هآرتس- بقلم: ألون بنكاس- تجذرت في الأسبوع الماضي إحدى المقولات التي لا أساس لها والأكثر غباء بخصوص سياسة الغرب إزاء روسيا. كثير من “فيلدمارشالات” لوحات الطباعة والأستوديوهات في الولايات المتحدة وإسرائيل قرروا أن تكون هذه السنة هي سنة 1938، وقرروا أن يكون بوتين الذي اعتبر عبقرياً نادراً في سماء التاريخ هو هتلر، لذلك لا مكان للمصالحة، بل ليس هناك سوى الحرب. إذا أعلن الرئيس بايدن والناتو بأنهم لن يتدخلوا عسكرياً في أوكرانيا، فإنهم عملياً تنازلوا مسبقاً وتركوا أوكرانيا وحدها، كما يقول النقاد.
عقوبات؟ أضحكتمونا. عقوبات يعني ضعفاً وتردداً. الغرب متصالح ومحرج أمام تصميم بوتين، والعقوبات لن تحسم الحرب في أوكرانيا. الفرقة 82 الأمريكية يجب أن تهبط في كييف، وصواريخ الناتو يجب أن توجه نحو موسكو. أقل من ذلك، هم يعلنون انتصار بوتين.
هذا هو بوتين نفسه الذي أخطأ في تقديراته الاستراتيجية الأربعة الحاسمة؛ فقد أخطأ بخصوص تصميم الولايات المتحدة، وأخطأ بخصوص وحدة الناتو، وأخطأ بخصوص سهولة القيام بعملية عسكرية في أوكرانيا، وهو يخطئ بخصوص الضرر والدمار جراء العقوبات المفروضة عليه. وهو الآن يدعو إلى “الاستعداد” في أوساط القوات النووية في روسيا. بوتين يريد نوعاً من السيادة العليا على أراضي الاتحاد السوفييتي السابق، ومجال نفوذ مهيمن على أراضي حلف وارسو السابق. وهي أهداف لم يحققها.
المجال الجوي لأوروبا كلها أغلق أمام روسيا. حتى تلك السفينة التي تحمل مئات السيارات وأبحرت من ميناء لوهافا في فرنسا، أوقفها الأسطول الفرنسي في القناة الإنجليزية “ذي مانش” لأنها مملوكة بصورة غير مباشرة لروسيا. ويحظر على عشرات البنوك والشركات في روسيا عقد صفقات مع مؤسسات مالية غربية، وهذه المؤسسات منعت من الوصول إلى مؤسسات مالية ومن التحويلات أو عقد صفقات مع روسيا، حتى بواسطة طرف ثالث. في موازاة ذلك، وأكبر شركة في العالم للشعيرات والرقائق الناقلة “تي.اس.ام.سي” التايوانية، أعلنت بأنها تلتزم بالعقوبات وستوقف بيعها لروسيا. موسكو تنتج ربما طائرات حربية ومنظومات صواريخ متطورة، لكن رقائق كهذه لا تعرف كيفية إنتاجها.
تايوان تنظر إلى الأزمة الأوكرانية بصورة مشابهة للولايات المتحدة: ضعف أمام محاولة روسية لتحدي وتغيير نظام الأمن الأوروبي، وفعلياً بنية النظام العالمي الذي يعني أن الصين ستسلك سياسة مشابهة في شرق آسيا. فتايوان هي أوكرانيا المحيط الهادئ من حيث نوع الأزمة ونموذجها.
بعد ذلك، جاءت العقوبات الثقيلة؛ فقد أعلن البنك المركزي الأمريكي، فيدرال ريزيرف، والبنك المركزي الأوروبي “إي.سي.بي”، الخميس، أنهما سيفرضان عقوبات على البنك المركزي الروسي. هذه خطوة دراماتيكية إلى درجة أن هناك من يتحفظون ويحذرون من أن الضرر المحتمل الذي سيقع على اقتصاد روسيا سيكون أعمق وأطول بكثير مما كان الغرب ينوي أو مما هو مرغوب. والهدف تغيير اعتبارات التكلفة – الربح لبوتين أو للدوائر المحيطة به، وليس تدمير روسيا.
يضاف إلى ذلك الفصل من نظام “السويفت” الذي هو منصة تحويل المعلومات والبيانات والطلبات المطلوبة لتحويلات مالية بين البنوك. اعتبر هذا الفصل بمصطلحات عالم العقوبات (أجل، يوجد عالم ومهنة كهذه) كسلاح يوم القيامة، وكقنبلة نووية للعقوبات، إذا تم إلقاؤها بصورة شاملة وساحقة. بدون ربط بمنظومة السويفت، التي تضم في عضويتها حوالي 11 ألف بنك في العالم، ليس هناك فعلياً أي نشاط بالعملة الأجنبية يمكن لفرد أو شركة أو بنك أو دولة تنفيذه. الولايات المتحدة وبريطانيا ألزمت بفصل روسيا عن المنظومة من اليوم الذي غزت فيه أوكرانيا.
أما ألمانيا وإيطاليا وقبرص فتحفظت. السبت، أعلنت هذه الدول، مع هنغاريا برئاسة فيكتور اوربان، وهو صديق وحليف لبوتين، بأنها ستدعم هذه الخطوة. رداً على خطاب بوتين الذي يشخص الطموحات الإمبريالية والعدائية، كان المستشار الألماني أولاف شولتس قد ألقى خطاباً لم يسمع منذ فترة طويلة في أي عاصمة غربية، بما في ذلك واشنطن.
يجدر في سياق القرار الانتباه إلى قبرص، حيث حسابات بنكية وشركات روسية كثيرة مسجلة فيها، خصوصاً الشركات التي يمتلكها الأوليغاركيين، وهي الدائرة المقربة من بوتين. كما أن لهم عقارات كبيرة أخرى في لندن. وعقب التسليم بفصل جزئي لروسيا من السويفت، منع على الفور دخول عدد من البنوك الروسية لهذا النظام.
لكن، يقول من يتشككون ويستخفون، بأن العقوبات لن تهزم الاقتصاد الروسي، ولن تردع بوتين عن مواصلة العدوان. وبخصوص استمرار وتصعيد العملية العسكرية والاعتبارات السياسية، فإن العقوبات لم تستهدف تشكيل ردع منذ البداية، بل خطوة عقابية ربما تغير حسابات التكلفة والربح لدى بوتين والمحيط الضيق الذي قد لا تعرفه الاستخبارات في الغرب. روسيا مستعدة، وبوتين توقع ذلك، ولديه أدوات المواجهة لفترة طويلة مع هذه التداعيات. وإلى جانب خطأ الادعاء الذي ينبع من تقدير لا علاقة له بواقع بوتين الذي يلعب مع العالم الساذج والمتصالح والضعيف، ويظهر ذكاء استراتيجياً بلا منازع، إنما هو ادعاء غير صحيح ببساطة.
الاقتصاد الروسي ضعيف، ضعيف هيكلياً وضعيف في الأداء. يمكن ببساطة اعتباره حكم سارقين وناهبين مشترك بين الأوليغاركيين والسلطة، الذين سرقوا روسيا ومواردها منذ التسعينيات، خاصة في فترة بوتين. ويمكن تجنب المصطلحات السياسية، والنظر إلى البيانات فقط: دولة فيها 146 مليون شخص مع إنتاج خام محلي سنوي يبلغ 1.4 تريليون، يشبه إنتاج أستراليا التي فيها 26 مليون نسمة، وأقل من إنتاج كاليفورنيا وتكساس ونيويورك. لروسيا إنتاج خام محلي يبلغ 11 ألف دولار للفرد مقابل 44 ألف دولار في إسرائيل، واقتصاد يعتمد على تصدير الطاقة وليس على الإنتاج والتكنولوجيا. عملياً، هي تستورد كل شيء، بدءاً من السلع الاستهلاكية ومواد البناء والملابس والمواد الغذائية، وانتهاء بالتكنولوجيا والأجزاء الحاسمة مثل الرقائق شبه الناقلة.
هرب رؤوس الأموال من روسيا في السنوات الأربع الأخيرة، كلف الدولة 250 مليار دولار. الروبل ضعف 75 في المئة منذ غزو شبه جزيرة القرم في 2014، وبورصة موسكو هبطت 50 في المئة منذ بداية الأزمة. ولكن كل ذلك غير كاف لإقناع طائفة المعجبين ببوتين.
هنا يأتي الادعاء الذي يبدو حاسماً من قبل المتشككين بالعقوبات والذين يتباكون على “الغرب الضعيف”. لروسيا احتياطي عملة يبلغ 630 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم يمنحها ما يكفي ويزيد من الأموال لتمويل الحرب في أوكرانيا ويكفي لخلق مناعة من العقوبات. هذا صحيح؟ الجواب هو: غير صحيح.
روسيا صاحبة الـ 630 مليار دولار، لكنها لا تسيطر عليها. معظم هذه الأموال واقعة في ديون في دول الغرب والبنوك الرئيسية فيها. هذه أموال غير سائلة، وفعلياً ليس لبوتين قدرة للوصول إليها في اللحظة التي فرضت فيها العقوبات. لذلك، كما شرح البروفيسور مايكل برينشتام، من جامعة ستانفورد، فإن المشكلة هي مشكلة روسيا. ويقول إن هذا وضع يشبه الجملة المشهورة “إذا كنت مديناً للبنك بـ 100 ألف دولار فإنك في ورطة، أما إذا كنت مديناً للبنك بمليار دولار فالبنك متورط. روسيا هي البنك. من بين الـ 630 مليار دولار، 130 – 135 ملياراً هي من الذهب. من سيشتري الذهب الروسي ويخرق العقوبات؟ هناك فقط دولة واحدة في العالم غنية بما فيه الكفاية وقادرة على تجاهل العقوبات، وهي الصين. لماذا ستفعل الصين ذلك؟ لن تفعل. ولنفترض أنها فعلت، فما هو المقابل الذي ستضطر روسيا إلى إعطائه؟ بالمناسبة، ثمة مصلحة لوجستية للنقل، على فرض أن الصين لن تعتمد على كلمة روسيا. طن الذهب يقدر بقيمة بـ 61 مليون دولار. احسبوا كيف سيتم نقل 31 مليار دولار من روسيا إلى الصين.
لتعزيز الاقتصاد وتمويل الحرب التي سيرتفع ثمنها إذا واصل بوتين توسيعها، على البنك المركزي أن يحول مئات ملايين الدولارات ليكون بالإمكان الدفع للمزودين من الشركات (الاقتصاد الحقيقي اليومي) ولوزارة الدفاع. هذه الأموال ستنتهي. البنوك ستضغط على البنك الرئيسي كي يقول “نايت، لا يوجد”. وماذا سيفعل ديمتري وأولغا اللذان سيذهبان صباحاً إلى البنك في موسكو أو سانت بطرسبورغ لاسترداد الفواتير.
ما دامت البنوك الرئيسية في أوروبا وأمريكا تواصل العقوبات، وما دام الفصل عن السويفت سيتسع، فإن الاقتصاد الروسي سينهار. إذا كانت المخابرات والسياسيون في الغرب حتى الآن قد كسروا الرؤوس في محاولة لفهم هدف بوتين الأساسي، فالسؤال هو: ما هي استراتيجيته للخروج؟ من غير الواضح أنه هو نفسه قد بلورها.
بقلم: ألون بنكاس
هآرتس 28/2/2022