كل هذا الهدوء..سما حسن

الخميس 13 يناير 2022 11:49 ص / بتوقيت القدس +2GMT



عاد الهدوء للحي الذي أقطن فيه، واستتب الأمن كما أعلن دوماً متندرة للتدليل على السكون التام وزوال الصخب والضجيج، وهكذا عاد التلاميذ الصغار إلى المدارس في غزة بعد انتهاء إجازة نصف العام.
كان الصخب والصراخ لا ينقطع تحت نافذة غرفتي تماما حتى والمطر ينهمر، والإعلان عن منخفضات جوية قارسة البرودة قادمة يشبه مرور نملة من أمامك وتحذيرك من أن تدوسها بقدميك، ولكنك في الحقيقة لم تكن تراها أو تشعر بوجودها، وكان ذلك حال الصبية في الحي الذين لم يكونوا يغادرون الشارع إلا في وقت متأخر من الليل لا أدركه لأن النوم يدركني قبل ان يعودوا إلى بيوتهم.
كنت أسمع أصواتهم وأعرف من خلال هذه الأصوات أنهم يلعبون ألعاب الشتاء الشعبية التقليدية، وكنت أفرق صوت الفائز من الخاسر، وصوت المغلوب على أمره من صوت القوي المهيمن والذي يفرد عضلاته لسبب ما، ربما لأن خلفه أباً ثرياً تقف سيارته على مقربة من مكان لعبهم، أو يقع محل كبير على ناصية الشارع لوالد طفل آخر فيذهب له الصبية لشراء الحاجيات الصغيرة، وبذهابه بصحبتهم فهم يحصلون على اكراميات من صاحب البقالة الذي لا يحتاج ليوصيهم بولده خيراً، بل هم يفعلون ذلك دون توصية فيتركون له الكرة يقودها بقدمه الصغيرة حيث يشاء.
وهكذا يلعب الصبية طيلة الوقت بالبلى الملونة ويحفرون الحفر ويخطون الخطوط على الأرض المبتلة بماء المطر، وفي بعض الأحيان تكون الأرض مبللة لدرجة الوحل ولكنهم لا يتوقفون عن اللعب. أما لعبة السيجة فتلك أعرف طقوسها من كلمات متناقلة ما بين العمودي والأفقي والمائل، وكأنهم في حصة هندسة حتى يعلن عن فوز أحدهم وخسارة الآخر الذي يلقي بنوى حبات الزيتون غاضباً، ويترك المكان ويغيب صوته واسمه، ثم يعود ويهلل أحدهم بأنه قد عاد مع شطيرة طازجة وساخنة ويوصونه بأن يذهب ليحضر لهم شطائر أخرى، وحين يبدي تمنعاً تسمع صوتهم وهم يقتسمون شطيرته فيما بينهم ويعلن طفل سمج عن جبن صاحب الشطيرة وبخل أهله.
اليوم افتقد الأصوات والألعاب والتي أثبتت لي قطعاً وبما لا يدع مجالاً للشك أننا نولد أبرياء، نحن أطفال نحب بعضنا البعض حتى يتدخل الكبار، فابن الثري يلعب مع ابن أشد الأطفال فقراً في الحي، ويتقاسمون الشطائر والحلوى في صخب أحببته واعتدته، وهكذا حدثت ووقعت الألفة فيما بينهم، وحدثت ألفة بيني وبين صخبهم الذي عرفني على أسمائهم وشخصياتهم دون أن أراهم.
في المرات القليلة التي كنت أنزل فيها إلى الشارع واصبح بين الصبية في الحي الضيق والمفضي إلى شارع رئيسي ضخم من شوارع مدينة غزة كان الصبية يكفون عن اللعب احتراما للمارة، ويتوقفون حتى عن الكلام ويتبادلون الهمس بينهم، بما يعني أن علينا ان نتذكر على من توقف دور اللعب، أو عدد الأشواط التي أحرزها كل واحد لكي لا ينسوا ويتعاركوا ويشتمون بعضهم البعض، وما ان أمر وأبتعد حتى أسمع صوت ضربة الكرة القوية من مقدمة قدم أحدهم، فلا ألتفت ولكني أتوقع ان صاحبها هو نفسه الذي يصرخ غاضباً في كل مرة تدخل الكرة إلى مرماه.
وهكذا حصلت ألفة ريبة بيني وبين هؤلاء الصبية في الحي، الصبية الذين لا يذكرون المدرسة ولا يبدون شوقاً لها وكأنهم انزلقوا من بطون أمهاتهم لكي يلعبوا فقط، تحت المطر ووسط الوحل ومن فوقه أيضاً، ولكنهم سعداء لدرجة لا توصف، لدرجة أن تسمع صوت أُم أحدهم يأتي من بعيد وهي تلعن الإجازة واللعب الذي يُنسي «اسم الله وحواليه» تناول طعامه، حتى اصفر لونه وبهت شعره، ولكنه لا يهتم حتى يأتي أبوه فيشده من أذنه بملابسه المتسخة وأنفه الذي يسيل منه المخاط نحو باب البيت.
كل هذا الهدوء اليوم والصغار يعودون إلى مدارسهم ويخلو الزقاق الضيق الذي يفصل البناية التي أقيم فيها عن الشارع الرئيسي، أفتقد نعمة كنت أعيش وسطها وبها ومعها، نعمة هذا الصخب الذي يوحي بالحياة، والهدوء هذا ربما لا يشبه سوى الموت، أفتقد الصراخ واللعنات والمعارك الصغيرة التي لا تنم إلا عن براءة طفولة وأخاف من هذا الهدوء حولي، أخاف كثيراً.