زمن إسكات التاريخ الفلسطيني مضى وولّى بلا رجعة..حمدان طه

الأحد 06 فبراير 2022 11:45 ص / بتوقيت القدس +2GMT



تعرضت محاضرتي مساء يوم الخميس بعنوان «الآثار والتراث الثقافي في ظل الصراع»  والتي ينظمها تجمع تراثنا العربي، وهو تآلف يضم عشرات الجامعات ومراكز البحث في الوطن العربي، بإدارة المعماري هادف سالم، وإدارة د. يوسف النتشة، مدير مركز دراسات القدس في جامعة القدس إلى عملية قرصنة من قبل بعض الموتورين من الذباب الإلكتروني المؤيد للصهيونية، وذلك من خلال اختراق رابط الـ»زووم» وشطب الصور مع تعليقات بذيئة وإطلاق صور عارية، ما اضطر المحاضر وإدارة الندوة إلى وقف الندوة مؤقتاً.
وليس مصادفة أن يأتي هذا الفعل الوضيع بعد أيام قليلة من تقرير منظمة العفو الدولية الذي يصم فيه هذا إسرائيل بالعنصرية، وممارسة سياسة هيمنة وفصل عنصري منظمة تجاه الشعب الفلسطيني.
كتب عالم الآثار الإيرلندي كيث ويتلام سنة 1996 كتابه الشجاع بعنوان «اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني».
وصدرت ترجمته العربية سنة 1999 ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أظهر فيه بجلاء كيف جرت عملية صهينة البحث التوراتي الأوروبي والأميركي، وتوظيفه في تبرير المشروع الاستعماري البريطاني الصهيوني على أرض فلسطين، وإسكات التاريخ الفلسطيني والتي شارك فيها علماء آثار توراتيون صهاينة أمثال وليم ألبريت وأرنست رايت ووليام ديفر وآخرون.  
والآن لم تعد دعوة ويتلام منفردة فقد توالت الدراسات وارتفعت الأصوات التي تنحو إلى تحرير الرواية من الأدران الأيديولوجية الصهيونية وتسعى إلى إظهار الحقيقة التاريخية حول تاريخ فلسطين وحول مجريات الصراع على أرض فلسطين، وشارك فيها مؤرخون فلسطينيون، عبروا عن صوت الشعب الأصلي في الداخل والشتات أمثال إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد ونور مصالحة وغادة الكرمي وسليم تماري وبشارة دوماني وأسماء كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، وعلماء آثار وتاريخ أوروبيون أمثال توماس تومبسون ونلز ليمكة وفيليب ديفز وأصوات يهودية جريئة أمثال إيلان بابيه وشلومو ساند، وعودة التضامن الدولي من جديد مع حقوق الشعب الفلسطيني، بما يؤكد أنه لا مناص من مواجهة الحقيقة مهما كانت مرة، إذا ما أريد التعامل مع المستقبل، وأن سياسة إسكات التاريخ العارية قد ولت بلا رجعة.
ارتكب الاحتلال الصهيوني في فلسطين جريمة مزدوجة باحتلاله الأرض وتلفيق رواية حول الضحية، ورغم أن أصواتاً يهودية حرة قامت بكشف المستور، والاعتراف بالحقيقة سواء المتعلقة بعمليات التطهير العرقي والإبادة الثقافية التي ارتكبت سنة 1948 وما تلاها من سياسات بعد الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية سنة 1967، وكان آخرها مجزرة الطنطورة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية العام 1948، فما زال التيار المركزي في الحركة الصهيونية يمارس الإنكار وخداع الذات، في عدم الاعتراف بالحقيقة وأيضاً عدم القدرة على سماعها.
في الوقت الذي يتشدق فيه هذا الكيان بالحرية والديمقراطية ويجد من القيادات الأوروبية والأميركية والعربية المتهافتة من يؤيد ويردد ذلك الهراء.
ولم تجد اتجاهات الاعتراف الاستعمارية المتأخرة في أستراليا ونيوزلندا وكندا بالجرائم المرتكبة تجاه الشعوب الأصلية أي صدى حتى الآن في الكيان الصهيوني المتدثر بالرواية المتهالكة.
يتعلق موضوع المحاضرة بواحد من الموضوعات الجديدة في حقل الدراسات الأثرية والإنسانية حول الآثار والصراع وتأثيره على التراث الثقافي، وما سببته الحروب والصراعات الداخلية من أضرار واستهداف للتراث الثقافي كرمز للهوية الثقافية والوطنية.
وعلى مدار القرن الماضي كان التراث الثقافي لب الصراع السياسي على الأرض والتاريخ، وذلك ما بين روايتين متصارعتين واحدة للسكان الأصليين وهم الشعب الفلسطيني ورواية استيطانية استعمارية صهيونية، ويعود أول فصول هذا الصراع إلى أواخر القرن التاسع عشر، الذي اتسم بالتنافس ما بين القوى الاستعمارية الرئيسة وهي فرنسا وبريطانيا على استملاك الآثار والاستحواذ عليها، وتجلى ذلك في عمل البعثات الأثرية للاهوتيين الأوائل الذين قدموا لتوثيق جغرافية الأراضي المقدسة والتنقيب فيها تحت شعار البحث عن أرض التوراة.
وفي فترة الاحتلال البريطاني تأسست دائرة الآثار ضمن حكومة الانتداب وانتهجت سياسة موالية للخط السياسي للحكومة في تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن يهودي في فلسطين، من خلال التركيز على المواقع التوراتية وإسباغ مسحة تاريخية على المكتشفات الأثرية.
وقد انتهت بنكبة 1948 التي مكنت الكيان من السيطرة على مقدرات البلاد، والذي نتج عنه طرد نحو مليون فلسطيني من مدنهم وقراهم وحقولهم، وما نتج عنه من كيانات جديدة على أرض فلسطين، وفي سنة 1967 استكملت إسرائيل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وارتبط العمل الأثري في الفترة ما بين 1967 و1994 بسياسة الاستيطان والسيطرة على الموارد الثقافية والطبيعية وتدشين نظام فصل عنصري شمولي في الأراضي الفلسطينية، وبعد الاتفاقية الانتقالية سنة 1994 قبلت القيادة الفلسطينية مساومة تاريخية صعبة، بإقامة دولة على حدود العام 1967 في نهاية المرحلة الانتقالية، وفي إطار الاتفاقية الانتقالية تمت إعادة بعث إدارة فلسطينية للآثار والتراث الثقافي بعد توقفها العام 1948، وبدأت الإدارة الجديدة القيام بدورها المنوط بها في مجال التنقيب الأثري وتطوير المواقع الأثرية المهملة والحماية وتأسيس المتاحف، ولكن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بالاتفاقيات المبرمة، وبدلاً من تنفيذ الاتفاقيات قام بتعزيز سياسة الاستيطان والعدوان وعدم الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة والسيطرة على مئات المواقع الأثرية ضمن سور الضم العنصري.
قامت إدارة الآثار والتراث الثقافي بعملها في بناء المؤسسة وتطوير القدرات البشرية  والتنقيب الإنقاذي والمنظم في عدد كبير من المواقع، ثم تطوير مجموعة من المواقع الأثرية كحدائق أثرية وترميم المباني التاريخية وتأسيس المتاحف الأثرية والإثنوغرافية وإطلاق مشروع التراث العالمي. وتعزيز الشراكة الدولية مع المؤسسات الدولية والإقليمية والعربية، التي انتهت العام 2011 باعتراف اليونسكو بالعضوية التامة لفلسطين في المنظمة، والاعتراف الدولي المجزوء بالكيانية الفلسطينية.
لم تلتزم إسرائيل بالبرنامج الزمني لتنفيذ الاتفاقية الانتقالية، وتجمد وجود السلطة الفلسطينية في المناطق المصنفة «أ» و»ب»، ولكن طالما لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بين إسرائيل وفلسطين، تبقى إسرائيل قوة محتلة في الأراضي الفلسطينية ينطبق عليها القانون الدولي الإنساني.
ولا يغير هذه الحقيقة توقيع اتفاقيات التطبيع مع بعض الأنظمة العربية لتجاوز الحقوق الفلسطينية، تحت مسميات الإبراهيمية الوهمية، وأن الحل النهائي يكمن في الاعتراف التام بالحقوق الفلسطينية في أرضهم وتاريخهم.

* باحث في الآثار، مدير عام الآثار الأسبق.