وقدد اشترطت روسيا والولايات المتحدة من أجل الاعتراف بها كدولة مستقلة تجريدها من قدراتها النووية وهو ما تحقق في تسعينيات القرن الماضي. لكن الغرب الذي يريد لأوكرانيا أن تكون شوكة في خاصرة روسيا وعدها بضمها لحلف الناتو وكان بإمكانها أن تكون عضوا فيه العام 2008 لكن المانيا وفرنسا رفضتا ذلك حتى لا يثيرا غضب روسيا وكانت الذريعة أن أوكرانيا «تقنياً» لم تلبّ بعد شروط عضوية الناتو.
الباب لانضمام أوكرانيا للناتو اذاً بقي مفتوحاً لكن دون أن يسمح الغرب لها بالدخول منه.
في العام 2014 حصلت تظاهرات شعبية في أوكرانيا ضد رئيس منتخب مُوال لروسيا، وهذا على أقل تقدير يعكس حقيقة انقسام الشعب الأوكراني على نفسه بشأن طبيعة العلاقة التي يريدها مع كل من روسيا والغرب، وهو ما يعني أن الحكومة الأوكرانية الجديدة التي تشكلت على خلفية طرد الرئيس الموالي لروسيا والموالية هي بدورها للغرب، لا تعبر عن رأي غالبية الشعب الأوكراني.
كان بإمكان الحكومة الأوكرانية الجديدة أن تعلن الحياد مثل السويد وسويسرا وفنلندا، وكان هذا سيرسل رسالة واضحة للروس ولجزء من شعبها بأنها لن تكون طرفاً في أي صراع بين الروس والغرب، لكنها لم تفعل. الحكومة الأوكرانية اختارت طريق العداء لروسيا والسعي باتجاه الانضمام للناتو.
لو كان الغرب حريصاً على مصلحة الشعب الأوكراني لكان بإمكانه أن يقول للحكومة الأوكرانية «لا يمكنكم الانضمام للناتو لا اليوم ولا غداً ولا بعد عشر سنوات.. حيادكم مصلحة لكم.» لكن الغرب اختار توريط أوكرانيا في صراع مع روسيا، فهو من جهة لم يرفض طلب عضوية أوكرانيا للناتو، ومن جهة أخرى لم يقبلها. لو قبلها لما تمكنت روسيا من اجتياحها لأن الغرب سيضطر حينها للتدخل العسكري للدفاع عنها. لماذا إذا قام الغرب بما قام به؟
قناعتي أن الغرب لا يكترث لا بأوكرانيا ولا بشعبها.. كل ما يهمه هو استنزاف روسيا وإضعافها.. القيادة الأوكرانية «الغبية» ساعدتهم على تحقيق ذلك على حساب دماء شعبها. الغرب لا مشكله لديه في مساعدة اللاجئين وفي تقديم السلاح طالما أن ذلك يستنزف خصمه ويضعفه.
ليس هذا جديداً على الغرب فهو قد فعل ذلك سابقاً في سورية عندما لم يرغب في وصول أي من الجماعات المسلحة فيها للسلطة ولم يرغب في نفس الوقت بانتصار النظام.. كانت سياسته «دعهم يقتلون بعضهم البعض».
اليوم هذا هو ما يجري في أوكرانيا باختلاف بسيط، وهو ان الغرب سيكون سعيدا طبعا بانتصار نظام زيلنسكي، لكن المشكلة الوحيدة، أن هذا النظام لن يتمكن من الانتصار أمام قوة عملاقة مثل روسيا، وكل ما بإمكانه أن يفعله هو أن يستنزف روسيا لعله ينتصر عليها على المدى البعيد، وهو بالضبط ما يريده الغرب أو لنقل المهمة التي يريدها الغرب من نظام زيلنسكي.