في العام 1823 وجه الرئيس الأميركي جيمس مونرو خطابا للكونغرس الأميركي أعلن فيه أن العالم القديم (أوروبا) والعالم الجديد (أميركا الشمالية والجنوبية والوسطى) منطقتان مختلفتان بشكل أساسي وهما بالتالي تشكلان منطقتي "نفوذ" مختلفتين عن بعضهما البعض، وعليه فإن الولايات المتحدة لن تتدخل في الشؤون السياسية الأوروبية، لكنها ستعتبر أي تدخل أوروبي في "مجالها الغربي" (أميركا الجنوبية والوسطى وأجزاء في حينه من الساحل الغربي للولايات المتحدة) تهديدا لأمنها القومي.
إعلان مونرو طوره من بعده رؤساء آخرون ليتحول إلى عقيدة ومبدأ سياسي أميركي. الرئيس الأميركي جيمس بولك أعلن في العام 1848 أن الدول الأوروبية لا يحق لها "التدخل إذا ما أرادت الولايات المتحدة أن توسع مساحة أراضيها في مجال نفوذها الغربي".
بعد بولوك بأكثر من خمسين عاما بقليل أعلن الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت أنه وفي حالة "المخالفة الخاطئة" لدول أميركا اللاتينية فإن الولايات المتحدة من حقها "أن تتدخل في شؤونها الداخلية." هذا الإعلان الذي يعرف "بمتلازمة روزفلت" أضيف إلى ما يعرف بعقيدة مونرو.
صحيح أن الولايات المتحدة لم تكن وقت إعلان مونرو لعقيدته تمتلك قوة عسكرية لتطبيقه، لكنها ومنذ نهاية الحرب الأهلية فيها العام ١٨٦٥ لم تدخر جهدا إلا وفعلته من أجل تفعيل عقيدة مونرو.
في العام ١٨٦٧ ساعدت القوات الأميركية المكسيكيين للتخلص من ملكهم التابع لفرنسا، وفي العام ١٩٠٤ هددت الولايات المتحدة بالتدخل العسكري ضد الأوروبيين (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) إذا ما حاولوا تحصيل ديونهم من بعض دول أميركا اللاتينية.
لكن هذا التدخل الذي يبدو "أخلاقيا" كان مدفوعا بعقيدة مونرو التي ترى في أميركا الجنوبية والوسطى ساحة نفوذ للولايات المتحدة يجب ألا ينازعها عليه أحد، ومن هنا كان حصارها لكوبا العام ١٩٦٢ لمنع الاتحاد السوفييتي (روسيا اليوم) من نصب صواريخ له على أراضيها، وتنظيم الانقلاب العسكري ضد حكومة سلفادور الليندي في تشيلي العام ١٩٧٣ ومساعدة إدارة ريغان لثوار الكونترا في نيكاراغوا ضد حركة الساندينستا اليسارية في ثمانينيات القرن الماضي، والتدخل في السلفادور في نفس الفترة.
ووفقا لعقيدة مونرو تم اجتياح بنما وتغيير رئيسها في عهد إدارة جورج بوش الأب، وتتم محاصرة فنزويلا والعمل على تغيير نظامها منذ معارضة رئيسها اليساري السابق هوغو تشافيز للنفوذ الأميركي في بلاده وفي كل أميركا الجنوبية.
اليوم تستكثر الولايات المتحدة على روسيا أن تطالب الأخيرة بتقديم ضمانات وتعهدات بأن لا تنضم أوكرانيا لحلف الناتو.
أميركا تجادل بأن من حق أوكرانيا أن تنضم لأي حلف تريد لأنها دولة مستقلة ذات سيادة. هي تريد أن يكون من حقها ومن حق حلفائها أن ينصبوا صواريخ على حدود روسيا، ولكنها لا تريد من أي دولة، حتى لو كانت حليفة لها أن يكون لها وجود عسكري في أميركا الجنوبية والوسطى... هذا يسمى وبلغة مهذبة "ازدواجية في المعايير".
صحيح أن المسألة الأوكرانية أبعد من مسألة الانضمام للناتو، وهي متعلقة بنتائج حرب حصلت العام ٢٠١٤ دعمت فيها روسيا الانفصاليين الروس في أوكرانيا في "دونيتسك ولوهانسك في المنطقة المعروفة باسم دونباس" وأصبحوا بعده خارج سيطرة الحكومة المركزية الأوكرانية.
لكن نتائج هذه الحرب جرى الاتفاق على طريقة حلها بين روسيا وأوكرانيا والانفصاليين وبرعاية منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في اتفاق يعرف باتفاق مينسك في بيلاروسيا: الأول بعد الحرب العام ٢٠١٤ ولم ينفذ، والثاني في العام ٢٠١٥ ولم ينفذ أيضا، وهو ينص من ضمن بنوده على إعطاء مناطق الانفصاليين استقلالية كبيرة مقابل عودة أوكرانيا للسيطرة على حدودها مع روسيا.
الأمن بين الدول لا يمكن إلا أن يكون جماعيا إذا ما أريد له البقاء وأن يلعب دورا في تحسين وتطوير علاقات الدول ببعضها.
هذا لا ينطبق فقط على أوكرانيا وروسيا، بل على روسيا وجيرانها الأوروبيين، وعلى كل منطقة تشهد صراعا ناتجا عما يعرف في العلاقات الدولية "بالمعضلة الأمنية".
لماذا ستترك روسيا أوكرانيا لحلف الناتو إذا كانت متخوفة من أن يتم نصب صواريخ فيها تهدد وجودها وتحرمها من القدرة على الردع؟ لماذا ستوافق الصين على إعطاء نفوذ عسكري للولايات المتحدة في بحر الصين إذا كان ذلك يهدد أمنها؟ ولماذا ستتخلى إيران عن دعم حلفائها إذا كانت خسارتهم ستجعلها أسيرة لهجوم إسرائيلي أو أميركي؟.
الأمن الجماعي فقط هو ما يحل "المعضلة الأمنية". لكن هذا لا يتم بتجريد طرف واحد من أطراف الصراع من الأوراق التي يمتلكها وتجعله يشعر على الأقل بأنه أفضل حالا من الناحية الأمنية فيما لو امتنع عن التخلي عنها، ولكن بمعالجة أسباب الخلافات وتقديم الضمانات، وتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الخصوم بما يخلق ثقة ومصالح متبادلة بينهم.
ما يجري من دعاية أميركية عن احتمال غزو روسي لأوكرانيا، قد لا يكون تضليلا إعلاميا بوجود عشرات الآلاف من الجنود الروس على حدود أوكرانيا، لكنه لا يتحدث عن جوهر المشاكل الحقيقية بين روسيا والولايات المتحدة التي تريد أن توسع من حلف الناتو ليشمل أوكرانيا بذريعة أن للأخيرة "حق سيادي" بذلك، بينما تنكره هي على جيرانها في الأميركتين الوسطى والجنوبية.