وفق الخرائط.. هكذا تغير وجه القدس منذ الانتداب البريطاني حتى الآن

الأحد 30 يناير 2022 07:43 م / بتوقيت القدس +2GMT
وفق الخرائط.. هكذا تغير وجه القدس منذ الانتداب البريطاني حتى الآن



القدس المحتلة/سما/

هآرتس- بقلم: نير حسون - ابتداء من فسيفساء مأدبا، ومروراً برسومات توضيحية سحرية من العصور الوسطى، وانتهاء برسومات المساحة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، هكذا توثق الخرائط مدينة القدس طوال أكثر من 1500 سنة. رغم محاولات كثيرة لرسم خارطة المدينة التي تشكل بؤرة للحج على مر الأجيال، يبدو أن لا أحد فعل ذلك أفضل من البريطانيين.

 كان رجال الانتداب أول من بدأ برسم خرائط للمدينة بصورة دقيقة ومنهجية، وبعد ذلك، تحولت هذه الرسومات التي أعدتها هيئة الخرائط البريطانية، إلى معيار للحكومات التي ورثت القدس بعد 1948، الإسرائيلية والأردنية. عملياً، حتى بعد سنوات كثيرة على انتهاء الانتداب لم يتم إعداد خرائط بهذا القدر من الدقة مثل الخرائط التي أعدتها “سيرفي اوف بالستاين” البريطانية.

كان عدد من الخرائط البريطانية متاحاً للمشاهدة منذ بضع سنوات في مجموعة تحمل اسم عيران ليئور، الموجودة في موقع المكتبة الوطنية. مؤخراً، رفع قسم الحماية وقسم تخطيط المدينة في بلدية القدس ومكتبة الخرائط في الحرم الجامعي في جبل المشارف التابع للجامعة العبرية، جزءاً منها إلى الشبكة، مقرونة بخارطة حديثة عبر شبكة “جي.آي.اس”.

وشمل المشروع خرائط تاريخية من الأعوام 1935 – 1947، وبعد ذلك، سيتم رفع خرائط من عشرينيات القرن السابق. وقد تم أيضاً إضافة إلى هذه المنظومة، طبقة المباني والمواقع المخصصة للحماية. المنظومة التي يمكن أن يستخدمها مخططون وباحثون للمدينة تكشف للجمهور طبقات غير معروفة من العاصمة، وتمثل ما فقدته على مر الزمن. مخططات بناء وتطوير حضري وشق طرق وسكك حديدية، كل ذلك يحول تشخيص المشهد الطبيعي لخرائط الانتداب إلى مهمة معقدة.

تبدو القدس مدينة ضخمة في هذه الأيام. فهي أكبر من تل أبيب وحيفا معاً، وأوسع من باريس. ولكن العاصمة الانتدابية انتهت بحديقة ساكر، التي تحدد حدود المدينة المرسومة في الخرائط. في السابق، كان مبنى الكنيست وبيت هكيرم وكريات يوفيل موجودة بعيداً عن حدود المدينة. من الجهة الأخرى، مرت الحدود في الخط الشرقي لسور البلدة القديمة. وأجزاء كبيرة، تعود الآن لشرقي القدس، كانت في حينه خارجها.

يبدو أن أكبر التغييرات حدثت في التلال الواقعة حول المدينة الانتدابية. وهي تلال تمت تسويتها وبني عليها عشرات آلاف الشقق، لكن الخرائط البريطانية لمركز المدينة تكشف عملية معاكسة، اختفاء مبان وحتى أحياء، لصالح مساحات مفتوحة، إذ يمكن رؤية دير الأخوات الإصلاحيات قرب الباب الجديد، وهو دير كان جزءاً من الحي الفرنسي في المدينة، وهو في موقع المعركة الحاسمة في 1948. وقام رجال المتفجرات من الهاغاناة بتفجيره لقطع الطريق على مدرعات الفيلق الأردني. بعد العام 1967 أزيلت أنقاضه، وأثناء العمل على إقامة القطار الخفيف، تم اكتشاف بقايا من المبنى المدمر، بما في ذلك زجاجات عطور مليئة.

 وجدت هذه الظاهرة بحجم أوسع حول البلدة القديمة. فالبحث عن خرائط قديمة يكشف عن “الأحياء المخفية”، بيوت نيسان بيك، جورة العناب، شمعة وغيرها. وجودها على خط التماس تسبب في محو هذه الأحياء. الآن، بدلاً من بيوت نيسان بيك، التي كانت قرب باب العامود، ثمة محطة مركزية ومحطة للقطار الخفيف. وفي مكان جورة العناب الآن ساحة عشب أخضر كبيرة، وجنوب ورشات الفنانين في “حوتسوت هيوتسير”. وثمة ساحة واسعة الآن من العشب الأخضر تمتد حتى سفوح “سينما تيك” حلت في المكان الذي كان فيه حي شمعة.

 وتتكشف مفاجآت أخرى بعد فحص أكثر دقة في الخرائط. فبين الحيين في بركة السلطان كان مستشفى للحيوانات يعود لعام 1935، يتم فيه علاج الجمال والخيول بالأساس. ومن يعرف المشهد في منطقة حديقة الورود والمحكمة العليا يجد تفسيراً للانجرافات الصغيرة التي تقطع المشهد في المنطقة، فقد كانت في هذا المكان محاجر.

في خارطة 1935 يوجد شيء آخر مهم. فخلف ستاد جمعية الشبان المسيحية، الذي هدم وتحول إلى حي فاخر، ثمة إشارة لموقع للجيش. أشار راسمو الخرائط الدقيقون إلى مكان سكن الضباط وخزانات المياه والمراحيض في الموقع. كان يمكن الذهاب من الموقع العسكري إلى شارع سانت لويس والمرور في زاوية شارع ستوريس حتى ميدان اللنبي. يبدو أن الأسماء تبدلت مع التغييرات السياسية. ففي هذه الأيام سيكون نفس هذا المسار على شارع الملك شلومو إلى زاوية شارع كورش ومن هناك إلى ميدان جيش الدفاع الإسرائيلي. وحل محل الملكة هيلانة في مركز المدينة الملكة الصليبية ميلسيندا، وحل الحاخام كوك محل ابن بطوطة (الذي بقي في شرقي المدينة) وحل المتبرع نتان شتراوس محل المندوب السامي جون سونلور.

تغيرت المدينة بدرجة كبيرة في معظم أجزائها. مناطق مفتوحة وبساتين ومدرجات جبلية وقرى صغيرة ومبان تاريخية، كل ذلك تم محوه لصالح أحياء جديدة وشوارع ومحلات تجارية. وكان قرب قرية الشيخ بدر مباني الأمة الموجودة حالياً. أما قرية كرم السيلا فإلى جنوبها الآن “سينما سيتي”. تم تهجير هذه القرى في 1948 ومحيت من المشهد. كما اختفى من ساحة المجمع التجاري “همشبير” في مركز المدينة مبنى ضخم يعود لمدرسة طاليثا قومي. وتجرى هدم معظم حي ماميلا [حي مأمن الله، بالعربي] لصالح شارع المحلات التجارية.

في الأسبوع الماضي تم مسح مبنى آخر يظهر في جميع الخرائط. في نهاية القرن التاسع عشر بنت عائلة الحسيني، وهي العائلة الأكثر ثراء في القدس في تلك الفترة، بيتاً صيفياً على تلة، تحولت فيما بعد إلى حي الشيخ جراح. وأقيم قرب البيت مبنى صغير للخدمات مع سقف محدب وفتحات دائرية. يظهر المبنى بشكل جيد في الخرائط البريطانية، وحدثت فيه تغييرات كثيرة مع مرور السنوات؛ فقد وضع فوقه سطح قرميد، وأحيط ببناء حديث. وإلى حين إخلائه من قبل الشرطة في الأسبوع الماضي، كانت تعيش فيه عائلة صلاحية منذ سنوات أو عقود، وهذا يتعلق بمن يُسأل. ولكن البلدية قامت بمصادرة المنطقة، وستقام فيها الآن مدرسة للتعليم الخاص. بعد الإخلاء جاءت جرافة وهدمت كل المبنى، القديم والجديد. وابتعدت القدس خطوة أخرى عن ماضيها الانتدابي.