تقرّ العديد من دوائر صنع القرار الغربي وخاصة الأمريكي أن الزعيم الروسي فلاديمير بوتين شخصية غامضة وإن كانت تتسم بالبرود والعناد وشدة الانضباط، وهو ما يفسّر أحيانا غياب التنبؤ بتصرفاته وسياساته .. فتارة تجده بابتسامة عريضة يلتقي الزعماء الغربيين وينسج علاقات جيدة معهم بشكل يوحي بدبلوماسية فذة وروح تعاونية عالية .. وتارة تتأزم العلاقات للدرجة التي يطفو معها شبح الحرب الباردة. وربما هو فعلاً الشخص الذي لديه القدرة أن يكون في عينيك ما تريده أن يكون كما قال “خوردوفسكي” أغني رجل في روسيا حتى زجّ به بوتين في السجن في العام 2003 في صراع تقليدي بين السلطة والمال في النظم الشمولية ..
حين اعتلى بوتين سدة الحكم في روسيا بعد بوريس يلتسين، بدا منفتحاً على الغرب الذي اعتقد أنه سيكمل مسيرة تغريب روسيا كما فعل سلفه من قبل، لكن الضابط الشاب كان مسكوناً بتاريخ امبراطوري ومجد عريق. فقد سعى إلى رسم مسار جديد مختلف لروسيا مرتكزاً على قناعاته الشخصية ورؤيته العالمية وحاجة الكثير من الروس الى عودة الكبرياء الوطني. وضع بوتين نصب عينيه ثلاثة أهداف مركزية يريد تحقيقها : بناء روسيا التي ضاعت كرامتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وإعادة تموضعها كقوة عالمية ، والقبضة الحديدية على الحكم . وخلال 22 عاماً من الحكم، استطاع بوتين أن يحقق أهدافه الثلاثة بدرجات متفاوتة وبشهادات أشد منتقديه. ويعد الاطار الفكري الذي يعتنقه، والعقيدة التي يؤمن بها وصفاته الشخصية هي السبب المباشر لسياسات روسيا اليوم..
وصف بوتين لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي بأنها أكبر مأساة في القرن العشرين، وحينها لم يستبدل في مكتبه كالآخرين صور زعماء الشيوعية بصور بوريس يلتسين الرئيس الجديد، وإنما بصورة للامبراطور “بطرس الأكبر” أحد أهم القياصرة الروس الذي أضحت في عهده الامبراطورية الروسية قوة أوروبية لا يستهان بها. بطرس الأكبر وحسب المؤرخين كان يجمع صفات متناقضة تتراوح ما بين العنف والذكاء والشجاعة والانتقام!
قدرته على التكيف مع متغيرات القوة العالمية سمة بارزة في فلاديمير بوتين، جعلته يصبر على ابتلاع مرارة الانهيار، وعلى تجاهل أمريكا وأوروبا للمصلحة الروسية /خلال التسعينات/ أثناء تأسيس هيكل النظام الاوروبي الحالي . ترسخت قناعاته مع مرور السنوات بنظرية المؤامرة الغربية بعد غياب التزام الولايات المتحدة بتعهداتها بعدم ضم أي من دول الاتحاد السوفيتي السابقة الى حلف الناتو، حسب القول الشهير لوزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت جيمس بيكر: “لا بوصة واحدة شرقاً ” في اشارة الى عدم نية واشنطن الاقتراب من المصالح الروسية. وعليه كان الدبّ الروسي يزداد استشعاراً بالخطر والمرارة مع كلّ دولة سوفييتية سابقة تنضم الى الحلف.
بوتين أو بطرس الجديد .. يرى روسيا من خلال عيني بطرس الاكبر، قرأ التغيرات على المسرح العالمي وقرر أنه الوقت للعودة الى المجد الروسي، فاختلطت العظمة والطموح بالحسابات السياسية والواقعية، واعتبر أن استمرار السكوت على التمدد الغربي شرقاً خيانة لمعتقداته ولتصوراته عن روسيا العظمى التي لها الحق مثل باقي الدول الغربية في الحفاظ على مصالحها الحيوية ضمن فضائها الحيوي، الذي يحدده الزعيم الروسي بالدول المحيطة به، أي أنه لن يسمح أبدا لأوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا بالانضمام الى حلف الناتو مهما كلّف الأمر من خسائر على المدى الطويل ..
في 12 يوليو 2021 نشر بوتين مقالاً مطولاً باللغة الانجليزية على موقع الكرملين بعنوان : “الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين” ، يصف فيه الروس والاوكرانيين والبيلاروس بأنهم شعب واحد أو كما عرف أيام الامبراطورية الروسية بالأمة الروسية الثلاثية .. لا يوجد في مقال بوتين اشارة واحدة توحي باعترافه باستقلال أوكرانيا !!
كاتبة فلسطينية