شدد الأكاديمي والمؤرخ اليهودي البريطاني، آفي شليم، على أنه ما دامت إسرائيل تقول إنها لن تتفاوض أبدا من أجل تحقيق السلام، فإنه ينبغي على بريطانيا أن تعيد النظر في سياستها والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وأوضح الأكاديمي المؤيد للقضية الفلسطينية، في مقال نشرته صحيفة "ميدل إيست آي"، أنه تحقيقا لرغبات السياسة الإسرائيلية الداخلية، فقد تم إسقاط ورقة التوت التي ما لبثت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا تخفي وراءها انحيازها الملموس تجاه إسرائيل، وهي الإصرار على أن الحل الوحيد يتمثل في إجراء مفاوضات مباشرة بين الجانبين تفضي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للاستمرار بجوار إسرائيل.
وأشار إلى أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صنع في بريطانيا. ففي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور، الذي تعهد بدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، شريطة ألا ينال ذلك من الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية في البلد.
وأضاف أنه على الرغم من أن الموقف الرسمي للحكومة يتمثل في دعم حل الدولتين كوسيلة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن سجلها هو الدعم غير المشروط لإسرائيل مع تجاهل تام للحقوق الفلسطينية.
وتاليا نص المقال كاملا:
في الثالث من كانون الثاني/ يناير صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد بشيء غير عادي. من المفترض بحسب اتفاق الائتلاف الذي أبرم في العام الماضي أن يحل في آب/ أغسطس 2022 محل نفتالي بينيت في منصب رئيس الوزراء. جاء في تصريحه ما يأتي: "عندما أكون رئيساً للوزراء، سنظل على موقفنا من عدم إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين.. فاتفاق الائتلاف يمنع أي تقدم في هذا المجال".
وبهذا نكون قد سمعناها من فم الحصان نفسه: لا يوجد شريك إسرائيلي من أجل السلام. كما أنه لا يوجد أي مجال للتوهم بشأن نوايا إسرائيل – فبينما تستمر في تحاشي المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، تسعى إسرائيل للحفاظ على الوضع القائم كما هو.
جاء توصيف هذا الوضع القائم مجملا في عنوان تقرير أخير صادر عن بيتسيلم، منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية المحترمة، ونصه: "نظام تفوق عنصري يهودي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط: هذا هو الأبارتيد (الفصل العنصري)".
تحقيقاً لرغبات السياسة الإسرائيلية الداخلية، لقد تم إسقاط ورقة التوت التي ما لبثت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا تخفي وراءها انحيازها الملموس تجاه إسرائيل – وهي الإصرار على أن الحل الوحيد يتمثل في إجراء مفاوضات مباشرة بين الجانبين تفضي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للاستمرار بجوار إسرائيل.
في عام 2016، تحطمت عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة على صخرة التعنت الإسرائيلي. كانت عملية السلام، بشكل أو بآخر، أسوأ من عبثية، إذ إن إسرائيل، وتحت غطاء الانهماك في مفاوضات السلام، تمكنت من المضي قدماً في مشروعها الاستعماري غير القانوني داخل الضفة الغربية. والآن، وبعد أن طارت ورقة التوت، ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لحكومة المحافظين التي يرأسها بوريس جونسون؟
معايير مزدوجة
من المهم ههنا الإشارة إلى حقيقة تاريخية، ألا وهي أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إنما صنع في بريطانيا. ففي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور، الذي تعهد بدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، شريطة ألا ينال ذلك من الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية في البلد.
كان اليهود حينذاك يشكلون بالكاد عشرة بالمائة من تعداد السكان ويملكون ما لا يزيد على اثنين بالمائة من الأرض. ومع ذلك فقد آثرت بريطانيا الحقوق القومية للأقلية بينما أنكرت الحقوق القومية الأغلبية.
لطالما ظلت ازدواجية المعايير هي الصفة المميزة لسياسة المحافظين تجاه الصراع بدءاً من آرثر جيمز بلفور وانتهاء برئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون. تسلمت بريطانيا الانتداب على فلسطين في الفترة من 1920 إلى 1948. وكان حجر الزاوية في السياسة البريطانية يتمثل في منع إجراء أي انتخابات حتى يشكل اليهود الأغلبية.
كان العداء تجاه إقامة دولة فلسطينية عاملاً ثابتاً في السياسة البريطانية في الفترة من 1947 وحتى 1949، ولم تأل بريطانيا الإمبريالية جهداً في تمكين الحركة الصهيونية من المضي قدماً في الاستيلاء الممنهج على كل أراضي فلسطين، وهي العملية التي استمرت بلا هوادة حتى يومنا هذا.
واليوم، لا يقل حزب المحافظين صهيونية عما كان عليه باستمرار، إذ أن ما يقرب من ثمانين بالمائة من نواب البرلمان المحافظين هم أعضاء في جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين، وأكثر من ثلث وزراء الحكومة، بما في ذلك جونسون نفسه، قاموا برحلات خارجية ممولة من قبل الحكومة الإسرائيلية أو من قبل جماعات الضغط المرتبطة بها.
وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي للحكومة يتمثل في دعم حل الدولتين كوسيلة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن سجلها هو الدعم غير المشروط لإسرائيل مع تجاهل تام للحقوق الفلسطينية.
في عام 2017، ومن موقعه كوزير للخارجية، رفض جونسون طلباً بأن تحتفي بريطانيا بالذكرى المئوية لوعد بلفور من خلال الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، وأعلن أن "الظرف غير مناسب للعب هذه الورقة." ونظراً لأن الاعتراف بفلسطين من شأنه أن يعزز التوجه نحو حل الدولتين من خلال منح الفلسطينيين تبجيلاً مكافئاً، فقد كان ذلك مبرراً غير مقنع للقعود عن العمل.
ويتجلى انحياز جونسون وتحزبه مع إسرائيل أكثر فأكثر من خلال رفضه المستمر لجميع الجهود التي تبذل من أجل إخضاع إسرائيل للمحاسبة على ممارساتها غير القانونية وعلى ما ترتكبه من جرائم حرب.
الانفصام عن الواقع
في عام 2021، عارض جونسون تحقيقاً للمحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب التي يزعم ارتكابها داخل الأراضي التي تحتلها إسرائيل. وفي رسالة وجهها إلى جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين، قال جونسون إنه مع احترام حكومته لاستقلالية المحكمة إلا أنها تعارض قيامها بهذا التحقيق بالذات. وكتب يقول: "يعطي هذا التحقيق الانطباع بأن هجوماً منحازاً ومتحاملاً يشن على بلد صديق وحليف لبريطانيا".
يتمثل فساد المنطق الوارد في هذا التصريح بالقول إنه نظراً لأن إسرائيل صديق وحليف لبريطانيا فإن ذلك يضعها فوق القانون الدولي وفوق المساءلة الدولية.
يفهم من تصريح لابيد أن الأساس الذي تقوم عليه سياسة حزب المحافظين بأسرها منفصمة تماماً عن الواقع إذ تزعم بأن يد إسرائيل ممتدة باستمرار نحو السلام، وأن الحل ممكن لو أن الفلسطينيين فقط يلجمون ولعهم بممارسة العنف ويحضرون إلى طاولة المفاوضات.
تحتاج الحكومة البريطانية لأن تستمع إلى تصريحات لابيد الأخيرة ولأن تعيد تقييم سياستها في ضوء تلك التصريحات. تحتاج لأن تصحو من غفوتها وأن تشتم رائحة القهوة. تحتاج لأن تقف وجهاً لوجه أمام حقيقة أن الفلسطينيين ليسوا السبب الرئيسي للانسداد وإنما التعنت الإسرائيلي. لقد تداعت السياسة القديمة وثمة حاجة ماسة إلى صياغة سياسة جديدة.
بالنسبة لجونسون شخصياً، تشكل تصريحات لابيد تحدياً ولكنها في نفس الوقت فرصة سانحة. فلطالما فهم جونسون أن وعد بلفور كان جائراً جداً بحق الفلسطينيين وأن تبعاته كانت مأساوية.
ففي كتابه الذي صدر في عام 2014 بعنوان "ذي تشيرشيل فاكتور"، وصف جونسون وعد بلفور بأنه "متنافر بشكل مأساوي". ثم من منصبه كوزير للخارجية في عام 2017، اعترف جونسون بعد تردد بأن بريطانيا قد تعترف بفلسطين عندما يكون الوقت ملائماً.
من المؤكد أن الوقت بات الآن ملائماً. ورغم أن الصراع لن يحله الاعتراف بفلسطين، ولكن الاعتراف سيكون بداية تصفية حساب تاريخية بين بريطانيا وضحايا سياستها تجاه فلسطين.