في بعض الأحيان أسرح بأفكاري وأتساءل سؤالاً بيني وبينها، وأستعرض بعض الحالات التي أصادفها لمآس وضحايا، وأكتشف أن الناس تظلم بعضها البعض رغم الظلم الأكبر الواقع عليها، ففي غزة وحيث يعيش السكان ظروفاً بالغة القسوة لا تخفى على أحد - ولستُ بحاجة لكي أعددها، يكفي توقف الإعمار بعد العدوان الأخير على غزة وتشريد مئات العائلات من بيوتها- فإن الإنسان لا يتوقف عن ظلم أخيه الإنسان.
ربما تطغى أنانية الإنسان مرة، وربما يريد الإنسان أن يجد طريقاً ليصحح بعض الأخطاء، ولكنه يوقع بعض الضحايا في طريقه، وفي أحيان كثيرة حين تطلق على شخص بأنه جانٍ فأنت تفند حيثيات الجريمة وتكتشف أنه ضحية، والضحية يتحول إلى جانٍ مع مرور الوقت، بسبب أنه يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومما تبقى من حياته.
سرحتُ كما قلت لكم مع أفكاري التي أوصلتني لبيت متهالك في أحد مخيمات اللاجئين، وحيث قرر الجاران أن يتوجا علاقة المحبة والجيرة بالنسب والمصاهرة، تزوج الابن بالابنة، وهما في سن صغيرة، فالابنة في الخامسة عشرة من عمرها والابن لم يُكمل عامه السابع عشر، وهكذا تم الزواج والذي أثمر عن سبعة أطفال خلال سنوات قليلة، وخلالها كان القرش يتضاءل والرزق يتناقص، وبدأت الحياة تتغير أمام عينَي الزوج الذي أصبح في الثلاثين من عمره، وأصبح يرى وهو في محل الملابس الصغير الذي يديره أشكالاً وأصنافاً من النساء اللواتي هن في الحقيقة أقلَّ جمالاً من زوجته، ولكنهن يعنين بهندامهم وأناقتهم ويضعن المساحيق على وجوههن، وينثرن العطور على أجسامهن، وهكذا بات يحلم بامرأة جديدة غير تلك التي لا تفعل شيئاً سوى الركض خلف الصغار، وتغيير الملابس وغسلها، وغسل أواني الطعام حتى تشققت أصابعها، وهكذا وجد نفسه مندفعاً لكي يغير حياته، ولم يفكر بالأطفال الذين هم ضحايا لحياة زوجية بدأت بداية مبكرة وخاطئة.
قرر أن يتزوج، والغريب ان والديه قد شجعاه على ذلك، فابنهما مازال شاباً وسيماً فيما تهالكت زوجته وأصبحت تعاني من زيادة الوزن بسبب تكرار الولادات المتلاحقة، وهكذا أعلن زواجه الثاني والذي لم ترض عنه الزوجة الأولى، وقررت أن تعود إلى بيت أبيها، وتركت الأطفال السبعة في مهب الريح.
بالفعل، لقد أصبح الأطفال في مهب الريح، فلا الأب يجد الوقت لكي يهتم بهم، ولا الأم قادرة على إعالتهم، ولا حتى يجدون ترحيباً في بيت الجد، وكلما جاؤوا لزيارة الأم فهم يسمعون تعليقاً واحداً من الجميع: اذهبوا لأبيكم الذي رمى أُمكم، وهكذا كان الأولاد هم ورقة الضغط التي دفعت الثمن في الحقيقة والأم تعتبرهم ورقة ضغط، والأب يعتبرهم ورقة ضغط، فهي تريد أن تضغط على الأب لكي يتخلى عن الزوجة الجديدة ويعود لكومة الأطفال، والأب يريدهم ورقة ضغط لكي تقبل الأم لكي تكون زوجة بالاسم وتقبع في بيتها لكي تربي الأولاد فقط ولا يعترف بها كزوجة أولى، بعد أن قرر أن يجدد حياته ويصبح له زوجة رشيقة أنيقة، وقد استطاع ان يخطط جيداً فاختارها عاقراً ولكنها شابة تعتني بنفسها ولا تريد سوى زوج يقبل بها، ويحقق لها السترة بعيداً عن بيت عائلتها التي تراها عبئاً بعد طلاقها الأول لعدم قدرتها على الإنجاب.
وهكذا أصبح المخيم يشهد سبعة أطفال ضحايا يجوبون الشوارع ويقضون ليلهم في بيت الأب الفارغ من الأم والفارغ من كل شيء، والمفتقر لدفء الأم وللنظافة والترتيب، وأصبحوا يقضون نهارهم في جولات لبيت الأُم ويُطردون في كل مرة، ولكنهم لا يفقدون الأمل بأن تقبل الأم بالأمر الواقع.
وحتى تقبل الأُم بالأمر الواقع فأنت تلتقي بأطفال معفّرين مغبّرين، ولا ينطقون سوى بكلام بذيء هو كلام أولاد الشوارع، ويعادون ويعتدون على الرائح والغادي في الحي، ولكن لا أحد يدرك بأنهم ضحايا، وبأن الأب والأم قبل ذلك كانا من الضحايا، والجميع ينظر إليهم بأنهم متشردون يجب إيداعهم إحدى دور رعاية الأحداث والمشردين.