كانت بداية تعارفنا معه من خلال زياراته لأقاربه في مخيم الشابورة بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، حيث كان يأتي إلى المسجد بصحبة أحد الشباب، وهو الأستاذ جمال أبو هاشم، ليقدم لنا وعظياته الدينية ولطائفه التي تُضفي نكهة خاصة على اللقاء.
كان الشيخ إبراهيم يمتلك ناصية الخطابة والبيان، وتشعر وأنت تُنصت إليه أنك أمامَ عالم تكاملت فيه أركان الثقافة والمعرفة الإسلامية والأدب، وله روح شبابية مرحة تطوي ما بينك وبينه من فروق العمر واختلاف البيئة والتجربة، حيث إن الضفة الغربية التي نشأ وتربى في أحضانها تتباين في فضائها المعيشي والحياتي العام عن قطاع غزة.
كانت زياراته لرفح تمنحنا إطاراً معرفياً عن الشطر الآخر البعيد من الوطن، فكنا نسمع منه كمن يحكي قصصاً من ألف ليلة وليلة.
عندما خطبت زوجتي عام 1978 دعاني والأستاذ جمال أبو هاشم لقضاء يومٍ أو يومين في ضيافته، ومن هناك أخذنا إلى الصلاة في المسجد الأقصى، حيث كانت زيارة تعرَّفنا فيها على بعض الشخصيات الإسلامية هناك، وكانت لتلك الأيام ذكرياتٌ لا تُنسى.
كان أخونا وأستاذنا الشيخ إبراهيم أبو سالم داعيةً لا يُشقُّ له غبار، ومجلسه لا يخلو من الدُعابة والطرائف.
في السبعينيات، التقيته في مصر خلال بعض مراحل دراسته العليا، وقد شكَّل وجوده بيننا نخن الشباب الجامعيين من قطاع غزة استثناءً في العلاقة، فلم ينقطع التواصل بيننا، إذ مثَّل حالة من الشهود بعد سفره، وبقيت ذكرياته وكلماته تعيش معنا كصفحات حيَّة في "حضرة الغياب".
ورغم صعوبة سفرنا إلى الضفة الغربية، ومكوثه الطويل متنقلاً بين سجون الاحتلال تحت اتهامات وذرائع شتى.. وحتى نستوفي قراءة سيرته ومساره في العمل الدعوي والحركي، فسوف نعرض جزءاً من سرديته للمحطات التاريخية في حياته، والتي صقلت ملامحُ الحرمان وملاحمُ البؤس الكثيرَ من معالم نضارتها وتميزها؛ باعتباره أيقونة في مجال العمل الإسلامي والمواقف الوطنية الصلبة.
البدايات: سنوات الجمر والحرمان
في حقيقة الأمر، كانت والدته حاملاً به أثناء الهجرة، واتجه أهله للجنوب ونزلوا في مخيم العروب شمال الخليل، حيث ولدَ هناك بين أواخر سنة 1948 أو أوائل 1949.
عائلة "أبو سالم" التي ينتسب لها د. إبراهيم تعود أصولها إلى عشيرة بدوية جذورها من الحجاز، وقد استقرَّت على أرض فلسطين بالقرب من مدينة الرملة في بلدة اسمها (السدرة)، ويقال لها (تل البطيخ)، لكثرة ما كانت تُنتج من محصول البطيخ، وقد اشتهرت البلدة أيضاً ببيارات البرتقال.. تقع البلدة جنوب الرملة وعلى بعد خمسة كيلومترات، ولذلك فأسواقهم وحتى أقواتهم في الرملة عند (مئذنة النبي صالح).
استقر أهله بعد الهجرة، ومعهم معظم الأقارب، وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة في قرية "أبو اشخيدم" شمال رام الله.. وهناك، بنى كلُّ واحد منهم (سقيفة) لا تتجاوز مساحتها 4×4 متر مربع من طين وحجارة عشوائية، وسقف من جذوع شجر الليمون أو اللوز أو البلوط، وكانوا على أمل ألا تطول العودة السريعة إلى مواطن سكناهم بعد أن تهدأ المواجهات المسلحة مع العصابات الصهيونية، وهي الحالة التي كانت عليها قناعة معظم اللاجئين المُهجَّرين.
تربى الطفل إبراهيم في أسرة ملتزمة متدينة، وكان والده متديناً بالفطرة، وكان يُلقب في العشيرة بـ(الشيخ سعيد)؛ لأنه حافظ على أداء الصلوات في حين كان كثير من المُسنين لا يركعون ولا يسجدون، وكان يقف مؤذناً إذا حضر وقت الصلاة، كما كان قارئاً، وكان عنده في المنزل بعض كتب التفسير أو الحديث القديمة جداً، وكان يقرأ منها بين الحين والآخر.
كان الشيخ سعيد يعمل في بناء المنازل، وفي ذلك الحين بنى مدرسة لقرية مجاورة، كان شخصاً كريماً ذا شخصية مهيبة، وما لبث أن داهمه المرض فلقي ربه وهو في الأربعينات من العمر، تاركاً تسعةَ أيتامٍ كلهم دون سن الرشد.
في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينيات كان الفقر قاسماً مشتركاً بين عامة الناس، وكانت عائلة إبراهيم إضافة إلى حالة المسغبة والفقر التي هي عليها قد فقدت مُعيلها، وانعدم بذلك مصدر دخلها، ولولا مساعدات وكالة الغوث (الأونروا) التي كانت توزع على هؤلاء النازحين الضروريات التي "تُقيم الأود"، وتسدُّ الحدَّ الأدنى من الحوائج والمواد التموينية في كل شهر مرة، لتعاظمت المعاناة أكثر وأكثر. كانت والدة إبراهيم (...) تقوم بجمع الحطب وإحضار الماء من عين (نبع) قريب، وكانوا يكتفون بما قَسمَ الله لهم من الرزق، إذ كان لديهم في البيت بضع دجاجات، حيث كان بيضها يساعد في توفير بعض وجبات الطعام.
كانت ظروف الدراسة التي مرَّ بها إبراهيم ظروفاً قاسية، فقد أنهى المرحلة الابتدائية من الدراسة في مدرسة القرية "أبو اشخيدم"، وبصعوبة بالغة تمَّ تسجيله في مدرسة الأمير حسن الثانوية (بيرزيت)؛ لأنهم كانوا يرفضون استقبال (اللاجئين) في المدارس الحكومية، ويحيلونهم إلى مدارس وكالة الأونروا.. كانت مدرسة الوكالة لطلاب الاعدادية في مدينة رام الله، وكان ذلك يحتاج إلى مواصلات (ميزانية) غير متوفرة للعائلة الفقيرة.
أتمّ الطفل إبراهيم دراسته الاعدادية وهو يسير مشياً على قدميه من "أبو اشخيدم" إلى بيرزيت، ما بين نزول وادٍ وصعود جبل، وذلك في جميع الفصول حتى لو كان الثلجُ مكدَّساً أو المطر أنهاراً، ولربما لم يكن هناك مكان لشراء الجوارب إلا إذا "ظفروا" بها من (البقجة)؛ وهي الملابس المستعملة التي توزعها وكالة الغوث (الأونروا) على أصحاب "الكروت الزرقاء أو بطاقات التموين".
إبراهيم: الشاب والشيخ المُعمَّم!!
كما ذكرنا، نشأ إبراهيم في أسرة متدينة، وقد بدأ الصوم وعمره تسع سنوات، والصلاة وهو في الصف السادس الابتدائي، وقد حفظ إبراهيم سورة الفاتحة قبل ذهابه للمدرسة، من خلال سماعه لصلاة والده الجهرية.
كان في حيّهم طالب يدرس الشريعة في المعهد العلمي الإسلامي في القدس اسمه (حسن أبو عيد)، والذي صار له شأن فيما بعد، إذ أصبح أستاذاً في الجامعة الأردنية، ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية في غزة عميداً لكلية الشريعة.
كان للطالب حسن تأثير مهم على إبراهيم في فترة شبابه، وكان سبباً في قراره أن يدرس في المعهد الذي درس به أو تخرج منه، حيث ذهب إليه إبراهيم وسجَّل في ذلك المعهد. كان حسن شاباً صغيراً، وكان له سمتٌ طيب وخُلقٌ حميد كما يؤكد إبراهيم. كان مقر المعهد ملاصقاً لباب السلسلة؛ أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك، ومطلاً على حائط البراق، وقد استولى عليه الاحتلال فور سيطرته على القدس وحوّله إلى ثكنة للشرطة الإسرائيلية.
كان من مقتضيات الدراسة في المعهد أمران: الأول: السكن في القدس، حيث أقام الشاب ابراهيم في غرفة بالقرب من باب القطانين، والثاني: ضرورة الالتزام باللباس الشرعي؛ أي زي العلماء (اللفة والجبّة)، ولكم أن تتصوروا شاباً ما نبت له شاربٌ بعد ولا لحية، نحيف البدن قصير القامة يرتدي (زي العلماء).
كان الناس يستوقفون الشاب المُعمم إبراهيم في الشارع، ويسألونه عن أمور دينهم، كما لو كان (شيخاً) بحقٍ وحقيق!! ولو مشى في الشارع مع أحد أساتذته في المعهد، وهم لا يلبسون (زي العلماء)، لاستوقفه الناس وسألوه دون أستاذه، وما اقتنعوا إلا أنه هو العالم، أما أستاذه فلا!! ومنذ ذلك الوقت، أصبح يُكنّى بـ(الشيخ إبراهيم)!!
وفي يوم من الأيام، وعندما كان إبراهيم في السنة الأولى بالمعهد، الذي تغير اسمه بعد ذلك إلى (ثانوية الأقصى الشرعية)؛ أي أنه كان في الصف الأول الثانوي.. في ذلك اليوم، ذهب لصلاة الجمعة في مسجد قرية "أبو اشخيدم"، وجلس مع الناس، وكان الأولاد في نفس عمره لا يكادون يعرفون صلاة الجمعة ولا الجماعة، وقد جاء وقت الصلاة والخطيب لم يأتِ بعد!! يحدثنا ابراهيم عن هذا الموقف، فيقول: "جلست مع المُسنين من رجال البلدة، وفجأة وقف مختار القرية -وكان يُكنى بـ"أبو معروف"-، وقال للمصلين: لم يأتِ الشيخ اليوم، قوموا نُصلي الظهر!! فجأة.. وقف ولدٌ صغير (الشيخ إبراهيم)، وقال: أنا أخطب بكم؟ فقال المختار: قم.. فقمت فوراً، وكنت جريئاً، وكانت خطبة بلا تحضير أمام عشرات الرجال من كبار السن، الذين يستحي مثلي -عادة- أن يتكلم في حضرتهم، لكني لا زلت أذكر كيف كان حال جسدي، حيث كنت أرتجف طوال الخطبة، وترتعد فرائصي.
وبهذا، أنجز إبراهيم بن الشيخ سعيد؛ الولد اليتيم، المهمة على أكمل وجه وقام بسدِّ الفراغ، واستطاع كسر الحاجز النفسي، فلم تعد هناك عقبة فيما بعد أمام مواجهة الجماهير.
صعوبات الطريق: استمرار رحلة التعلّم
كانت حياة العائلة صعبة.. فبعد وفاة والد إبراهيم عام 1960، بدأت مرحلة اليُتم والإحساس بعبء المسئولية، فقد قدّر الله للشيخ إبراهيم أن يكون خليفة والده في الأسرة، ذلك لأن شقيقه الأكبر رغب أن يسافر، وبدأ مسلسل السفر وهو لا يزال طفلاً، فكان عليه تحمل هموم الأسرة وأعباء المعيشة بعد الوالدة.
إنَّ من جميل أخلاق الشيخ إبراهيم وحُسنِ شمائله التي عرفناها خُلق الإيثار، الذي كان يتزين به، وكذلك حبه للخير وعمل المعروف، إذ كانت والدته تدبر له مصروف المدرسة اليومي، الذي قد يكون (قرش أو تعريفة) وتعطيه "خبزة وحبات زيتون"، فيأكل الخبز والزيتون ويوفر المصروف، وبعد عدة أيام يذهب للدكان فيشتري شيئاً ويعود إلى الأم والإخوة بكيس فيه شيء من مصروفه، ويصف لنا ذلك قائلاً: "أفعل ذلك وفي صدري سعادة ما يعلمها إلا الله، ومنذ ذلك الحين وأنا أستمتع حين تكون يدي هي العليا، وأستمتع أكثر إذا خفَّفت عن المكروبين وواسيتَ المنكوبين".
سنة 1967م وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للقدس، كان إبراهيم وأقرانه من الشباب على مقاعد الامتحان/التوجيهي، وتقدم في حينها لامتحان الثانوية العامة/الأدبي والثانوية العامة/ الشرعي، ونجح فيها برغم الحرب.
ومع هدير الدبابات وأزيز الطائرات وهلع الشائعات، ترك الشاب إبراهيم القدس، ونزح مع النازحين مشياً على قدميه إلى أريحا، وكان معه نصف دينار أردني، استراح في أريحا لبعض الوقت ثم غادر مشياً إلى الضفة الشرقية وإلى وادي شعيب، وهناك يسّر الله لهم (تراكتور) عليه أُمّةٌ من الناس يركبون فيه، فانضم إليهم متوجهاً إلى السلط، ومن هناك إلى عمّان ليبحث عن بعض أقاربه.
تجهّز الشاب إبراهيم ليبدأ رحلة العلم في الغربة، فبدأ يقدّم طلبات لجامعات منها جامعة بغداد، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكلية الشريعة بعمّان.
شاء الله أن يدرس الشاب إبراهيم في كلية الشريعة بعمّان/جبل اللويبدة بمنحة دراسية، وقد كان الأمر مُيسَّراً له، فهناك قسمٌ داخلي فيه كل المتطلبات المعيشية المحترمة، بالإضافة إلى اثني عشر ديناراً شهرياً، كان يحولها أو أكثرها لوالدته ليعينها على أحمالها.
كان معظم أساتذة الكلية -آنذاك- من مصر، ولم يكن هناك دكاترة من الأردن أو فلسطين إلا لاحقاً، مثل: د. عبد العزيز الخياط، الذي كان عميداً للكلية بالماجستير، ثم حصل على الدكتوراه.
يروي لنا الشيخ إبراهيم قصةً حصلت معه في إحدى المحاضرات، وكان لها تأثير كبير في نفسه، يقول: في يوم من أيام الدراسة، دخل عليهم أستاذ مادة أصول الفقه؛ مصري الجنسية، وكان يستشيط غاضباً من شيء ما، وصرخ قائلاً: "الفلسطينيون باعوا أراضيهم وأعراضهم"!! لم يستسغ الشيخ إبراهيم هذه الإهانة لبني قومه، فرد على أستاذه قائلاً: "يا أستاذ.. هذه مادة أصول فقه وليست سياسة"، فصرخ في وجهه وطرده من المحاضرة، فخرج الشيخ إبراهيم ومعه بعض الزملاء الذين تعاطفوا معه.
مضت عدة محاضرات وهو معاقب، حتى ألحّ عليه بعض الزملاء زيارة الأستاذ في منزله، فذهبوا إليه واستقبلهم ببشاشةٍ وترحاب.. وحين وزّع الشاي، قدَّمه له أولاً، وقال: والله لا أشرب حتى يشرب سيدي الشيخ إبراهيم، وأسدل الستار على الحكاية.. يقول الشيخ إبراهيم: "أنا لم أنسَ اسم أستاذنا، لكنني إكراماً له لا أذكر اسمه، وأكتفي بالقول الكمال لله، ورحمه الله رحمة واسعة".
الشيخ إبراهيم.. هكذا عرفت الإخوان
كان الشيخ إبراهيم يسمع من الطلاب في المعهد الشرعي (المعهد العلمي الإسلامي) في القدس، حينما كانوا يشيرون لبعضهم أو يتهامسون أن فلاناً من الإخوان، وكان الشاب إبراهيم يلاحظ (على صغره) أن من يُقال إنهم (إخوان) هم من خيرة من رأى خُلقاً وديناً (بلا تحيز) كما يؤكّد، وتلك كما يقول شهادة لله، التي سيسأل عنها يوم القيامة.
تأثر الشيخ إبراهيم كثيراً وتألم عندما سمع بإعدام سيد قطب (رحمه الله)، مع أنه - كما يذكر - لم يكن قد قرأ سطراً واحداً له، وقد كان حينها لم يبلغ سن الرشد، وجُلُّ ما في الأمر أنّ هناك عالماً مفسراً للقرآن وداعية قد قُتل؛ لأنه قال ربي الله، إذن.. القاتل ظالم!!
يُقسّم الشيخ إبراهيم الفئات الموجودة في الجامعة -آنذاك- إلى ثلاث طوائف، فيتحدث قائلاً: "حين جلست على مقاعد الجامعة، كان الطلبة وربما الموظفون ثلاث طوائف، إخواناً، تحريريين، لا شيء، وإن ألفتَّ فئةً رابعة هم الأقرب إلى البعد عن الدين! هل تصدقون؟ وبالفطرة، وجدت أن الأقرب إلى الصلاح من الذين يتواصون بالصلاة جماعة في المسجد، ويحثون على صيام النافلة وقراءة القرآن وحفظه، ويطالبون الشباب بغض البصر وحُسن الأخلاق هم يُطلق عليهم اسم الإخوان، ولذا لم أتردد حين دُعيت بالانضمام إليهم".
العودة للوطن.. وبدء العمل
مضت أربع سنوات في الجامعة، وكان تقدير إبراهيم (جيد جداً)، حيث تخرج هو وأقرانه، ومنحهم الشهادات د. اسحاق الفرحان (رحمه الله)، وكان –آنذاك - وزيراً للتربية ووزيرَ الأوقاف في نفس الوقت.
بعد التخرج، سأله الوزير إن كان يحب العمل في الأوقاف أم التربية، فأجابه: في الأوقاف، ثم سأله إن كان يحب أن يعمل إماماً أم واعظاً، فأجابه: واعظاً، فعَّينه واعظاً لمدينة عمان، وكان مدرس المسجد الحسيني الكبير، وخطيب مسجد أبو درويش -طلعة الوحدات- بالتناوب؛ أي جمعةٌ للشيخ الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني (رحمه الله) وجمعة للشيخ إبراهيم بن سعيد.
دون استشارة ودون مراجعة الوزارة والوزير ودون تقديم استقالة أو طلب نقل (والضفة مع الأردن إدارياً)، غادر إبراهيم للضفة الغربية، وعاد للوالدة والأسرة بعد شهرين ونصف تقريباً من العمل.
راجع الشيخ إبراهيم الأوقاف في الضفة الغربية، وتمَّ تعيينه واعظاً لمدينة نابلس، وبتاريخ 2/2/1972م استلم الكتاب ليمارس الوعظ في مائة وثلاث وعشرين بلدة ومدينة، من بينها مدينة نابلس وأربعة مخيمات، تجوَّل فيها جميعاً، ووقف على محاريبها أو منابرها.
بعد سنة ونصف السنة، تمَّ نقل الشيخ إبراهيم إلى رام الله، في إطار تبادل بين واعظ رام الله وواعظ نابلس، وقد كان أول واعظ يعتلي المنبر في نابلس وهو يحمل شهادة جامعية.
عمل الشيخ إبراهيم في أعمال أخرى، إذ أتاحت له طبيعة عمله، التي لا تحتاج إلى دوام دائم، فرصة العمل الآخر، فعمل معلماً في دار المعلمين برام الله عام 1974/1975 حتى عام 1979، وقد كان يُدرّس الثقافة الاسلامية لطلاب السنة الثانية، والشيخ بسام جرار لطلاب السنة الأولى في المعهد وغيرهم كثيرون، كما درّس في دار المعلمات برام الله.
الزواج: بداية التوطن والاستقرار
كان للشيخ إبراهيم درسٌ دائم في قبّة الصخَّرة المشرَّفة/المسجد الأقصى اسمه درس الثلاثاء، والدرس موعده بين المغرب والعشاء.. ذات يوم استضافه رجل من رجالات القدس ضمن قيادات الإخوان المسلمين، وهو الحاج راضي السلايمة (رحمه الله) إلى منزله في القدس فلبى دعوته، ودار بينهما حديث، كما يخبرنا الشيخ إبراهيم، فيقول: "سألني عن صحتي وأحوالي الاجتماعية فأجبته، فقال: لِمَ لا تتزوج؟ قلت: الظرف المادي، قال: أنا أزوجك.. لا أُخفي سراً أنَّ هذا العرض لأول وهلة ربما بدا لي مقلقاً، فلم أرد له الجواب، فالتفتَ إليّ مرةً ثانية وقال: "أنا عندي بنتين اختر أيهما تشاء"، فلم ألتفت إلى ما قاله، ثم استشرت أو عرضت الأمر على الأخ الشيخ حامد البيتاوي (رحمه الله)، فقال: وما الذي يمنعك أن ترى، فإن رضيت تمضي متوكلاً على الله، وإلا فكلُّ واحدٍ في بيته، وأثنى على الحاج راضي.. رأيت الأبنة الكبرى، وكان القدر والقسمة والنصيب والحمد لله".
وعندما جاءوا ليكتبوا العقد، اتفقوا على المُقدَّم والمؤخر، ثمّ سأل المأذون في توابع المهر؟ فقال الحاج راضي: غرفة نوم، وحينها تصرف الشيخ إبراهيم بعصبية مرفوضة في هذا المقام، ولكن سعة صدر الحاج راضي استوعبت الموضوع، وقال: "بدّك أكتب غرفة النوم باسم بنتك!! هذا ما بُزبط، بنتك بتدخل غرفتي أنا مش غرفتها".
تصرف إبراهيم بعصبية وانفعال، لكن الحاج راضي تصرف بشكل هادئ ووافق على إلغاء فكرة غرفة النوم من شروط عقد النكاح.
الدراسة في مصر: رحلةٌ في طلب العلا
أرسل الشيخ إبراهيم أوراقه للتسجيل في كلية الشريعة والقانون في الأزهر بمصر وتمَّ قبوله، وقد ذهب مرتين لتقديم الامتحانات في 1975/1976، فنجح وسجَّل موضوع الرسالة (الإمام الحسن البصري وأثره في الفقه الإسلامي)، وكان لا بدَّ من ذهابه إلى مصر لمتابعة الأمر وتحضير الرسالة ومناقشتها، مما اضطره إلى أخذ إجازة بدون راتب، واستدانة بعض المال والذهاب إلى القاهرة وحده، لكنه بعد شهرين وجد أن الحياة بدون أهل عسيرة جداً، فأوصى عليهم ولحقوا به، وكان معه في حينه اسحاق وسندس وإلياس.
وصلت أم اسحاق والأولاد إلى مصر، ونزلت عند زوجها في عمارة 15 بحي رابعة العدوية بمدينة نصر.. وبطبيعة الحال، لم تكن الأمور المادية سهلة، فقد كانوا مقتصدين جداً، وكانوا يُسجِّلون كل قرش.. وذات شهر كما يذكر إبراهيم، قاموا بحساب مصروفهم الشهري قرابة (84 جنيهاً) وذلك سنة 1980م.
في تاريخ 19/8/1981، ناقش الشيخ إبراهيم رسالة الماجستير، وحصل على تقدير ممتاز بفضل الله (سبحانه وتعالى)، لكن لم تقتصر زيارته لمصر على رحلة العلم، فقد كان له زيارات ورحلات إلى أماكن مختلفة، فذات مرة ذهب وعائلته في رحلة إلى بحيرة قارون، وهناك في ذلك المكان خُسف بقارون، كما يقول أهل تلك القرية البسيطة، وفي إطار تغييره لجو القاهرة قام الشيخ إبراهيم أيضاً برحلة إلى مدينة الإسكندرية، حيث استضافه أحد الأخوة في شقته الخاصة.. ومما يرويه الشيخ إبراهيم عن تلك الرحلة، أن المستضيف قد ترك لهم شقته واستأذنهم أن يسمحوا له بالمرور لإحضار الطعام لهم في البيت.. وهذا ما فعل خلال فترة الزيارة.. مرت الأيام، وإذ بالشيخ إبراهيم يقرأ خبراً عن وفاة ذلك الشخص وبعض أفراد عائلته في السعودية جراءَ حادث مؤلم.. فما كان منه إلا الذهاب إلى غزة مع بعض الدعاة لتقديم واجب العزاء لعائلته، وإلقاء كلمة يذكر فيها محاسن وآداب هذا الإنسان الشهم المضياف ومواقفه، والذي آثرهم وأكرمهم وأخلى بيته لهم وتعهد بخدمتهم. رحم الله د. منصور التتر؛ أحد رجالات الزمن الجميل، والذي كان في أخلاقه وسلوكياته آية.
التهمة التي تحولت إلى منحة!!
عاد الشيخ إبراهيم من القاهرة يحمل شهادة الماجستير في الفقه المقارن من كلية الشريعة في جامعة الأزهر، ورجع إلى وظيفته مراقباً للتوجيه الاسلامي في مديرية أوقاف رام الله، لكن الأمر اقتضى أن يُغيِّر مساره نحو كلية الدعوة وأصول الدين في بيت حنينا بالقدس، حيث تقدم بطلبٍ للعمل في الكلية، وبما أنها تابعةٌ للأوقاف تمَّ نقله للكلية مغادراً العمل في وزارة الأوقاف، لكنه بقي خطيباً متطوعاً في الوزارة.
في ذات يوم، استاء الطلبة من الإدارة والعمادة، فتصرفوا بطريقة غير سلمية، فأخرجوا العميد من مكتبه وطردوه من المبنى. ارتدت نتائج هذا الحدث على الأستاذ إبراهيم أبو سالم، باعتباره كما كانوا يقولون الأستاذ الأكثر تأثيراً، إذ لا يندفع الطلاب إلا بتوجيه منه، فتم فتح تحقيق وتقديم شكوى في حقه، فاتخذت وزارة الأوقاف في الأردن قراراً بفصله بدون مبررات وذلك سنة 1987، وبقي مفصولاً ثلاث سنوات تقريباً، اضطر أن يعمل خلالها شيئاً يسيراً كمدرسٍ في الكلية العصرية برام الله.
رفع الشيخ إبراهيم قضيةً أمام المحاكم الأردنية/محكمة العدل العليا، محتجَّاً على فصله ونجح في كسب القضية، وذلك عندما حقق الإخوان المسلمون فوزاً في مجلس النواب الأردني، وحازوا على رئاسة المجلس، وأصبح د. عبد اللطيف عربيات هو الرئيس، وقام رحمه الله بتفعيل قرارات محكمة العدل العليا، وكانت قضية الشيخ إبراهيم واحدة منها، ليعود من جديد إلى عمله، ويأخذ رواتب السنين الماضية.
بعد عودة الشيخ إبراهيم إلى عمله في الكلية، استلم في يوم واحد مبلغ خمسة عشر ألف دينار وبضع مئات، وكان لها أثر جيد في حياته، فمنها اشترى قطعة الأرض التي بنى عليها داره، واشترى قطعة أرض زراعية أخرى.
زيارات غزة: اجتماعية ودعوية
كان للشيخ إبراهيم شقيقة في غزة، وهي الأخت الكبرى مريم (رحمها الله)، وكانت تسكن في حي الشابورة بمخيم رفح للاجئين، ومتزوجة من ابن عمها الأستاذ فايز، فاقتضى الأمر أن يقوم الشيخ بزيارات دورية لشقيقته وابن عمه في كل المناسبات، وأحياناً بدون مناسبات، وهناك تعرَّف على ثُلَّة كريمة من خيرة الأحبة، وكان منهم: الأستاذ جمال أبو هاشم ووالده وإخوته، حيث كان يستضيفه ومن معه ويكرمهم.. كما التقى عدة مرات بالشيخ الشهيد أحمد ياسين في منزله والصلاة معه في المجمَّع الإسلامي، وكان الشيخ يستضيفه ويُكرم وفادته.
في إحدى تلك الزيارات، ذهب الشيخ إبراهيم وعائلته إلى بحر غزة، وكانت معه طفلته الصغيرة (سندس)، حيث افتقدوها في لحظة غفت عنها العيون ولم يجدوها.. بحثوا وسألوا عنها في كل مكان فلم يجدوا لسؤالهم عنها جواباً، وأخيراً رجَّحوا أنها غرقت، فتألموا كثيراً وبكوا عليها، وأخذوا يرتبون لما بعد الحدث.
لكنَّ لطف الله ورحمته اقتضت غير ذلك، وبين المغرب والعشاء جاء الفرج وفرح أهلها بعدما علموا أنها كانت تائهة، وهي متواجدة بمثابة آمنة لدى الشرطة.. انقلب الألم سعادة بهذه البشرى وعودة الطفلة إلى حضن والديها. دعاهم د. عمر فروانة، أحد الشخصيات الإسلامية المتميزة بمدينة غزة، والذي بذل جهداً كبيراً في البحث عنها، للعشاء وحفلةٍ للشواء بغرض التخفيف عنهم، والاحتفال بعودة سندس سالمة بعد عناء يوم طويل من القلق والحزن عليها.
إبعاد واعتقالات في سجون الاحتلال لا تنتهي!
كان أول من اعتقل اعتقالاً إدارياً في فلسطين هو الشيخ إبراهيم أبو سالم، وكانت تهمته انتماؤه للإخوان المسلمين وليس حماس؛ لأنها لم تكن موجودة وقتئذ، وكان الاعتقال بتاريخ 1/6/1986، حيث فوجئ الشيخ إبراهيم بمداهمة بيته، واقتياده إلى سجن نابلس دون أن يدخله، ثم إلى سجن الفارعة ثم الجنيد، حيث سُجن إدارياً لمدة ثلاثة أشهر بتهمة أنه قائد في الإخوان المسلمين.
كان اعتقالاً شاقاً جداً بالنسبة للشيخ إبراهيم، فقد مضت المدة كأنها سنين كما يصفها؛ لا مؤنس ولا صديق حميم، إذ تمَّ سجنه في غرفة لأحد فصائل اليسار، وهم مجموعة من الشباب لديهم أفكارهم وقناعاتهم التي لا تلتقي مع رؤيته ومعتقداته الدينية وانتمائه الحركي، ومساحة اللقاء بينهما كانت ضيقة ومتباعدة "بُعد المشرقين" كما يؤكد، يقول الشيخ إبراهيم: "طرقتُ البابَ فجاء السجَّان، قلت: مريض، نقلني للعيادة وليس لي داء إلا من أعيش معهم.. نمت في العيادة تلك الليلة، وفي صبيحة اليوم التالي نقلت إلى غرفة لحركة فتح، وكان عددهم عشرة، وقد عاملوني باحترام".
مضى السجن الأول، وتبقت مرات عديدة لا يحصيها الشيخ إبراهيم بالدقة، فقد اعتقل في نهاية عام 87 بتهمة أنه من قيادات حماس في الضفة، وقد تمَّ التحقيق معه قرابة الشهر، حيث تنقل من زنازين رام الله وزنازين طولكرم، إلى زنازين بتاح تكفا وزنازين المسكوبية، ومن هناك إلى سجن عسقلان بالشرطة ثم معبر الرملة ثم سجن رام الله ومنه خرج الشيخ إبراهيم، وبعدها تتابعت الأحكام الإدارية: "سنة 88، 89، 90، 91، 93، ثمّ الإبعاد إلى جنوب لبنان".
وعن ليلة الإبعاد إلى جنوب لبنان، يحدّثنا الشيخ إبراهيم عن حاله وإخوانه، قائلاً: "في ليلة شديدة البرودة، جرى الاعتقال إلى خيام رام الله، ومنها إلى الباصات مقيدين ليومين، إلى أين؟ لا أحد يعلم، ثم أُنزلنا من الباصات وإذا بالثلوج والبرد القارس، كنا في حافلات وشاحنات من التي تنقل الغنم".
هناك في "مرج الزهور" في جنوب لبنان تمَّ تشكيل هيئة إدارية بالانتخابات، وقد نجح الشيخ إبراهيم فيها، وكانت الهيئة مشكلة من عدة لجان، تولى الشيخ إبراهيم لجنة الأرشيف ولجنة الصياغة، وكان يرسل الرسائل من مرج الزهور إلى هيئة الأمم والملوك والرؤساء والجمعيات وسائر الجهات والشخصيات.
اعتبر الشيخ إبراهيم (رحلة مرج الزهور) فرصة قد لا تعوض، فهم الآن ليسوا بحاجة لتصريح مغادرة من السلطات الإسرائيلية وبإمكانهم السفر بحرية وبدون سؤال.
في شهر رمضان المبارك من عام 1992 سافر الشيخ إبراهيم إلى السودان، وقد نزل في ضيافة الأستاذ وضاح خنفر؛ الذي أصبح فيما بعد مدير قناة الجزيرة في قطر، وسجّل في جامعة أم القرى بالخرطوم لرسالة الدكتوراه، وكانت بعنوان (أحكام أصحاب العاهات في خطة العبادات).
علم الأستاذ إبراهيم أن جامعة الجنان في طرابلس هي فرع من جامعة أم درمان، فتواصل معهم ورحبوا بإعداده لرسالة الدكتوراه. عاد الشيخ إبراهيم إلى لبنان، وعمل في بيروت مع طاقم لجمع المعلومات المتعلقة بالبحث، وواصل الليل مع النهار، حتى تمكن من طباعة الرسالة.
تمَّت مناقشة الرسالة، وقد أثنى المناقشان على رسالة الشيخ إبراهيم، وكان المشرف على المناقشة الدكتور علي الأغا، والذي استضافه بعد المناقشة في منزله بضعة أيام، وسمح لأبنائه وبناته بالجلوس معه.
عاد الدكتور إبراهيم إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وقد أتمّ المناقشة بدرجة ممتاز والتوصية بطباعة الرسالة. اتصل د. إبراهيم بزوجته (أم إسحاق) هاتفياً، وكان قد أخفى عنها خبر الدراسة، فقال لها: "زوجك الأن يا أم إسحاق أصبح الدكتور إبراهيم أبو سالم".. ففرحت فرحاً عظيماً.
في قصة مثيرة لها أبعاد كثيرة ومهمة، يحدّثنا د. إبراهيم عن زيارته لقرية مرج الزهور، فيقول: "زرت قرية مرج الزهور التي تبعد عن مخيم العودة ستة كيلو مترات تقريباً، ودخلت دكاناً نشتري منه بعض الحاجيات، وكانت هناك امرأة وبنتها، ولما مدّت إحداهما يدها اعتذرنا بأدب أننا لا نُسلَّم على النساء، فكان لذلك تأثير طيب في نفوسهنَّ. حيث حدّثونا -بعد أن استضافونا- عن تجاوزات بعض من سبقونا من أبناء جلدتنا من المناضلين!! وفي سياق المقارنة جاء القول: أما أنتم فلا تمسون نساءنا بالأيدي".
لا شك كان هناك فيمن سبق من المناضلين من مارس الزعرنة والتطاول وإساءة الأدب، ولكن هذه العينة من المبعدين هم في الحقيقة من خيارات رجال فلسطين؛ من أصحاب القدوة ومن هم في أخلاقهم مضرب المثل.
رجع د. إبراهيم من فوره إلى مخيم العودة في بداية شهر ديسمبر عام 1993؛ أي قبل العودة بأسبوعين تقريباً، وقد كان د. عبد العزيز الرنتيسي (رحمه الله) الناطق الإعلامي، فعقد مؤتمراً صحفياً كالمعتاد، وأبلغ إخوانه المبعدين أن مبعداً حصل على شهادة الدكتوراه، فكان للخبر أثره الطيب على الجميع، وقد همس د. الرنتيسي في أذن د. إبراهيم كما يخبرنا، فقال له: "يا أبا إسحاق.. والله إن هذا اليوم أسعد يوم في حياتي، إذ أكرمك الله بهذه الشهادة العلمية".
في تاريخ 17/12/1993، عاد المبعدون إلى سجن الظاهرية، وبعد أيام إلى البيوت، لتكون فرحة أسرية شعبية غير مسبوقة؛ احتفالات واستقبالات، وكان جزءٌ من هؤلاء المبعدين قد تمَّ استقباله في مبنى (قصر الضيافة) في رام الله، وجاء الناس يسلمون عليهم كلٌ يعبر عما في صدره.
لم يكد د. إبراهيم يرتاح من مسلسل الإبعاد والاعتقالات حتى جرى اعتقاله من جديد عام 1994 في سجن النقب، وبقي هناك عامين 94/95، ثم نقل إلى سجن مجدو 95، 96، 97، 98، 99 وأثناء ذلك نقل إلى سجن تلموند.
كان أبو إسحاق الخطيب الدائم حيثما حلَّ، وكان الخطيب الأكثر حظاً، إذ خطب خمس مرات في العام، في حين أن بعض الأخوة وما أكثرهم الذين هم خطباء البلاد من أقصاها إلى أقصاها، بعضهم لم يخطب مطلقاً، وقد كان الشيخ إبراهيم يضع عناوينَ مثيرة لخطبه، ويستثير بها الحاضرين.
عام 2005، أعيد اعتقال د. إبراهيم في سجن عوفر، وقبله قد تمَّ توقيفه في سجن بنيامين، حيث أمضى شهر رمضان فيه، وكم أمضى رمضانات وأعياداً وراء القضبان، بعيداً عن زوجته وأولاده، وفي 29 رمضان نقل إلى سجن النقب وأصبح خطيباً ليوم العيد، فرفع المعنويات وشدّ من أزر إخوانه.
اتصل إخوان د. إبراهيم في حركة حماس من خارج السجن يستأذنونه في ترشيح اسمه للانتخابات البرلمانية.. في البداية، تردد لكنه وافق في نهاية الأمر، ثم وصلتهم الأخبار بفوز كتلة التغيير والإصلاح، فأصبح نائباً في المجلس التشريعي عن القدس.
خرج الشيخ إبراهيم وإخوانه من السجن وأقسموا اليمين، ثمّ تعرضوا للحجز وبدأت المؤامرات!! لم تكن إلا أياماً، حتى وجد نفسه وإخوانه النواب في الضفة الغربية داخل سجن الرملة، إذ حُكمَ إبراهيم ثلاث سنوات بتهمة الانتماء لكتلة محظورة، وكان من أقل إخوانه حكماً، فبعضهم حُكم أربع سنوات وبعضهم أكثر.
استمر الاعتقال لمدة ثلاث سنوات من عام 2006 حتى 2009، لكنها لم تكن النهاية، يقول د. إبراهيم: "لم نفرح بالمجلس التشريعي أبداً؛ كانت مؤامرات مشتركة، لا بل ذات مرة حرقوا المجلس، وقالوا: حدث "ماس كهربائي"!! يريدونه إن كان لنا رماداً، ويريدوننا رماداً.. لكننا نرفض إلا أن نكون واقفين حيثما كنا".
ويضيف عن مرارة الاعتقال وسنواته الطوال، فيقول: "ثم تكرر الاعتقال، كان آخرها سبعة أشهر في سجن عوفر سنة 2016 على ما أذكر.. إن سألتموني -اليوم- كم عدد سنين الاعتقال أقول لا أدري، هل هي 15 أم 17 سنة أم... الله أعلم بعدتهنَّ".
في رحاب الأقصى، وآخر فصول الظلم:
من أكثر ما يَسر د. إبراهيم ويُدخل الفرحة على قلبه هو تدريسه في المسجد الأقصى في السبعينيات، فهو يعتبر ذلك تاجاً ازدانت به رأسه. وكما سبق ذكره، فقد كان له الفضل في افتتاح درس الثلاثاء حينها، ولكن فيما بعد وضعت الحواجز والسواتر، وجرى منعه -أمنياً- من الوصول الى هناك، واقتصر الأمر على شهر رمضان في وصوله للجماهير من خلال الخطب.
حالياً لشيخنا درس الجمعة كل جمعة على السماعات كلما يسر الله له ذلك، وآخرها كان دروس شهر رمضان للعام 2018، يقول الدكتور إبراهيم: "درّست الجمعة الأولى، فاتصل بي ضابط المخابرات يحذرني ويهددني ويمنعني، قلت: هذا مش شغلك وأغلقت الجوال، حاول مرتين أن يعاود الاتصال فلم أفتح الخط، ثم جئت الجمعة التي بعدها ودرَّست، ويوم الخميس التالي جاء إلى البيت قبل فجر الجمعة واعتقلني طيلة يوم الجمعة، فلا فجر ولا جمعة ولا عصر ولا جماعة ثم أطلق سراحي".
بعد حلِّ المجلس التشريعي أواخر عام 2018، فوجئ د. إبراهيم بقوة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية عرّفوا عن أنفسهم أنهم من "الأمن الوقائي"، داهموا المنزل بوحشية بالغة، كسروا أبواباً، خربوا حول المنزل، نثروا المقتنيات، عبثوا بالخزانات، وصادروا جوالات له ولزوجته وأبنائه كما يروي لنا.. وقد افتقدت زوجته خمسة خواتم ذهب، أما هو فاقتادوه إلى سجن الأمن الوقائي في بيتونيا، حيث كانت المعاملة سيئة جداً.. وبعد صلاة المغرب مباشرة من اليوم التالي، استدعوه وأطلقوا سراحه بعد ضغوط كبيرة دولية وشعبية وفصائلية لإخراجه والنواب الآخرين المعتقلين معه.
بعد الإعلام عن حلِّ التشريعي في ديسمبر 2018، كانت الخطوة التالية هي قطع رواتب كل من له صلة بكتلة التغيير والاصلاح أي حماس، ومنذ ذلك الوقت والرواتب مقطوعة عن د. إبراهيم وإخوانه النواب.
يقول د. إبراهيم معلقاً على سنين المعاناة والظلم والاعتقالات التي عايشها: "أنا لا أقول كلامي مستعطفاً، ولكن أقوله للتاريخ حتى يعلم الناس من الظالم ومن المظلوم، من الذي يكتب بعرقه وسجنه وحرمانه، من الذي يكتب سطوراً في التاريخ الفلسطيني، ومن سجَّل بقلمه تاريخاً فتناً رديئاً".
ختاماً.. يا أخي يا أبا إسحاق لك في القلب محبة واشتياق، وأسأل الله أن ينفع بك، وأن يجزيك بكل ما قدَّمت من عمل وتضحيات ومواقف، وأن تكون لك في ميزان حسناتك نعمةً ترفع العمر وتباركه وتزكيه.