من هو محمد الفيتوري الذي يحتفي به غوغل ؟

الأربعاء 24 نوفمبر 2021 12:37 م / بتوقيت القدس +2GMT
من هو محمد الفيتوري الذي يحتفي به غوغل ؟



وكالات/سما/

احتفى محرك البحث العالمي غوغل، اليوم الأربعاء، بالذكرى الـ85 لميلاد الشاعر السوداني البارز محمد الفيتوري أحد رواد الشعر الحر الحديث في الوطن العربي.
ووضع "غوغل" على واجهته الرئيسية صورة للشاعر الذي رحل عن عالمنا في 24 أبريل عام 2015 تاركا خلفه إرثا كبيرا من الشعر والتراجيديا الإنسانية.
من السودان إلى القاهرة
والفيتوري الذي يلقب بـ"شاعر إفريقيا والعروبة"، ولد في السودان ونشأ في مصر وأقام وعمل في ليبيا ولبنان ومات في المغرب.
ولد في مثل هذا اليوم عام 1936، في مدينة الجنينة التي تتبع حاليا لولاية غرب دارفور، من أب شيخ صوفي معروف يدعى مفتاح رجب الفيتوري.

قبل أن يتم عامه الثالث انتقل مع أسرته للإقامة في مدينة الإسكندرية شمالي مصر، وهناك أكمل مراحل تعليمه الأولى، ودرس بالمعهد الديني بها بعدما حفظ القرآن الكريم كاملا قبل أن يتم التسع سنوات، وكان والده الصوفي يتزعم زاوية الطريقة الصوفية الشاذلية الأسمرية بالإسكندرية.
انتقل الفيتوري إلى القاهرة للالتحاق بجامعة الأزهر وتخرج في كلية العلوم في خمسينيات القرن الماضي.

الشعر المقاوم
في قاهرة الخمسينيات حيث نجوم الشعر والأدب، أمل دنقل وفؤاد حداد ونجيب سرور، وغيرهم، كان الفيتوري يلفت الأنظار إليه كشاعر واعد، وكعادة الشعراء في ذلك الوقت عمل الفيتوري محررا أدبيا في عدد من الصحف المصرية والسودانية.
وانعكس ما رآه هذا الشاب وسمعه وعاشه عن الاستعمار والعبودية والاستغلال في أفريقيا على ما ينظمه من شعر، فكان ديوانه الأول عام 1955 بعنوان "أغاني أفريقيا" ويقول في إحدى قصائده:
يا أخي فى كل أرض عريت من ضياها
وتغطت بدماها
يا أخي فى كل أرض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست أعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوق ضحاها ومساها


وواصل الفيتوري شعره المعبر عن أفريقيا، وطبع ديوان"عاشق من أفريقيا" عام 1964، و"اذكريني يا أفريقيا" ونشر في عام 1965، و"أحزان أفريقيا" عام 1966، وبات الفيتوري معروفا للأوساط الأدبية ويلقى القصائد في مصر بالجلسات الخاصة والعامة والحفلات الجامعية والندوات الأدبية، ولقب وقتها بصوت أفريقيا وشاعرها.
في عام 1967 كتب الأستاذ محمود أمين العالم، المفكر المصري الكبير، مقدمة لديوان صادر للفيتوري عن منشورات مكتبة الحياة، وفيها وضع قراءة معمقة في شعر الفيتوري وشخصيته، يقول أمين العالم: "في البداية كان يحس في أغواره الباطنية إحساساً بالغاً بالضياع، ولم يكن يستشعر انتساباً حقيقياً إلى وطن".
ويكشف العالم عن جزء مهم في شخصية الفيتوري فيقول: "كانت بشرته السوداء تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزاً كثيفاً يحرمه المشاركة والاندماج، ويؤجج في باطنه مشاعر مريرة صفراء، ويشحذ حساسيته".

وأضاف: "وكان يقف على العتبة الأخيرة من الفئة البرجوازية الصغيرة، يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من أجل العيش وتمزقه قيمها المنهارة... هذه المدينة التجارية الكبيرة التي لا تكف سفنها عن المجيء والذهاب، والتي تقيم فيها الطبقة الأرستقراطية الأوروبية البيضاء مجتمعاً يكاد يكون مقفلاً على أبناء البلاد.. والتي لا تعرف الوجه الأسود إلا خادماً ذليلاً".
وفي 2013 قدم الكاتب عالم عباس، ورقة إلى مؤتمر نظمه اتحاد الكتاب السودانيين للاحتفاء بالفيتوري، جاءت ورقة عباس بعنوان "الفيتوري وتراجيديا الانتماء"، يشير فيها عباس إلى أن الفيتوري لم يستسلم لهذا الوضع فهو لم يكن يرى أن اللون الأسود عيبا، ونظم الشعر بكبرياء، مستدلا على ذلك بما كتبه الفيتوري من شعر يقول فيه:
"دميم فوجه كأني به دخان تكثّف ثم التحم
وعينان فيه كأرجوحتين مثقلتين بريح الألم
وأنف تحدر ثم ارتمى فبان كمقبرة لم تتم
ومن تحتها شفة ضخمة بدائية قلما تبتسم
وقامته لصقت بالتراب وإن هزئت روحه بالقمم"


هكذا كان الفيتوري يضع منتقديه أمام أنفسهم، نعم هذه الصفات إن كنتم ترونه سيئة وتجدونه فيّ فماذا بعد؟، لكن هذا لا ينفي عن الرجل كبرياءه واعتداده بنفسه، مثلما كان أبو الطيب المتنبي، الذي انشغل به الفيتوري كثيرا، فلم تغب عن شعر الفيتوري تلك اللهجة الواضحة للكبرياء والتعالي واحترام الذات، فمثلما قال المتنبي "ما بقومي شَرُفْتُ بل شرفوا بي/ وبنفسي فَخَرْتُ، لا بجدودي" يأتي الفيتوري على نفس الخط ويكتب:
وسرت غضبان في التاريخ، لا عنقٌ
إلا ومنك على طياته أثر
تصفو وتجفو وتستعلي، وتبتدر
وتستفزّ وتستثني، وتحتقر
هذا زمانك، لا هذا زمانهم
فأنت معنى وجود ليس ينحصر
في كل أرض وطئتها أمم
ترعى بعيدٍ كأنها غنم
"وإنما الناس بالملوك وما
تصلح عًربٌ ملوكها عجم"
مواقفه السياسية
لم يكن الفيتوري ناصريا ولا شيوعيا، ولم ينتم إلى تنظيم سياسي رغم مواقفه التي كانت تتقارب مع التيار اليساري بشكل عام، كان عربيا معتدا بعروبته، مؤمنا بالحق العربي في فلسطين، وحق العربي في السودان ومصر وباقي الدول العربية في العيش بحرية. كان متمردا جامحا بامتياز ينظم الشعر المقاوم والمناضل يهجو القادة والزعماء، ومن بينهم جعفر النميري في السودان، وحين أعدم النميري القيادي الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب كتب قصيدته الشهيرة "قلبي على وطني" يقول فيها:
لماذا يظن الطغاة الصغار، وتشحب ألوانهم
أن موت المناضل موت القضية؟
وأعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادماً ..
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنمُ، دميةٌ من خشب
وتبسمت ...
كل الطغاة دمى
ربما حسب الصنم الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور الرجال
أنه بطلاً ما يزال"
فأسقطت الحكومة عنه الجنسية السودانية وسحبت منه جواز السفر السوداني، عام 1974، ومنحته ليبيا جنسيتها وعمل مستشارا ثقافيا في سفارة ليبيا بإيطاليا، وانتقل للعمل كمستشار وسفير بالسفارة الليبية في بيروت بلبنان، ومستشار للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا في المغرب.

لكن مع سقوط نظام معمر القذافي سحبت منه السلطات الليبية الجديدة جواز السفر الليبي فأقام بالمغرب مع زوجته المغربية، وفي عام 2014 عادت الحكومة السودانية ومنحته جواز سفر دبلوماسيا.
لكن ووفقا لعدد من المصادر لم يستلم الفيتوري رسميا جواز سفره السوداني حتى مات في أبريل 2015 في المغرب مجردا من جنسيته وجواز سفره الليبي والسوداني. والشاعر الذي كان يعرف في الحفلات تارة بالشاعر السوداني وتارة بالشاعر الليبي وتارة بالشاعر ابن مصر مات بدون جنسية في تراجيديا سوداء تعبر عن العالم الذي انشغل به الفيتوري طوال حياته، وهو عالم عربي قاس وجاحد.