قضية زوال إسرائيل من عدمه، باتت تُطرَح وبقوّةٍ حتى في كيان الاحتلال، إذْ أنّه على الرغم من المحاولات الإسرائيليّة الحثيثة للتأكيد على أنّ الدولة العبريّة باتت قوّة عظمى إقليميًا وحتى عالميًا، تبدو الثغرات التي تعصِف بالمُجتمع الصهيونيّ خطيرةٍ للغاية، وباتت تُهدِّد بقاء هذا الدولة التي تمّ زرعها في فلسطين، في أكبر وأخطر جريمةٍ في التاريخ الحديث.
***
وللتاريخ نُسجِّل هنا أنّه ومنذ عدّة سنوات يقوم الكيان بنشر قائمة التهديدات التي تُواجِهه، واللافت أوْ بالأحرى عدم اللافت، أنّ إيران تتبوّأ المكان الأوّل باعتبارها تهديدًا إستراتيجيًا- وجوديًا على الدولة العبريّة، يليها حزب الله اللبنانيّ، فيما تحِّل حركة (حماس) في المكان الثالث، وغنيٌّ عن القول إنّ التقدير الإسرائيليّ يتجاهَل عن سبق الإصرار والترصّد التنظيمات الفلسطينيّة الأخرى التي ما زالت تتمسّك بالكفاح المُسلّح، مثل الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وحركة (الجهاد الإسلاميّ).
***
ولا نتجنّى على الحقيقة الدامِغة بأنّ الصهاينة، خلافًا للفلسطينيين، لا يعرِفون المعنى الحقيقيّ للانتماء للأرض، لأنّه عميقًا في العقل الباطنيّ، يؤمنون بأنّ الأرض التي سلبوها وشرّدوا شعبها، ليست لهم، وأنّهم عمليًا حالةً طارِئةً في فلسطين، وفقط للتدليل على عمق هذه المعضلة نُشير في هذا السياق إلى أنّ آلاف الإسرائيليين “هاجروا” في السنوات الأخيرة من فلسطين (إسرائيل) إلى ألمانيا لأنّ سعر اللبن الجاهِز هناك أرخص بكثير من ثمنه في الكيان، وقامت الدنيا ولم تقعُد حيّال هذه الظاهرة، ولكنّ المُهاجرين قرّرّوا البقاء في أوروبا.
***
مثالٌ آخر على عدم الانتماء للأرض هو هروب عشرات آلاف الإسرائيليين من تل أبيب خلال حرب الخليج الأولى عام 1991 عندما دكّ الرئيس العراقيّ الأسبق، الشهيد البطل صدّام حسين، الكيان بالصواريخ، وهذا الهروب الجماعيّ، الذي وصفه رئيس بلدية تل أبيب آنذاك، شلومو لاهط، بالخيانة العُظمى، يؤكِّد لكلّ مَنْ في رأسه عينان هشاشة تعاضد وتماسك المجتمع الصهيونيّ، وفشل نظرية مَنْ يُطلِقون عليه “مؤسس إسرائيل”، دافيد بن غوريون، بصهر الصهاينة في بوثقةٍ واحدةٍ هي الأمّة الإسرائيليّة. وهذا السيناريو عاد وبقوّةٍ خلال حرب لبنان الثانيّة عندما قصف حزب الله اللبنانيّ شمال الكيان بالصواريخ ووصل إلى ما بعد، بعد حيفا، الأمر الذي دفع أكثر من مليون صهيونيٍّ إلى الهرب من الشمال إلى مركز الدولة العبريّة، خوفًا من صواريخ حزب الله الـ”بدائيّة”.
***
ولكن، كلّ ما ذُكِر آنفًا من أعداءٍ خارجيين وداخليين لكيان الاحتلال، لا يُعادِل مُجتمِعًا العدوّ الحقيقيّ لدولة الاحتلال، وهم عرب الـ48، أيْ الفلسطينيين الذين يسكنون داخل ما يُطلَق عليه الخّط الأخضر، والذين وصل عددهم إلى أكثر من مليون وـ600 ألف، لا يشمل الجولان العربيّ السوريّ المُحتّل والقدس العربيّة المُحتلّة. وهذه الأقليّة الأصلانيّة، التي بقيت بعد النكبة المنكودة عام 1948 تُعتبَر بنظر صُنّاع القرار في تل أبيب مشكلةً عويصةً من الناحية الأمنيّة، وبرزت “خطورة” فلسطينيي الداخل في العدوان البربريّ الأخير ضدّ قطاع غزّة في أيّار (مايو) الماضي، إذْ أنّه خلافًا للتوقعّات الصهيونيّة هبّ العرب الفلسطينيين في الداخل المُحتّل تأييدًا لإخوتهم في قطاع غزّة، واندلعت مواجهاتٍ عنيفةٍ بينهم وبين شرطة الاحتلال والمُستوطنين، الأمر الذي فاجأ الجميع. وهذه الهبّة اعتُبرت من قبل الصهاينة علامةً فارِقةً في العلاقات بين فلسطينيي الداخل وبين “دولتهم”، وبات الخبراء والمُحللين والمُختّصين يُناقِشون هذا التغيير ويسعون لإيجاد المُبررات لتسويغ هذا التصرّف.
***
وأكثر من ذلك، هناك العديد من الصهاينة من خبراءٍ وساسةٍ وجنرالات في جيش الاحتلال يؤكِّدون أنّه في حال اندلاع مُواجهةٍ بين الكيان وحزب الله، وتمكّن الحزب من “احتلال” مستوطناتٍ في شمال الكيان، فإنّ الـ”عرب في إسرائيل”، يُضيف الصهاينة، سينضّمون إلى حزب الله ضدّ جيش الاحتلال، وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الأقوال تندرِج في إطار التحريض الصهيونيّ المُنفلِت على الناطقين بالضاد، داخل وخارج كيان الاحتلال.
***
والأخطر ممّا سُقناه عن فلسطينيي الداخل هو الحديث الجديد عن إدخال جهاز الأمن العّام (الشاباك) إلى المجمعات العربيّة في أراضي الـ48 بذريعة محاربة الجريمة المتفشيّة، إذْ أنّه منذ مطلع العام 2021 لقي أكثر من 110 عربيًا فلسطينيًا مصرعهم نتيجة استفحال الجريمة، في حين لم تتمكّن شرطة الاحتلال من فكّ رموز الجريمة، ولا نُجافي الحقيقة بتاتًا إذا جزمنا بأنّه طالما بقيَ السلاح غيرُ المُرخّص الذي يمتلكه العرب في الداخل المُحتّل مُوجَّه إلى العرب، فإنّ ذلك يصُبّ في المصلحة الإستراتيجيّة للدولة الصهيونيّة، ولكن في حال تمّ توجيه السلاح إلى الصهاينة، فإنّ التعامل مع الجريمة سيكون مغايرًا.
***
وَجَبَ التوضيح أنّ كلّ ما سُقناه بأنّ الكيان يعيش أزمةً داخليّةً حقيقيّةً، يستنِد ويعتمِد على مصادر ودراساتٍ صهيونيّةٍ، وإذا قُمنا بجمع التهديدات الخارجيّة مع تلك الداخليّة، فإنّ الكيان في أوائل العام 2022 يُحاوِل تصدير أزماته إلى الخارج وإيهام الصهاينة بخطورة التهديدات الداخليّة، ولكنّ هذه الإستراتيجيّة لا يُكتَب لها النجاح، وبالتالي نتوقّع تفاقم الأزمات الداخليّة وتحوّلها إلى تهديداتٍ إستراتيجيّةٍ خطيرةٍ، فهل ستقود هذه المعضلات في نهاية المطاف إلى هروبٍ جماعيٍّ للصهاينة من فلسطين المُغتصبة؟
***
وفي المُحصلّة العامّة نقول إنّ إسرائيل هي دولة مهزوزة، مأزومة، وربّما في طريقها إلى الهزيمة، ذلك أنّه بحسب وزير الماليّة الإسرائيليّ المُتطرِّف، أفيغدور ليبرمان، لم يُحقِّق الجيش الإسرائيليّ أيّ انتصارٍ منذ عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967، والمعروف عربيًا بالنكسة، علمًا أنّه خاض الحروب والعمليات الكثيرة منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، وليبرمان نفسه، وهو وزير الأمن السابِق، أكّد أنّ حزب الله بات أقوى عسكريًا من دولٍ عديدةٍ في حلف الناتو (شمال الأطلسيّ).
***
ونخلُص إلى القول إنّه بناءً على ما تقدّم، ومع استمرار إيران في برنامجها النوويّ ومواصلة حزب الله تعاظمه العسكريّ وزيادة قوّة المُقاومة الفلسطينيّة في القطاع بصورةٍ كبيرةٍ، وبالمُقابِل تفاقم الشروخات داخِل المجتمع الصهيونيّ وعدم انضباطه وتعلّقه بالأرض، يجعل السؤال: هل زوال إسرائيل غدا حقيقةً أمْ زال وهمًا؟ يجعله سؤالاً واقعيًا في زمن التغيّرات والمُتغيِّرات في موازين القوى وقواعد الاشتباك.
كاتبٌ ومُحلِّلٌ سياسيٌّ عربيٌّ من قرية ترشيحا، شمال فلسطين المُحتلّة