الفلسطيني في مواجهة “الأسرلة” وغياب الرؤية الموحّدة..

الإثنين 07 مارس 2022 10:22 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الفلسطيني في مواجهة “الأسرلة” وغياب الرؤية الموحّدة..



بقلم أ.د. مـحـمـود وتــد ولينـا أبـو هـلال:

مرّت سبعة عقود على احتلال فلسطين، سبقها عقدان ونصف من الانتداب البريطانيّ الذي مهّد للمحتلّ اقتلاع الفلسطينيّ من بيته وأرضه وجَعلَ منه لاجئًا في وطنه، ومشتّتًا في كلّ بلدان العالم. فعلى مساحة جغرافيّة تبلغ (27.009) كيلومترًا مربّعًا، يعيش ما يقارب سبعة ملايين فلسطينيًّا داخل وطنه المحتلّ، وسبعة ملايين نسمة في دول العالم. غير أنّ القضية الفلسطينية بقيت تنتزع الحياة من جذور الأرض، وبقيَ الفلسطيني مستمرًّا في الدفاع عن حقّه المشروع في وطنه، ولم يتوقّف صموده منذ احتلال فلسطين عام (1948)، وإن تخلّل هذا الصمود تراجعًا في طابعه الوطنيّ في ظلّ تفرُّد الحركات والأحزاب السياسية الفلسطينية باتّخاذ قرارات مصيرية بذريعة تحصيل الحقوق الوطنية والمدنية.

وبدعوى تحصيل الحقوق الوطنية والمدنية، توّرطت القيادات الفلسطينية، المتمثّلة في الحركات والأحزاب ومنظمة التحرير، باتّخاذ قرارات سياسية ترتّب عليها واقع سياسي وإنساني ستدرك عواقبه الأجيال الحالية والقادمة؛ والتي كان في مقدّمتها قرار الحركات السياسية في أراضي (1948) بالانضمام لبرلمان الكيان الصهيوني “الكينيست” بذريعة تحصيل الحقوق المدنية، ومن ثمّ توقيع منظّمة التحرير الفلسطينية اتّفاقية “أوسلو” في عام (1993) التي نصّت على  تنازل ضمنيّ عن أراضي (1948) والتخلّي عن الفلسطيني هناك، حيث لم تتناول الاتّفاقية من خلال بنودها مصير فلسطينيّي(1948) لتعمّق الانقسام وتهدّد النسيج الاجتماعي الفلسطيني. فجاءت اتفاقية “أوسلو” ببنودها بدون رؤية استشرافية وبذريعة تحصيل حقّ الفلسطيني بالعودة إلى وطنه وتأسيس دولته على أراضٍ لم تتنازل عنها الحكومات الصهيونية المتتالية منذ “أوسلو” وحتّى اليوم، ومن ثمّ قرار حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بالمشاركة بالانتخابات التشريعية تحت  سقف “أوسلو” في عام (2006) رغم معارضتها لهذه الاتفاقية، لتفوز الحركة بالأكثرية كردّة فعل للفلسطيني ضدّ الفساد الذي تمارسه السلطة الوطنية الفلسطينية والمتمثّلة بحركة فتح، لينتج عن هذا الفوز الانقسام السياسيّ بين رام الله وغزة، وعزل الفلسطيني في غزة عن كافة أرجاء الوطن المحتلّ. ولم تتوقّف الأحزاب والفصائل والحركات السياسية الفلسطينية عند هذا الحدّ من التهاون بحجة انتزاع الحقوق، بل وصل الأمر بالحركة الإسلامية المتمثّلة بالقائمة العربية الموحّدة في أراضي الـ (1948) إلى الانضمام إلى حكومة الكيان في عام (2021)، والتصويت مع وضد القرارات التي ترمي إلى سلب المزيد من الحقّ الفلسطينيّ، وتهديد نسيجه الوطنيّ على امتداد الخارطة التاريخية.
وفي ظلّ تهاون القيادات الفلسطينية وانزلاقها تحت المظلّة الصهيونية، يستمرّ الاحتلال بتنفيذ مخطّطاته، وبشكل متسارع لتطال طمس الهويّة وتغيير معالم المدن والقرى، بالإضافة إلى وضع مزيد من القيود على السكن والبناء، والتطاول على المقدّسات والمعالم الإسلامية والمسيحية، وتفريغ القدس من الفلسطينيين، إدراكًا من المحتلّ بأنّ الخطر الديموغرافيّ قد يحول دون تحقيق استمرارية دولته اليهودية.
وللتصدّي للخطر الديمغرافيّ، شرع الاحتلال إلى تمزيق النسيج الفلسطيني من خلال تقسيم الفلسطينيين جغرافيًّا وإداريًّأ إلى أربعة أقسام وهي: الضفّة الغربية، القدس، أراضي (1948) وغزّة. كما عمد الاحتلال إلى اختيار مواقع استراتيجية للمستوطنات في الضفّة الغربية تهدف إلى تفكيك الضفّة الغربية جغرافيًّا، وبناء جدار الفصل العنصريّ، وفرض قيود على الحركة والتنقل، واجراءات معقّدة تحول دون حصول العائلات الفلسطينية على لمّ شمل. وكلّ ذلك بحجج أمنيّة يتّخذها الكيان كذريعة لإقناع المجتمع الدولي بشرعية الدولة اليهودية، ولكي تبرهن للمستوطنين اليهود أنهم يعيشون في دولة آمنة، وأنّ الأمن هو أهمّ أولويّات عمل الحكومة. هذه الاجراءات مجتمعة أخذت تبتلع الترابط الفلسطينيّ المجتمعيّ يومًا بعد يوم مثلما ابتلعت أراضيه، فأحدثت شرخًا عميقا في التواصل والترابط بين أبناء الوطن المحتلّ، رافقتها “مصطلحات التفرقة” التي جاءت بعد اكتمال جدار الفصل العنصري لتُعمّق التفرقة وتهدّد القضية.
وتبدو المؤشّرات التي تنبئ بانزلاق الفلسطينيين على امتداد خارطتهم التاريخية في فخّ تمييز بعضهم عن بعض أكثر وضوحًا، وذلك من خلال تبنّي مصطلحات تخصّ لون البطاقات الشخصية (زرقاء أو خضراء) ونوع جواز السفر(فلسطيني، أردني، وإسرائيلي)، والمنبثقة من التقسيم الإداري الذي يلزم الفلسطيني بالخضوع إلى اجراءات مدنية متباينة بناءً على التقسيم الجغرافيّ.
ولم يتوقّف الأمر عند حدود تبنّي المصطلحات المشبعة بالثقافة الصهيونية تارة وبالإسرائيلية تارة أخرى فحسب، بل تجاوز ذلك بكثير من خلال ممارسات تُنذر بأنّ النسيج الاجتماعيّ، الذي لم يتبقَّى للفلسطينيّ سوى التمسّك به في معركة دفاعه عن قضيّته، قد يشهد تهديدًا وواقعًا جديدًا، في السنوات القليلة القادمة، ألا وهو ثقافة “الأسرلة”.
الأمن والمال؛ هما مفاتيح “الأسرلة”، وأهمّ الذرائع والأدوات لتورّط الفلسطينيّ، أينما وُجِد، بمفاهيم الصهيونية-الاسرائيلية، ممّا مكّن المؤسّسة الصهيونية المهيمنة مادّيًّا على دول ومؤسّسات العالم، بتقديم الإغراءات المتنوّعة لتهويد القضيّة الفلسطينية وإيقاع الفلسطينيّ في فخّ “الأسرلة” داخل فلسطين وخارجها، من خلال مأسسة الفكر الصهيوني، والخروج بخطاب فلسطينيّ جديد، ورواية فلسطينية جديدة من إنتاج صهيونيّ، حيث ينشرها الفلسطينيون من المفكّرين ورجال الأعمال والعلماء من مواقعهم الوظيفية والتجارية المختلفة في فلسطين والعالم.
إنّ ما تشهده الدول العربية من حروب ودمار وفساد وفقر وإهمال لقيمة الإنسان، إضافة إلى الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والتقسيم الإداري للفلسطينيّين، والتناحر بين الأحزاب والحركات السياسية التي تمثّل الفلسطينيّين جميعًا، تساهم في جعل قسم من الفلسطينيين أدوات “للأسرلة” مقابل الحصول على امتيازات وظيفية ومادية تحت مظلّة ثقافة المؤسّسة الصهيونية.
إنّ كلّ محاولات تهويد القضية الفلسطينية ومحاولات “الأسرلة”، لم تنَل من قناعة “الفلسطينيّ الحرّ” بأنّ فلسطين التاريخية هي وطنه المحتلّ من البحر إلى النهر، والذي لا يمكن التنازل عنه. فجاء صمود أهالي النقب وحيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلّة، والهَبّة الأخيرة في أراضي (1948)، ليثبت الفلسطينيّ، فَشَل كلّ محاولات سلخ انتمائه، ودمجه في المجتمع الإسرائيليّ والفكر الصهيونيّ، وطمس هويّته الوطنية. وليثبت بأنّ معركة وجوده لن تهزمها الاتّفاقيات والمعاهدات وعضويّة “الكينيست”، حتّى لو تواطأت ضدّه كلّ دول العالم، بما فيها دول عربية هرولت نحو التطبيع كمصر والأردن، وتبعها كلٌّ من الإمارات، والسودان والمغرب والبحرين.
لقد أثبت الفلسطينيّ وعلى امتداد خارطة وطنه التاريخية بأنّ محاولات تمزيق نسيجه الاجتماعيّ والجغرافيّ من خلال تثبيط عزيمته وصموده قد فشلت. وأن المراحل السياسية المصمَّمة صهيونيًّا، والتي أحدثت الكثير من الإرباك وخيبات الأمل في الصفّ الفلسطينيّ الموحّد، لم تنَل من وحدة الثقافة والانتماء؛ فما زال الفلسطينيّ داخل وخارج حدود وطنه متمسّكًا بحقّه في الأرض. وما زال العَلَم الفلسطينيّ الذي رفعه الفلسطينيّون لأوّل مرّة عام (1917) كإشارة للحركة الوطنية الفلسطينية؛ يوحّد (14) مليون فلسطينيًّا داخل الوطن وفي كلّ بقاع الأرض، يهدّدون استقرار سبعة ملايين صهيونيًّا يستوطنون أرض فلسطين، ممّا يعزّز صحّة نظرية الباحثين الذين يعتبرون “قانون يهوديّة الدولة” خطأً استراتيجيًّا يهدّد النسيج الاجتماعيّ الصهيونيّ، والذي من شأنه أن يُفشل كلّ مخطّطات الكيان الصهيونيّ التي رسمها وحرص على تنفيذها منذ أكثر من قرن في معركته ضدّ الفلسطينيّين.
إنّ التصدّي لبرامج “الأسرلة” داخل فلسطين والهيمنة الصهيونية على العالم، وإفشال محاولات عصابات “اللاسامّية الجديدة” من المستوطنين الصهاينة بمهاجمة بلدات الضفّة، على غرار ما حدث إبان نكبة (1948)، يتطلّب من كلّ فلسطينيّ داخل وخارج وطنه تحمّل مسؤولياته الوطنية، وعدم الانزلاق في خنادق الصهيونية بذرائع من شأنها تهويد القضية واستبدال الرواية الفلسطينية وضياع حقوق الأجيال القادمة. وللتغلّب ما تمّر به فلسطين من تمزُّق جغرافيّ وتقسيم إداريّ وانقسام سياسي، يوجب التكاتف الفلسطينيّ، ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، لإنقاذ الهويّة، ولتحصين صمود الأجيال القادمة وحماية قضيتهم، من خلال التربية الوطنيّة أولًّا، وتأسيس لجنة وطنية عليا تتمّسك بحلّ الدولة الواحدة، عبْرَ رؤية فلسطينية توّحد الـ (14) مليون فلسطينيّ في فلسطين والعالم.
مـحـمـود وتــد: استاذ جامعي في الولایات المتحدة
لينـا أبـو هـلال:  كاتبة  فلسطينية من القدس