الدولة العسكرية، وعسكرة الدولة، عنصران مهمان في تشكيل أساسيات الدولة، سواء كانت هذه الدولة حديثة العهد أو قديمة البناء. وما يلفت النظر إلى ان المؤسسة العسكرية العربية مازالت تراوح في مكان إنطلاقتها الأولى التي بدأت منها، وهو عصر الإنقلاب والثورات والحاصل تحديدا في منتصف القرن الماضي، حيث أجتاحت الوطن العربي سلسلة تكاد تكون شبه منظمة من إنقلابات عسكرية، غيرت مجريات الشكل السياسي لبعض الدول. وكانت انطلقتها تحديدا من مصر 1952 ثم العراق 1958 وسوريا عام 1961 ثم 1963 وفي اليمن 1962 وفي ليبيا عام 1969. وعادة ما برزت خلال هذه المرحلة قيادات شابة منحدرة من الطبقات المتوسطة أو الريفية هي بالتالي أستولت على السلطة، محدثة بذلك انقلابا على النظام الملكي الذي عارض بدوره اي فرص تقدم لهذه الطبقات، هذا على حد رؤية الكاتب والمحلل السياسي رياض الصيداوي. غير ان المشروع العسكري في احداث التغيير السياسي للبلاد عليه ان يرتكز على أسس مهمة منها، تغيير النظام الرسمي الملكي والذي هو بدوره مرتبطا بالنظام الملكي البريطاني آنذاك، والذي يوفر له الغطاء، الشرعية، الحماية، أقول كان من الصعب تجاوز هذه العقبات الثلاثة دون مساعدة معينة، سواء كانت خارجية، كما يحلو للبعض من ان يسوق اتهام العمالة، أو داخلية، وهو عن طريق الإنظمام الى كتل وأحزاب ذات نفوذ داخلي واسع، أو قاعدة عسكرية شبابية كبيرة. ولم تتقدم المؤسسات الحكومية منذ ذلك الوقت، ولم تحاول تغيير منهجيتها، وهذا شيء حتمي حقيقي، ذلك ان البناء العسكري الأولي في مراحله الأولى وفر الحماية الكافية لهذه الحكومة، ولأنها فتية، ستجري عليها بعض الإنقلابات أو المحاولات، أو المعارضات التي تنادي إما بالرجوع للعصر السابق أو التغيير الذي فتحته هذه الثورة وفتحت بذلك شهية البعض على التغيير، فتظهر إذ ذاك ورقة المؤسسة العسكرية لتكون القامع والرادع، والمحافظ على شكل الثورة وهيئتها، وعناصر الثورة الذين يقودون البلاد، فتكون خطوات الإبتعاد للمؤسسة العسكرية عن مهنيتها إذ ذاك قد مشت أولى خطواتها بإتجاه الهيمنة المطلقة من قبل الحكومة على قرارات المؤسسة العسكرية، ويكون الجيش تابعا وليس مقررا. ولعل من الأهمية لوجه الحكم أن يبقى الجيش على هذا الشكل بالنسبة لهم، أو القائمين على الثورة، ذلك أنهم قادوا بهذا الجيش ثورتهم وأنقلابهم الذي حقق لهم طموح الإرتقاء والصعود إلى سدة الحكم، وأنفصاله عنهم يعني احداث ثورة جديدة، وهذه المرة ستنتهي بطردهم من السطلة، هذا على حد نظرتهم، وستعمل المؤسسة العسكرية هذه على انقلاب جديد. والانقلاب العسكري كما يراه البعض هو من جراء توسيع القادة الشبابية في الجيش، بيد ان الخبير في المجال العسكري فراد ريغز Fred W., Riggs، لا يشاطر القائلين بظاهرة الانقلاب العسكري. فهو لا يعتقد أن العسكر بطبيعة تكوينهم وواجب الخضوع عندهم، نجدهم متعجرفين ومدفوعين بالطموح ليستولوا علي السلطة ويطردوا السلطة المدنية. نراه يرفض هذه الفكرة ويشرح موقفه هذا بقوله: حسب رأيي، اعتقد أن رؤية الأشياء بهذا الشكل هي رؤية تبسيطية وتخفي الدينامية المؤسساتية للانقلاب العسكري. بداية، ليس الجيش كمؤسسة هو الذي يستولي علي السلطة. ذلك أن الانقلابات العسكرية تنظمها مجموعات صغيرة من أعوان الدولة، بضعة ضباط فقط. وبعض أعضاء هذه المجموعات يعبئون في سبيل الانقلاب العسكري وحدات تقع تحت إمرتهم، ولكن في أغلب الأحيان يرفض ذلك الضباط الآخرون. ويتعاون بعض من الموظفين المدنيين مع الضباط بهدف الاستيلاء علي السلطة ويشتركون في إدارة البلاد عندما ينجح الانقلاب. تأتي رؤية ريغز هذه إشارة واضحة وتأكيدا مكملا لما أشرنا له سابقا من ان الضغط الذي تسببه الإدارة الحاكمة قبل إستيلاء الجيش يمكّن هذه المجاميع العسكرية من الإستيلاء على السلطة دون تلك التداخلات التي وضحناها آنفا. لذا تبقى المؤسساتية العسكرية وجه البلاد، كما لايبقى وجه لها وفق الأسس الصحيحة المعتمدة دوليا، ويرى بعض الباحثين ان المؤسسة العسكرية هي الأنجح لحل مشاكل البلدان النامية، أو دول العالم الثالث، ذلك ان القدرة العلمية والكفاءة والتدريب المدني، عنصر مهم تفقده المؤسسة المدنية في هذه البلدان، حيث يرى صموئيل هينتنغتون ان المؤسسة العسكرية أصبحت أداة سياسية لمنع انتشار الحروب، أكثر منها أداة لإفتعالها كما هو واضح ظاهرا، والقيام بإنهاء الصراعات الإقليمية، إضافة لذلك ظهور ظاهرة العسكرة (Militraization) في المجتمع العربي. وهي عملية توسيع نطاق المؤسسة العسكرية داخل المجتمع، ووجود توجه عام في الدولة وفي مؤسسات المجتمع المدني تعتبر الحرب والاستعداد لها نشاطاً مجتمعياً طبيعياً ومرغوباً فيه. ويميل صموئيل أيضا إلى ان ضرورة المؤسسة العسكرية في البلاد العربية ضرورة حتمية كما هو حاصل في الولايات المتحدة، والتي تعد من أكبر المؤسسات العالمية، من حيث القدرة والكفاءة والتنظيم والتدريب. غير ان وصف صموئيل هذا بضرورة الحاجة للمؤسسة العسكرية في الدولة العربية، وتحججه بالإفتقاد الكامل للعنصر المدني الحقيقي ليس كافيا في بناء الدولة على شكل هرم عسكري، ذلك ان عمل هذه المؤسسة ودخول الصنف الجديد في القيام بدور صنع القرار على مساحة الرقعة السياسة العربية، وهو مانعبر عنه بدور الإنتخابات والممارسات الديمقراطية، وحرية الإنتخابات، وتعددية الأحزاب، كل هذا هو إشارة واضحة إلى فاعلية المؤسسة المدنية، ومنظمات المجتمع المدني، غير ان الإشارة المهمة هنا هو كيف سيكون شكل وعمل ولون وطابع المؤسسة العسكرية العربية في ظل التغيير والتعددية هذه. وكيف سيكون انسجام وعمل المؤسستين المدنية والعسكرية في ظل التعددية السياسية. لذا نرى التخبط والعمى الواضحين في عمل هذه المؤسسات، وخاصة العسكرية، والتي بات جليا وواضحا في بعض المناطق العربية، كما هو حاصل في العراق، فالتنوع الطائفي كان له الدور البارز والكبير جدا في إقصاء قادة كبار من الجيش، والتخندق السياسي عمل على إستكمال الحلقات المفقودة في سيناريو ضياع المؤسسة العسكرية العراقية وتدهورها، لتبقى في لهاث مستمر ودائم خلف الجري لإشباع رغبات الجهة السياسية التي سيؤول لها المقاعد الأكثر في الإنتخابات أو التي شتكل لاحقا خارطة البلاد السياسية، أو عصنر آخر من شأنه تفتيت عضد المؤسسة وهو هيمنة الاغلبية السياسية على أركان الجيش، هذا بدوره سيكون عاملا مهما في إنزلاق المؤسسة إلى هاوية الإنجراف خلف رغبات القادة الجدد الذي يمثلون بالتالي آراء وأفكار ومعتقدات أحزابهم وإنتمائاتهم. وأيضا يتضح هذا الشكل المشوه جليا في لبنان، حيث يقف الجيش موقف المتفرج في حرب الشوارع بين التكتلات السياسية، متحججا بالحيادية وبدفاعه عن الحدود الخارجية للوطن، وهذه الحجة هي إستهزاء بالشأن الداخلي وعمل غطاء لبعض الفصائل على حساب البعض الآخر. أما في مصر فما زالت السطلة العسكرية نائمة من جهة ومن جهة أخرى بيد الدولة، ذلك لأن الإنتخابات في البلاد لم تغير المقعد الرئاسي، كما ولم يشكل الثقل البرلماني أي تغيير على مستوى القرارات المصيرية، ولم تُمنح حرية التعبير بشكل كبير وصحي، حتى تعددية الأحزاب ما هي إلا مظهر من مظاهر الموديل العريب في إستمالة الدول الديمقراطية الغربية وتحسين العلاقات العالمية، ومتى ما تغيرت الخارطة السياسية لمصر إنطلاقا من التغيير الرئاسي والمشاركة الفعالة في الإنتخابات سيكون لنا حديث عن حصول إنعطافة كبيرة في حياة المؤسسة العسكرية المصرية. الآن نحن بين تاريخ هيمنة المؤسسة العسكرية العربية، وبين مستقبلها المنفتح على حقوق وحريات الشعوب في ممارسة الديمقراطية كمنهج مسلم به عالميا، نجد ان الأزمة أتسعت رقعتها بشكل أكبر ما كانت عليه قبلا ذلك ان العمل يشوبه إزدواجية واضحة لذا كان لابد علينا العمل وفق المعطيات الدولية أولا، والإستناد إلى التجارب التي سبقتنا، مع احترام كامل للبناء الخاص بنا وتشكيلتنا وبنيتنا وفق المعايير الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فكان لابد للخروج من أزمة العسكرة أو كما أطلقنا عليها آنفا عسكرة الدولة هو عن طريق: 1) الخضوع الدائم لمراقبة حقوق الإنسان، لضمان عدم الإنزياح خلف الترهيب الداخلي والإعتداء على حريات المواطن، بحجة فرض الأمن، مع المسائلة الدائمة عن الإنتهاكات. 2) التخلص من العوالق والرواسب التي أفتعلتها الانظمة السابقة في بناء المؤسسة العسكرية على شكل هرم سياسي حزبي كل همه حفظ أمن النظام لهذا التكتل السياسي، أو النظام الحاكم الواحد. 3) التخلص من كل التبعيات السياسية والدينية، على ان يكون الإنتماء الأوحد لها هو الشرف العسكري، وحماية الوطن. 4) البناء الاكاديمي للمؤسسة العسكرية، وفق الشكل والنظام والمعايير الدولية، مع إشراف الظالعين في هذا العمل ممن سبق لهم الإشراف على مؤسسات أخرى وبشكل عملي. 5) خلق حالة من التزاوج بين الأكاديمية العسكرية المحلية ومثيلاتها الدولية، مع تنظيم تبادل في مقاعد دراسية، لتواصل الخبرة والبقاء دوما على علم واضح بالشكل الدولي العسكري والتقارب المعرفي. 6) التعاون مع المؤسسات والاجهزة العسكرية الاخرى في مجال المناورات وتبادل الخبرات العسكرية، على ان تكون ذات أبعاد وطنية هادفة. 7) الملاحقة والمسائلة الدائمة من قبل أجهزة الاستخبارات العسكرية، لمنع ووقف حالات الفساد التي تظهر تبعاتها على الشكل الرئيس في بناء المنظومة الخاصة بالمؤسسة العسكرية. 8) الابتعاد عن التخندق والاحتماء بالمدينة ولأي ظرف أمني كان، وسواء كان هذا الظرف داخليا أم خارجيا، والداوع الأمنية المطلقة التي تستوجب ذلك عليها ان لاتكون حجة لبقاء واسع وانتشار واضح على صعيد الشارع المدني مشكلة منه ثكنة عسكرية. 9) علاج الأزمات الداخلية عليه ان يتم وفق فرق خاصة، تأخذ بنظر الاعتبار المواطن المدني، ماله من حقوق وما عليه من واجبات، ولايتم تدخل الجيش إلا وفق الضرورات القصوى. من خلاصة هذه النقاط مع الأعتماد على الخبرات العلمية الدولية في صنع المؤسسة العسكرية إذ ذاك يمكننا من خلق هذه المؤسسة مع الشعور التام بالأمن والأمان في ظلها، لاتلك التي تبسط القوة لأجل السلطة على حساب الشعب.