لم تكد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام عمر البشير تلتقط أنفاسها وتراهن على مستقبل أفضل، حتى بادر العسكر إلى الارتداد عن المسار الديمقراطي المدني الذي كان من المأمول أن يؤسس لمرحلة الدولة المدنية.
أطاح عبد الفتاح البرهان، الفريق الذي كان مغموراً، ولا يتمتع بسجل متميز، بالحكومة واعتقل رئيسها ومعظم وزرائها، وأعلن حالة الطوارئ وفي ظل ذلك الوضع أقال عدداً كبيراً من المدراء العامين في الولايات وحل لجنة التمكين، وأجرى تعديلات على الوثيقة الدستورية.
الانقلاب العسكري الذي قاده البرهان ومجموعته العسكرية، أحدث ردود فعل تكاد تكون جامعة على المستويين الإقليمي والدولي بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكان من المتوقع أن يلقى معارضة ومقاومة شعبية واسعة، خاصة أنه أبعد من تشكيلته الجديدة الشركاء المدنيين الأساسيين الذي وقع معهم الاتفاق.
كان ولا يزال الموقف الأميركي، حازماً وحاداً، حيث بادرت واشنطن إلى وقف سبعمائة مليون دولار كانت ستقدمها للسودان بعد إعادة تطبيع العلاقات معها ومع إسرائيل، بل هددت واشنطن بمزيد من العقوبات.
السؤال هنا هل كان بمقدور البرهان أن يقدم على هذا الانقلاب، وأن يواصل التنكر للوثيقة الدستورية، وللشركاء الأساسيين وأن يواصل تحدي المجتمع الدولي، دون أن يكون له ظهير قوي يركن إليه في مواجهة عواصف سياسية عاتية؟
ثمة من اتهم بعض الدول العربية، بأنها تقف خلف الانقلاب، خاصة أن ردود فعل هذه الدول المعنية كان باهتاً نسبياً، ولكن هل تجرؤ الدول التي أشارت إليها الاتهامات بأن تتحمل المسؤولية أمام الولايات المتحدة وأوروبا والمجتمع الدولي، وأن تعوض السودان عن العقوبات المحتملة والخسائر التي سيتكبدها بسبب استمرار العناد؟
قد ترى بعض الدول مصلحة لها، في الانقلاب الذي وقع على المسار الديمقراطي المدني، ولكنها بالتأكيد، لا تجرؤ على أن تضع نفسها في مواجهة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
البرهان وجماعته من العسكريين أيضاً لا يمكنهم التحلي بكل هذه الجرأة والعناد، في مواجهة الرفض الدولي، وفقط بالاعتماد على وعود من بعض الدول العربية.
السؤال، إذاً، من الذي يستطيع الوقوف خلف هذا الانقلاب ويراهن على حمايته، وإمكانية تغيير مواقف الولايات المتحدة خصوصاً مع مرور الوقت، هذا إذا سمحت القوى الشعبية الرافضة للانقلابيين بأن يتمتعوا بشيء من الهدوء؟
بالعودة لطبيعة العلاقة بين رئيس الحكومة المعتقل عبد الله حمدوك والمجلس العسكري، ثمة خلافات تراكمت، وكان من أبرزها الخلاف حول ملف التطبيع بين السودان وإسرائيل، الذي دشنه البرهان بلقائه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو.
ربما لم يكن الخلاف حول هذا الملف علنياً، وحاداً، بالنظر لكل ما يتصل به من تداعيات خاصة ما يتصل منها بالعلاقة مع أميركا، وحاجة السودان الماسة، لتطوير علاقاتها الإيجابية مع واشنطن، ولكن لا «الحرية والتغيير»، ولا لجنة أطباء السودان المركزية، واتحاد المهنيين وعديد الأحزاب الأخرى، يمكنها أن تتنكر لجمهورها الرافض للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، الذي لا يكتفي بتطبيع رسمي دبلوماسي، وإنما تذهب مطامعه إلى حد الاستيلاء على مقدرات السودان.
عند التدقيق في استراتيجيات إسرائيل تجاه القرن الإفريقي حيث منابع نهر النيل، والصراع التاريخي الاستراتيجي، فإن الحقائق أكثر من واضحة ولا تحتاج إلى دليل. الكل يعلم أن إسرائيل وقفت خلف قسمة السودان إلى شمال وجنوب، وقد عملت منذ فترة طويلة على ذلك إلى أن نجحت، وحولت الجنوب إلى قاعدة عسكرية وأمنية واستخباراتية قوية لصالحها. ثم إن الكل بات يعلم بأن إسرائيل قد تسللت إلى إثيوبيا، وهي التي تقف خلف السياسة الإثيوبية إزاء سد النهضة وأنها أرسلت منصات قبة حديدية لحماية السد.
إثيوبيا ما كانت لتتمسك بكل هذا العناد في المفاوضات مع السودان ومصر، لولا التحريض والحماية الإسرائيلية.
التحليل المنطقي يقول إن إسرائيل وجدت فرصتها الذهبية بالبدء، من محطة التطبيع، لتحويل السودان إلى قاعدة عسكرية وأمنية واستخباراتية، واستثمار حاجات السودان الاقتصادية، لاستكمال مخططاتها الاستراتيجية لتهديد الأمن القومي الاستراتيجي المصري.
الآن إسرائيل موجودة في البحر الأحمر، تسرح وتمرح بالطول والعرض، عبر توافقات ونشاطات منفردة ومشتركة مع الولايات المتحدة وبعض دول المنطقة.
إسرائيل هي الدولة التي تستطيع التأثير في السياسات الأميركية وتعتقد أنها يمكن أن تشكل حماية للانقلاب، وقد تعودت على تحدي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وفي أحيان ليست قليلة الولايات المتحدة.
تعاملت إسرائيل ببرود إعلامي ودبلوماسي مع الحدث السوداني واكتفت بإرسال وفد من الموساد للسودان بعد الانقلاب، ثم أوكلت المهمة لحكومة جنوب السودان التي أرسلت وفداً للوساطة، ولكنه لم ينجح في رأب الصدع.
البرهان تصور أنه ذكي إلى الحد الذي يستطيع تضليل القوى الداخلية والخارجية فأعلن عن تشكيل جديد للمجلس السيادي، اختار أعضاءه بنفسه، واستبعد القوى المدنية الأساسية، وأبقى على حمدوك وبعض الوزراء قيد الإقامة الجبرية. أرفق البرهان قراراته بخطاب مدني، وتأكيد على التزامه باستمرار التوجه نحو استكمال المسار المدني الديمقراطي، لكنه فشل في إقناع القوى الداخلية الرافضة والقوى الخارجية، التي لا تنطلي عليها مثل هذه الخدع المكشوفة.
السودان مرة أخرى، يعود إلى واجهة الأحداث السياسية بعد أن نزلت الجماهير إلى الشوارع، تطالب وهي مصممة على إسقاط الانقلاب والانقلابيين. في مواجهة حركة الشارع السلمية، لا يجد البرهان ومجلسه، إلا اللجوء إلى العنف، وإسالة الدماء، لكنه لا يدرك أن الشعب السوداني الذي يعاني الفقر والمرض والتخلف والجوع ليس لديه ما يخسره، وأن تاريخه يشهد على قدرته على إسقاط الحكومات العسكرية، من عبود إلى النميري إلى البشير، بوسائل سلمية.