كيف وصل" الموساد" إلى الملك حسين ؟

الإثنين 31 يناير 2022 03:30 م / بتوقيت القدس +2GMT
كيف وصل" الموساد" إلى الملك حسين ؟



ترجمة الهدهد

هآرتس- بقلم أمير أورين- تسمح “ملفات الأرشيف الوطني الإسرائيلي” التي رفعت عنها السرية مؤخراً بإلقاء نظرة خاطفة على إحدى قصص التجسس هذه، فيما يتعلق بمحاولات “إسرائيل” السرية لتنمية العلاقات مع الملك حسين ملك الأردن والحكايات المثيرة ذات الصلة.

في 2 أبريل 1962، وصلت برقية إلى “أبراهام كوهين” في قسم الشرق الأوسط بـ “وزارة الخارجية الإسرائيلية”، قام القسم بتحليل الشؤون الإقليمية وعَمِلَ كنقطة اتصال مع الموساد.

كان كوهين ضابط مخابرات مخضرماً ومراقباً وخبيراً في المصادر والمخبرين الأردنيين، قام بتجنيد العديد منهم، في الأربعينيات من القرن الماضي، كان زائراً متكرراً لبلاط الملك عبد الله، وأصبح لاحقاً ضابطاً كبيراً في المخابرات العسكرية وترأس وحدة المخابرات العسكرية 504، والتي سينتقل العديد من أفرادها على مر السنين إلى الموساد أو وزارة الخارجية.

“أفراهام كوهين”، “ضابط مخابرات إسرائيلي” محنك ومراقب هاشمي، خبير في المصادر والمخبرين الأردنيين

اشتملت البرقية على أخبار مثيرة حول هايوجيف (HAYOGEV)، الاسم الرمزي لمصدر أردني يتردد على لندن وكان يتبع الصحف والإذاعات العربية، لقد تم إدارته كمصدر من لندن لمدة عقد من قبل العديد من الضباط، من بينهم “مردخاي غازيت”، والذي تقلد فيما بعد المدير العام لوزارة الخارجية وصديق “غولدا مئير”.

نبع اهتمام “إسرائيل” الشديد بالمصادر الأردنية من الضرورة الإستراتيجية، حيث كانت الدولة عرضة للتسلل من الحدود المشتركة الطويلة، الممتدة على طول الضفة الغربية حتى صحراء عربة، وكانت محصورة ضد القوات العراقية أو السورية المتمركزة في الأردن.

تم القبض على “هايوجيف” مع العميل “أ”، ليلة 30/3 من قبل “شرطة لندن”، حيث تم اقتيادهم إلى الشرطة وأوضح “أ” أن “هايوجيف” هو صحفي وكاتب مقالات لـ “صوت إسرائيل”.

قال “أ”: “إنه تخلى عن حصانته الدبلوماسية وسلم المواد حتى يتمكنوا من التأكد من عدم تورطه في التجسس، ويؤيد “هايوجيف” التعاون مع إسرائيل، وهو ما يعتبر خيانة بالنسبة للعرب”.

تمسك “أ” بقصة التمويه الخاصة به، وحين أطلق سراحه ترك مقالتين وعدد من المجلات العربية، وطلب لقاء “هايوجيف” ليحثه على التعاون، وكرر له نفس التعليقات، في حضور رجال المباحث.

“تفاجأ الضباط المعتقلون بهوية “أ”، وعلى الرغم من أنه قدم وثيقة وزارة الخارجية، إلا أنهم طلبوا وثيقة إضافية، تخميننا هو أن هناك مفتشاً ورجلاً آخر كانا هناك بشكل روتيني، ورأيا شخصين آخرين خارج المكان يتبادلان الأشياء مع بعضهما”.

ومع ذلك، كان هناك تفسير آخر محتمل، بدلاً من هذه الحكاية التي رويت لمفتش الشرطة، يتصادف رؤية نشاط مشبوه في إحدى الحانات بلندن، كان من الممكن أن تكون هذه عملية لمكافحة التجسس، بقيادة الفرع الخاص لشرطة العاصمة، والذي تم تكليف ضباطه من قبل MI5، كما يتابع التقرير:

“ربما كان الهدف مرتبطاً بطريقة ما بـ “الشرقيين”، فمن المعروف أن شخصين تتطابق أسماؤهما مع أسماء هايوجيف لهما صلات روسية، حيث أن هايوجيف يتحدث اللغة الروسية”.

            حافلات ذات طابقين تدور حول تمثال الأمير ألبرت في سيرك هولبورن في لندن، إنجلترا ، في الضباب الدخاني ليلًا في 6 ديسمبر 1962

كان من الطبيعي أن تستضيف لندن اجتماعات سرية بين رعايا بريطانيين سابقين من ضفتي نهر الأردن، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت بريطانيا العظمى لا تزال تلوح في الأفق على المملكة الهاشمية، التي أرسلت عائلتها المالكة للحصول على التعليم في المدارس الداخلية والأكاديميات العسكرية هناك، واحتفظت بمساكن وحسابات مصرفية ليست بعيدة عن مدينة “وستمنستر” البريطانية، فبالنسبة للهاشميين ستكون هناك إنجلترا دائماً.

وهذا هو السبب في أن “أفراهام كوهين”، مشغل “أ” و “هايوجيف”، والمراقب الحريص على مشهد الشرق الأوسط في لندن، كان أيضاً تحت وصاية على ملف آخر ذي قيمة أعلى يتعلق بالأردن: وهو ملف والدة الملك حسين، الملكة زين.

لماذا اختلط مسؤول في وزارة الخارجية بتعزيز وتقييم المصادر؟

في ذلك الوقت، كانت الخطوط الفاصلة بين مختلف أجهزة الاستخبارات غير واضحة في كثير من الأحيان، حيث كان الموظفون والوزارات والأجهزة السرية المختلفة يتلاعبون بالمصادر والعمليات.

كان “أ” مندوباً للموساد، كان يعتبر عنصراً مهماً في “وزارة الخارجية الإسرائيلية”، ولاعباً رئيسياً في مجالس الدولة تحت حكم “موشيه شاريت” ثم “غولدا مئير”.

رئيس الوزراء “دافيد بن غوريون”، على غرار “ونستون تشرشل” في الحرب العالمية الثانية، تولى أيضاً حقيبة الدفاع، وبالتالي سيطر على مجتمع الاستخبارات بأكمله، بما في ذلك الشاباك والموساد، الذي أصبح، ولا يزال، وكالة المخابرات “في مكتب رئيس الوزراء”.

كان كل من بن غوريون ومئير من قدامى المحاربين في المفاوضات مع شخصيات عربية بارزة قبل عام 1948 وما بعده، كان الإطار الجيوسياسي لهذه الاتصالات واضحاً: كانت مصر أقوى دولة تواجه “إسرائيل” وكانت بمثابة مفتاح الحرب والسلام، أما الأردن الذي يحكم الضفة الغربية والقدس الشرقية، كان الأكثر خطورة.

                                                   الملك عبد الله الأول ملك الأردن في عمان في 8 أكتوبر 1947.

ملكها عبد الله، الذي وافق سراً على التعايش مع “إسرائيل”، تم استنكاره باعتباره خائناً للقضية العربية وتم اغتياله على يد فلسطيني في الحرم الأقصى عام 1951، حفيده حسين تم اعتباره على أنه غير لائق عقلياً للحكم، وعلى الرغم من ذلك سيكون من “النخبة السياسية الإسرائيلية”، ومحاوراً مرحباً به – إذا نجا.

ولد حسين عام 1935، وأصبح ملكاً وهو في الثامنة عشرة من عمره، أطلقوا عليه اسم “هاينوكا” الطفل، كان مقتل حسين ممكن أن يكون بمجرد “رصاصة واحدة”، كما قال بن غوريون، وبعد إحباط واحدة من العديد من المؤامرات في عمان، كان من المستحيل تخيل أنه سيحكم لمدة 46 عاماً، وأن يموت لأسباب طبيعية.

العاهل الأردني الملك حسين يبتسم خلال حفلة “ألف ليلة وليلة” لمساعدة الاتحاد الإنجليزي العربي وصندوق اللاجئين العربي في الأراضي المقدسة في لندن عام 1952 بينما كان طالبًا في أكاديمية ساندهيرست العسكرية

اتضح أن حسين سيتفوق على جميع القتلة، ويعيش أكثر من “بن غوريون” و”شاريت” و”ليفي أشكول” و”مئير” و”مناحيم بيغن” وأيضاً عاش أكثر من شريكه في السلام “يتسحاق رابين”، والذي تم اغتياله بثلاث رصاصات، بالإضافة إلى أنور السادات والعديد من الحكام العرب الآخرين الذين لقوا حتفهم، وكانت موتتهم عنيفة.

منذ بداية حكمه، لم تكن “إسرائيل” لعنة على الحسين، بل كان يخشى من اتساع شهيته التي ترددت الإشاعات بأنه سيتوسع باتجاه الشرق، لكنه كان أكثر اهتماماً بمخططات مصر وسوريا والعراق ضد مملكته الصحراوية الهشة وغير الساحلية تقريباً، سواء عن طريق الغزو أو التخريب أو مزيج من الاثنين.

لقد تربى حسين وهو يعتبر “إسرائيل” ليست فقط أهون الشرين بل صديقاً محتاجاً، كما أشار على “إسرائيل” إلى منح القوات البريطانية والأمريكية حقوق التحليق في مهمتهم الطارئة لإنقاذه من ثورة قومية عربية في عام 1958.

في ذلك الوقت، أرسل حسين مساعده العسكري لإجراء اتصال سري مع الكولونيل في “الجيش الإسرائيلي”، “حاييم هرتسوغ”، الذي أصبح رئيساً للمخابرات العسكرية بعد ذلك، وهكذا تم إنشاء قناة سرية بين ضباط الجيش، تقدم تقاريرها إلى الحسين و”بن غوريون” معاً.

حدث ذلك في خضم عام 1948، عندما كان القادة البارزين هم موشيه ديان وعبد الله التل، أرادت “إسرائيل” المزيد من التواصل المباشر مع الملك، وكانت بحاجة إلى نهج آخر أكثر إبداعاً.

كان يجب أن يتم ذلك خطوة بخطوة، لأنه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كان لقاء مسؤول عربي مع “نظيره الإسرائيلي” يحمل في طياته مخاطر شخصية كبيرة، و”إسرائيل” التي اشتهرت بتسريب فضائحها من القمة وصحافتها الفضولية لا يمكن الاعتماد عليها في الحفاظ على سرية الاتصال.

لا يهم ما ناقشه الاجتماع أو حتى إذا تم رفض “المقترحات الإسرائيلية”، فالضرر سيعم بكل الأحوال، فحقيقة الاتصال بـ “إسرائيل” من شأنها أن تلوث سمعة الحسين، كما فعل بالسادات، في نظر الجماهير ويمكن أن تؤدي إلى سقوطه، سيكون من الضروري إجراء فحص أولي من قبل وسيط موثوق به، مصدر أردني يمكنه أن يضمن نوايا “إسرائيل” الجادة.

في ظل الأجواء المشبوهة، والمربكة أحياناً بجنون العظمة من الانقلابات والمكائد، لا يمكن أن يكون هذا الوسيط مؤتمن، ويمكن أن يكونوا خائنين فقد كانوا مستهلكين.

إن عبد الله الثاني، لديه مودة محدودة لأخيه غير الشقيق الأمير حمزة، الذي أُتهم العام الماضي بالتخطيط لانقلاب.

في المملكة العربية السعودية كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أقل حناناً تجاه إخوانه وأبناء عمومته من آل سعود، الذين احتجز عدد منهم دون توجيه اتهامات إليهم.

بغض النظر عن الأساطير اليونانية والدراما الشكسبيرية، لا يزال هناك فرد واحد من العائلة لا يزال بإمكان الملك الاعتماد عليه، وهي أمه “الملكة الأم”، فمن الناحية النظرية، هي تفكر دائماً بمصلحة نسلها.

كانت والدة حسين، الملكة زين، قريبة منه بشكل خاص، لقد كان ابنها الأكبر والأكثر نجاحاً وكان شقيقها شريف ناصر بن جميل صديق حسين، حيث وصفت ملفات “المخابرات الإسرائيلية” العم ناصر بأنه متنمر وفاسد.

تم تسجيل تحركات الملكة زين في “ملف الملكة”، حيث رصدت التقارير الصحفية سفرها إلى الخارج وهذا يمكن أن يساعد في اتباع نهج لمعرفة ما إذا كانت سيفتح باب الملك “لإسرائيل”، أم لا.

في سبتمبر 1960، تم إدخال مذكرة سرية للغاية في ملف الملكة، وأطلع “أبراهام كوهين” نائب وزير الخارجية، موريس فيشر، على المشاركة في جهود التواصل مع الأنظمة العربية في مناصبه السابقة في فرنسا وتركيا.

وقال كوهين: “فيما يتعلق بنشاطنا لإقامة اتصال مباشر مع الملك حسين، فإننا ندرس مجموعة أمور لإمكانية القيام بذلك من خلال والدته “الملكة زين”، بينما نتلقى من وقت لآخر أخبار عن تقلبات في العلاقة بين الأم والابن، على حد علمنا الآن، هناك سبب للاعتقاد بأن علاقتهما على ما يرام”.

       أوصى كوهين بالاقتراب من حسين على هذا النحو، لأن “المناشدة المباشرة للملك من خلال أحد رجاله يمكن أن يفسرها بشكل عام على أنها حيلة دهاء، ولن يكون لديه هذا القلق إذا قامت به والدته الموجودة في لندن الآن”.

تم تحديد مكان الملكة زين، في لندن، كهدف رئيسي لعملية الوصول إلى الحسين، ولكن كيف يمكن التواصل معها؟

خطرت لكوهين فكرة: من خلال طبيبها (اليهودي).

إن “السفارات الإسرائيلية” ليس لديها طبيب عام، لكن يتم توفير الرعاية الطبية للدبلوماسيين حسب الحاجة، وفي بعض الأحيان تكون هناك أمور حساسة تتطلب توفر “طبيب ثقة”، أطباء دكتوراه محليين إما يعتنون بالمريض بنفسه أو يحيلهم إلى زميل مختص، دون طرح أي أسئلة.

في لندن، ذَكّر “كوهين فيشر” بأن طبيب الثقة هو “إيمانويل هربرت”، “وهو يهودي وصهيوني متحمس اعتنى بالملكة”.

كما كان “هربرت” صديقاً “للسفير الإسرائيلي” السابق الذي خدم لفترة طويلة، و”استدعى مؤخراً السيد شومرون، المستشار السياسي للسفارة، والذي أثار مرة أخرى مسألة صلاته بالأردنيين الملكيين”.

إن دور الدكتور هربرت في تسهيل الاجتماعات الأولى بين حسين و”كبار الإسرائيليين” معروف منذ سنوات عديدة حتى الآن، كما ورد اسم “الملكة زين” في هذا الصدد من قبل كاتب سيرة الحسين، “آفي شلايم”، لكن مذكرة “كوهين فيشر” تكشف عن جانب مذهل لهذا التيسير الناجح للغاية في نهاية المطاف

كان على “هربرت” أن يأخذ زمام المبادرة، فهو في الواقع يضايق “الإسرائيليين” لاستخدام الاتصال كنوع من استغلال المصادر التي كان ضابط الحالة قد تم تكريمه لتحقيقها.

قال كوهين: “طلبنا الإذن بأن يقترب “السيد شومرون” من الدكتور “هربرت” وننظر معه في إمكانية أن يسأل الملكة، كما لو كان بمبادرته الشخصية، ما إذا كانت ستلتقي بـ ممثل إسرائيلي-“.

“فإذا رفضت الملكة، لم يحدث أي ضرر، وقررت فقط عدم قبول اقتراح صديق خاص، إذا وافقت على التشاور مع ممثلنا، فسنقدم اقتراحاً مفصلاً بشأن هويته، والمكان والترتيبات الأمنية”.

          الملك حسين ملك الأردن، بعد ثلاثة أيام من القتال في حرب الأيام الستة، أعلن أنه بعد تعرضه لخسائر فادحة، سيلتزم الأردن بوقف إطلاق النار مع “إسرائيل”

بعد خمسة أيام، رد “فيشر” من وزارة الخارجية، لكن ليس بشكل مكتوب، فكل ما خرج من هذه العملية لا يزال الحلقة المفقودة في السلسلة التي تُوجت بعد أربع سنوات، باستضافة الطبيب الصالح حسين ويعقوب هرتسوغ من وزارة الخارجية، في أول لقاء للملك مع مبعوث من “حكومة إسرائيل”.

في تلك الفترة ستعقد اجتماعات رفيعة المستوى، في دار ضيافة الموساد قبل أسبوعين من حرب 67، عندما حذر حسين رئيسة الوزراء آنذاك “جولدا مئير” من أن الجيش السوري كان في “مواقع ما قبل الهجوم”.

ما هي تفاصيل ما حدث بين الطبيب الودود ومريضه الملكي، وكذلك بين الأم والابن؟

هل تحدثت زين مع حسين بخصوص المخاطرة بلقاء مبعوث أشكول؟

ما هو مؤكد هو أن أطول تحالف غير رسمي بين “إسرائيل” ودولة عربية وُلد في غرف الاستشارات تلك في لندن.

أمير أورين، مراقب مخضرم للشؤون العسكرية والسياسية “لإسرائيل” والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، كتب لصحيفة هآرتس عن الدفاع والحكومة لأكثر من عقدين.