كانت ذكرى مرور أربع سنوات على تطبيق خطة الانفصال الإسرائيلية عن قطاع غزة وبعض أجزاء من شمال الضفة الغربية خلال صيف 2005، والتي صادفت حديثاً، مناسبة كي يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، أن تفكيك مستوطنات إسرائيلية من جانب واحد هو خطأ مريع ولن يتكرّر، وكي يؤكد مرة أخرى تمسكه بـ «اتفاق» مع الطرف الفلسطيني يقوم على شرطين: الأول - اعتراف فلسطيني لا يُردّ بدولة إسرائيل (اليهودية طبعاً)، الثاني- اعتماد تدابير أمنية يمكن ضمان استمراريتها وفرضها من خلال نزع حقيقي للسلاح في الأراضي التي تنسحب إسرائيل منها (تصريحاته خلال جلسة الحكومة الإسرائيلية في 9 آب (أغسطس) 2009. غير أن اعتبار تفكيك مستوطنات غزة من جانب واحد هو الخطأ بعينه، ليس رأي رئيس الحكومة وحزب الليكود فقط، فبالتزامن مع تصريحات نتانياهو السالفة أعلن أحد أقطاب حزب العمل، بنيامين بن إليعازار، الوزير في الحكومة الحالية ووزير الدفاع الأسبق، في سياق مقابلة إذاعية (أدلى بها في يوم 14 آب 2009)، أن الانفصال عن غزة من جانب واحد، والذي أيده حزبه، كان خطأ فادحاً ينبغي عدم تكراره، وذلك بسبب الفشل في إيجاد أنموذج يمكن أن يغري الآخرين عن طريق «تظاهر إسرائيل باستعدادها لأن تهدم مستوطنات بنتها بنفسها». إن الجديد في هذه التصريحات هو تخطئة «الانسحابات الإسرائيلية الأحادية الجانب» لا إعلان دفنها، ذلك أن عملية الدفن هذه سبق أن حدثت عقب الحرب على لبنان في صيف 2006. ومن المعروف أن تلك الحرب («حرب لبنان الثانية» بحسب اسمها الإسرائيلي)، والتي استمرت خلال الفترة من 12 تموز (يوليو) حتى 14 آب 2006، أدّت من جملة أشياء أخرى، إلى طـيّ صفحة «خطة الانطواء» (أو خطة التجـميع) وإلى القضاء على فكرة الانسحابات الأحادية الجانب من أسـاسها، «كونها لم تحقق الأمن لإسرائيل»! وكانت «خطة الانطواء» تنص على الانسحاب من معظم أجزاء الضفة الغربية، وإخلاء المستوطنات الواقعة شرقي الجدار العازل (بموجب هذه الخطة كان من المفترض أن تقوم الحكومة الإسرائيلية، بصورة أحادية الجانب، بتجميع المستوطنين اليهود المنتشرين في المستوطنات القائمة في قلب الضفة الغربية ونقلهم الى المستوطنات القائمة داخل الكتل الاستيطانية المنتشرة في مناطق أقرب الى حدود ما قبل عام 1967، وفقاً لمسار الجدار العازل. وقد جرى الحديث على كتل معاليه أدوميم وأريئيل وغوش عتصيون. وأشارت صحيفة «يديعوت أحرونوت» في حينه إلى أن هذا التجميع لن يشمل مستوطنة كريات أربع والبؤرة الاستيطانية في الخليل، على رغم كونهما خارج الجدار. وبناء على الخطة تواصل إسرائيل السيطرة على سبعة في المئة من أراضي الضفة الغربية. وقد أسقطها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إيهود أولمرت، من جدول الأعمال بعد الحرب. الانفصال في سياق «إدارة الصراع» شكلت خطة الانفصال، في حينه، نقطة مهمة في سياق «سياسة إدارة الصراع»، وهي السياسة التي بدأتها إسرائيل في انتهاجها منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في خريف 2000، عقب فشل قمة «كامب ديفيد» وإعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، إيهود باراك، أنه «لا يوجد شريك فلسطيني» في عملية التسوية. ويمكن القول إن هذه العملية بدأت بالتزامن مع اتفاقات أوسلو في بداية التسعينات من القرن العشرين. وفيما كانت هذه العملية الأخيرة تستهدف عموماً التوصل إلى حل وسط بين الطرفين، بغض النظر عن تفصيلاته، فإن إدارة الصراع تُعتبر بمثابة خيار افتراضي، اضطراري، طالما أنه لا يمكن تسويته. وهي عملية تهدف بالأساس إلى «الحدّ من العنف» أو حتى وضع حدّ له، لضمان استئناف العملية السياسية. وقد استندت «رؤية الانفصال من جانب واحد» إلى بضع فرضيات إسرائيلية أساسية أهمها: > عدم إمكان المحافظة على الوضع القائم (الستاتيكو) الإقليمي والسياسي والعسكري سوى في مقابل ثمن باهظ للغاية. > من دون فصل وفك ارتباط يمكن لـ «التهديد الديموغرافي» أن يشكل خطراً على إسرائيل كدولة يهودية، كما أن من شأن الانفصال أن يؤدي إلى الحد من العنف. > من دون مبادرة إسرائيلية ستظهر مبادرات سياسية (بما في ذلك خريطة الطريق) يُحتمل أن تشكل خطراً على إسرائيل. وفي مقالة حديثة نُشرت في الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت» في 28 تموز (يوليو) 2009، كشف يوسي بيلين، الرئيس السابق لحزب «ميرتس» السابق وأحد مهندسي اتفاق أوسلو، أنه بادر في آذار (مارس) 2005 إلى عقد لقاء خاص مع الرئيس الأسبق للحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون، من أجل إقناعه بـ «الانسحاب من غزة بواسطة اتفاق» مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي كان قد انتخب حديثاً لهذا المنصب. غير أن شارون «قال إنه لا يؤمن بالسلام مع العرب، وإنه لا يرى فارقاً جوهرياً بين فتح وحماس، لأنهما وجهان لعملة واحدة وغاية كل منهما هي القضاء على دولة إسرائيل، وإن أقصى ما يهدف إليه من وراء الانفصال عن غزة هو إيجاد حل للمشكلة الديموغرافية». نتانياهو وباراك لم يتجاوزا غاية «إدارة الصراع» ليس من المبالغة القول إن تفكير نتانـــياهو ووزير دفاعه باراك لا ينأى عن تفكير شارون بــشأن إدارة الصراع، وربما بشأن «عدم الإيمان بالسلام مع العرب». ولعل آخر برهان على ذلك يتمثل في ردة فعلهما على قرارات المؤتمر السادس لحركة «فتح»، الذي التأم في بيت لحم أخيراً. فقد شنّ باراك، كما معظم الوزراء في حكومة نتانياهو، هجوماً حاداً على المواقف التي عبر عنها المشاركون في هذا المؤتمر. وقال باراك إن «الخطابات التي أسمعت في مؤتمر فتح والمواقف التي تم التعبير عنها خطرة وغير مقبولة». وأضاف: «مع ذلك يجب أن نعي أنه ليس هناك حل في الشرق الأوسط إلا في إطار تسوية شاملة وواسعة، تشملنا وتشمل الفلسطينيين». وتابع: «أنصح (الرئيس الفلسطيني) محمود عباس بالاستعداد للدخول إلى عملية تسوية، وبالأساس أنصح الرئيس (الأميركي) باراك أوباما أن يعمل على دفع تسوية شاملة في المنطقة قدماً». ورداً على ذلك تساءل المحلل السياسي في صحيفة «هآرتس»، عكيفا إلدار (10/8/2009): ما هي المواقف التي توقعها باراك؟ هل توقع أن تعلن «فتح»، مثلاً، أن القدس الموحدة ستبقى عاصمة إسرائيل الأبدية؟ أم أنه كان سيكتفي بموافقة الرئيس عباس على الاستمرار في توسيع البؤر الاستيطانية غير القانونية؟. وتابع يقول: «لقد تبنى المؤتمر السادس لحركة «فتح» برنامجاً سياسياً يدعو إلى دفع حل الدولتين بطرق سلمية. وعلى الرغم من أن البرنامج أبقى ثغرة للكفاح ضد المستوطنات، إلا أنه حدّد ذلك في نطاق عصيان مدني شرعي، على غرار المظاهرات ضد جدار الفصل في منطقة بلعين. ويعتبر هذا البرنامج على وجه الخصوص بمثابة إعلان حركة «فتح» طلاقها البائن من حركة «حماس» وأيديولوجيتها المتطرفة». وأضاف: «بطبيعة الحال في إمكان باراك أن يجد أسانيد «مهنية» لهجومه هذا، كما ورد مثلاً في تقويمات لـ «مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب»، الذي يستمد معطياته من وحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، جرى تعميمها على أعتاب مؤتمر «فتح»، وأكدت أن المؤتمر يتميّز بمواقف متطرفة إزاء النزاع مع إسرائيل». وقال إلدار إن إسرائيل تنفض، على ما يبدو، الغبار عن «الكتاب الأبيض»، الذي صدر في أول أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية بإيعاز من رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، إيهود باراك، من أجل تعميم نظريته بشأن «عدم وجود شريك» (فلسطيني)، وذلك كي تعود إلى تلك المرحلة. وكشف أنه تم، حديثاً، تجنيد مؤلف هذا الكتاب، وهو العقيد عيران ليرمان، الذي كان من كبار المسؤولين في شعبة الاستخبارات العسكرية، للعمل في ديوان رئيس الحكومة إلى جانب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، عوزي أراد. بكلمات أخرى فإن ذريعة «عدم وجود شريك» تشكّل متكأ لأقطاب الحكومة من أجل تفسير عدم إمكان التوصل إلى اتفاق في الوقت الحالي. كما أنها تشكّل، بالنسبة الى آخرين، «برهاناً» على وجوب عدم التعلق بأهداب اتفاق أو حل دائم في المرحلة الراهنة. وبحسب ما يؤكد دوف فايسغلاس، المدير العام لديوان شارون، فإن الاستنتاج الواضح من قرارات مؤتمر «فتح» هو أن قيادة هذه الحركة لا تملك الجرأة والاستقامة لمصارحة شعبها، كما يستلزم الجهد الصادق لإحراز تسوية دائمة مع إسرائيل. فإن السلام الإسرائيلي- الفلسطيني يتطلب القيام بتنازلات مؤلمة، لا من جانب إسرائيل فحسب وإنما من جانب الفلسطينيين أيضاً. ومن هذه التنازلات مثلاً: إبقاء الكتل الاستيطانية الكبرى في يد إسرائيل؛ التنازل عن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، تسوية موضوع القدس. وبناء على ذلك يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يعملوا على تحسين الواقع، لا أن يتعلقوا بأوهام الحل الدائم. ويمكن أن يُعتبر عملاً من هذا القبيل غاية سياسية بحد ذاتها تحرّر القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، في المرحلة الحالية، من وطأة اتخاذ قرارات ليس في إمكانهما حسمها («يديعوت أحرونوت»، 10/8/2009). ويؤكد د. عوديد عيران، رئيس «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، وهو ديبلوماسي إسرائيلي سابق، في أحدث تقدير موقف بالنسبة الى بيئة إسرائيل الإستراتيجية في عام 2009، والذي صدر عن هذا المعهد في تموز الفائت، أن من الصعب الافتراض بأن تتبنى الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتانياهو وباراك التفاهمات التي توصل إليها المفاوضون من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني خلال الأعوام الفائتة - وهي تفاهمات تصب كلها في هدف التوصل إلى اتفاق على حل دائم وفقاً لمبدأ دولتين لشعبين - وذلك في ضوء الفشل الذريع الذي منيت به ثلاث جولات شهدتها هذه المفاوضات حتى الآن، عقب عملية أوسلو في عام 1993 وفي أثناء قمة كامب ديفيد وبعدها في عامي 2000 و2001 وعقب مؤتمر أنابوليس في عام 2007 وصولاً إلى نهاية عام 2008. كما أنه يتعين، في رأيه، حتى على الإدارة الأميركية الحالية برئاسة باراك أوباما، والتي تئن تحت وطأة مشكلات أخرى بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق وانتهاء بإيران، أن تمتنع عن الإصرار على الاستناد إلى هذه التفاهمات. وفي حال حدوث ذلك يتوجب على هذه الإدارة، التي تعهدت بأن تبدي اهتماماً على نحو مكثف بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، أن تدرس إمكان إيجاد منحى بديل يسفر عن تحقيق تقدّم تدريجيّ صوب حل دائم يستند إلى مبدأ الدولتين. ويبدو أن مثل هذا المنحى ربما يكون متيسراً في ما يتعلق بالمسار الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يشير عيران، غير أنه ليس كذلك فيما يتعلق بالمسار الإسرائيلي- السوري، ذلك أن تأثير إيران في هذا المسار الأخير هو تأثير بالغ الأهمية، في حين أن تأثيرها في المسار الإسرائيلي- الفلسطيني هو أقل بكثير. وينوّه، في هذا السياق، إلى أن تأثير إيران، خصوصاً في ما يتعلق بعملية السلام الإقليمية، غير ناجم عن تداعيات الملف النووي فحسب، وذلك لأن المساعدات التي تمنحها إيران إلى منظمات تقيم دولة داخل دولة في المنطقة، وخاصة «حماس» وحزب الله، هي أمر يسفر عن نشوء علاقات، ذات طبيعة تناقضية، بين إسرائيل وبين دول أخرى في المنطقة تتخوف من الظاهرة الإيرانية. ويخلص الكاتب إلى الاستنتاجات التالية: أولاً - لا يمكن استئناف المفاوضات الإسرائيلية - السورية قبل طيّ صفحة التأثير الإيراني. ثانياً - يجب على إسرائيل والولايات المتحدة أن تتوصلا، في أسرع وقت ممكن، إلى تفاهمات رئيسية تتعلق بالمسار الإسرائيلي - الفلسطيني، وخاصة في موضوع الاستيطان في الضفة الغربية ومسألة دفع التطوّر الاقتصادي في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. ثالثاً - إيجاد سبيل يكفل استئناف عمل الطواقم الإقليمية المشتركة التي أعلن عن إنشائها في مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، وهو ما يتسق مع أحد عناصر المبادرة العربية للسلام عام 2002. ومن شأن هذه الطواقم أن تشكل وزناً مضاداً للتأثير الإيراني. لكنه يشير إلى أن استئناف عمل هذه الطواقم سيكون محفوفاً بإشكاليات كثيرة، في مقدمها أن إسرائيل لم تعلن حتى الآن قبولها عناصر المبادرة العربية كلها. من جهة أخرى ستعتبر الدول العربية ستعتبر استئناف عمل الطواقم الإقليمية شكلاً من أشكال التطبيع مع إسرائيل، وقد سبق أن رهنت هذه الخطوة (التطبيع) بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وإقامة عاصمة الدولة الفلسطينية في شرقي القدس. لكن يبقى استنتاجه الأهم هو أن الظروف السياسية الراهنة لدى كل من إسرائيل والفلسطينيين لن تمكِّن من التوصل إلى اتفاق على حل دائم بين الجانبين في الفترة المقبلة. ولذا فهو يقترح الاستمرار في إدارة الصراع والتوصل، في أثناء ذلك، إلى ما يصفه بـ «اتفاقيات جزئية أو مرحلية» إلى حين تصبح الظروف مؤاتية للتوصل إلى اتفاق دائم. يشار إلى أن عيران شغل مناصب دبلوماسية عديدة بينها منصب السفير الإسرائيلي لدى الاتحاد الأوروبي ومنصب السفير الإسرائيلي في الأردن، كما عمل في السفارتين الإسرائيليتين في واشنطن ولندن، وتولى منصب نائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية للشؤون الاقتصادية. وقد أدار المفاوضات مع الفلسطينيين حول تطبيق الاتفاقيات المرحلية. وهو الآن مستشار للجان سرية متفرعة عن لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست.