محاولة للتفسير، ولا عزاء للفقراء..!!حسن خضر

الثلاثاء 28 ديسمبر 2021 10:37 ص / بتوقيت القدس +2GMT
محاولة للتفسير، ولا عزاء للفقراء..!!حسن خضر



تكلمنا، قبل أسبوع، عن فائدة قد تنجم عن قراءة كتابيْن في وقت واحد، وإن كانا في موضوعين مختلفين. ومثّلنا، لهذا الغرض، بكتابين فجعلنا من الأوّل وسيلة إيضاح للثاني. وأصبح من واجبنا، الآن، تفسير الكتابين معاً بتمثيلات وشواهد خارجية. وبهذا نكون قد صنعنا "نموذجاً تفسيرياً" جديداً، على رأي طيب الذكر عبد الوهاب المسيري، وقد أنفقنا، في زمن مضى، ليلة كاملة في نقاش معنى ومبنى وفائدة "النموذج التفسيري".
على أي حال، تكلّم جيجيك في "سماء في فوضى" عن فساد وانقسام الفضاء الرمزي، أي اللغة، في عالم اليوم. وفي تعقيبه على "سلام إبراهيم" رأى فيه "محور الشر الجديد"، الذي يمثل تغييراً لقواعد اللعبة في الشرق الأوسط (وهذه العبارات كلها له). أما الأخ روزنبرغ الإنجيلي المسكون بالتقوى فرأى في "أعداء وأصدقاء" في "السلام" نفسه وسيلة إيضاح لمعجزة حوّلت الأعداء إلى أصدقاء، ووضعت الشرق الأوسط على سكة "السلام والازدهار".
انقسام الفضاء الرمزي، أي فساد اللغة، ليس جديداً، فجورج أورويل هو المعلّم الأوّل، ومن حسن الحظ أنه أضاف إلى فرضياته النظرية الرئيسة، في هذا الشأن، تمثيلات أدبية، حية وحيوية، تعيش وتتناسل في الكثير من لغات الكون. فمن لم يسمع عن "مزرعة الحيوانات"، أو "1984"، مع وجود ما يصعب حصره من التمثيلات السردية والبصرية، على مدار ما يزيد على سبعة عقود مضت؟
لا يستدعي التدليل على عيش جيجيك وروزنبرغ في حقلين رمزيين مختلفين الكثير من الكفاءة، يكفي أن الأوّل يتكلم عن حصر وحصار الفلسطينيين في كانتونات، وحرمانهم من الحق في تقرير المصير، أما الثاني فينفق عشرات الصفحات في الكلام عن "السلام" دون أن يأتي على ذكر الفلسطينيين، ولو من باب "رفع العتب". يعني: وفي صياغة جديدة لفكرة فوكو عن فرضية أن ما سكت عنه الخطاب قد يفوق، في أهميته، ما أفصح عنه، يفضح كلام جيجيك ما سكت عنه روزنبرغ.
والواقع، وهنا الضلع الثالث في بناء "النموذج التفسيري"، أن تفسير انقسام الفضاء الرمزي، بعد التدليل على وجوده، يستدعي البحث (وراء قناع التقوى على وجه روزنبرغ، وفرضيات جيجيك النظرية) عن مصالح وحسابات مادية، عاجلة وآجلة، لمختلف الفاعلين في تغيير "قواعد اللعبة"، سواء من دخل منهم الحلبة في وضح النهار، أم ينتظر اللحظة المناسبة.
ولنبدأ بحادثة صغيرة: ففي الأسابيع القليلة الماضية، وبعد اتفاق رسمي، أصبح في وسع تجّار الماس الإسرائيليين الحصول على فيزا، في غضون خمسة أيام، تخوّلهم دخول قطر، والقيام بأعمال تجارية هناك. لم يثر الخبر اهتمام أحد، على الأرجح، وهبط كغيره تحت ركام هائل من الأخبار اليومية. ومع ذلك، في الخبر ما يمثل خاتمة سعيدة لحكاية تستحق أن تُروى.
فقبل ثلاث سنوات ونصف السنة، حاولت قطر الحصول على تصريح من الاتحاد العالمي لبورصات تجارة الماس، لإنشاء سوق تخصها، ولكن نائب رئيس الاتحاد، الذي كان إسرائيلياً، ورئيس سوق التبادل الإسرائيلية، أوقف الطلب، ولقي موقفه موافقة من الإمارات التي عارضت انضمام قطر إلى الاتحاد المذكور. وبهذه الطريقة فشلت المحاولة القطرية طالما أن قبول العضوية يستدعي الحصول على موافقة بالإجماع.
وفي أواسط العام الحالي، جدد القطريون المحاولة، في سياق مشروع لإنشاء بورصة للماس تخصهم. وهذه المرّة، رأت وزارة الخارجية الإسرائيلية في الطلب القطري ما قد يُسهم في تعزيز مشروع "سلام إبراهيم". ولم تجد الإمارات ما يبرر الاعتراض، بعد "المصالحة الخليجية". وما بقي عالقاً من أشياء فنية، من نوع حصول حاملي جوازات السفر الإسرائيلية، من تجّار الماس، على تأشيرات الدخول، تمكّن وزير الخارجية، يائير لابيد، من تذليله بالاتفاق مع القطريين على صيغة الأيام الخمسة.
والمهم فهم حقائق من نوع: أن تجارة الماس في العالم تُقدّر بـ81 مليار دولار، وأن 65 بالمائة من ماس العالم يأتي من أفريقيا، التي نُكبت بحروب أهلية، ومجازر، ناهيك عن السرقة والظلم، نتيجة استخراج وتجارة الماس. وأن ثمة علاقات وثيقة، عائلية وتجارية، ودينية، أحياناً، بين تجار الماس في إسرائيل، وأقرانهم في بلجيكا (المركز الأوّل للماس في العالم) وأغلب هؤلاء من اليهود الأرثوذكس.
بكلام آخر: تجارة يزيد حجمها على 80 مليار دولار "مش مزحة"، الانخراط فيها، والاستفادة منها، أو الحرمان من جنتها، أشياء جدية تماماً، وتنطوي على رهانات وحسابات عاجلة وآجلة. وبكلام آخر: أصبحت دول الخليج جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي، وشريكاً فاعلاً في التجارة والأسواق الدولية، ولكن شبكات المصالح الإسرائيلية ـ الأميركية المنفتحة على الأسواق الأوروبية، والروسية والصينية والهندية، في عالم تعولم، يمكن أن تُمثّل عائقاً في وجه الخليج، أو أن تكون ضمانته، وشريكته في الحصول على الحسنيين: الأمن والأرباح، ناهيك عن أوهام واستيهامات إمبراطورية، "على البيعة".
وبهذا المعنى: دع جانباً كل الكلام المُتداول عن "سلام إبراهيم"، وتأويلاته الدينية (الانتساب إلى جد مشترك، أي أقدم أشكال التحالفات القبلية في التاريخ) أو تأويلاته السياسية (كلمة السلام بكل ما فيها من ألوان الطيف والكذب) وتأويلاته الأيديولوجية (لم تنضج بعد، ولكنها ستضع مسؤولية "سوء الفهم" بين العرب والإسرائيليين على عاتق الفلسطينيين).
وبدلاً منها، أو لفهمها: فكّر في الثمانين مليار دولار، وفي سوق الرأسمالية العابرة للحدود والقوميات، وفيها مليارات كثيرة. بهذه الطريقة، وبقدر ما أرى، يكون النموذج التفسيري قد اكتمل، بكل ما فيه من تداعيات أفريقية، وشبكات دولية، ومصالح ومصارف وبورصات وأقنعة، ومراكز حضرية وحضارية مرشحة لكوارث عاجلة وآجلة. ولا عزاء للفقراء.