هل هي مشاعر غائبة أم ثقافة أم أشياء كثيرة تنقص المجتمع الذي ينهشه الفقر ويعاني من بطالة مرتفعة، ويعيش أهله دون أدنى أفق بالخلاص؟ لست أدري كيف أصف ذلك، ولكن يبدو أن الأمور تشد بعضها البعض، هناك أشياء جاذبة لبعضها، وهناك عقد من الخرز يتكون من حبات وكلما وقعت منه حبة، فالأخرى تليها، ويصعب جمع الخرزات عن الأرض، كما يصعب وضعها داخل الحبل الرفيع ثم عقده مرة ثانية، ولكنك في النهاية تقول لنفسك في حسرة كان عقداً جميلاً......
في صباح هادئ كنت أراقب من شرفتي منظراً ممتعاً، هناك مجموعة من عمال النظافة بزي يختلف عن العمال المعتادين، يحملون أدواتهم وينظفون الشارع أو الحارة كما أحب ان أطلق عليها رغم ان معظم الجيران يمتلكون بيوتاً فارهة، ولكن هناك بعض البيوت القرميدية المتهالكة، وعليه فأنا أنظر نحوها دوماً وأتأمل الفارق بين هذه البيوت، وأفكر بعدم وجود العدالة على الأرض، وهكذا أطلق عليها اسم الحارة، وبدت الحارة في هذا الصباح لامعة براقة، لا توجد على الأرض حتى لو ورقة شجر جافة، كل شيء يبدو نظيفا، وقد زالت أكوام القمامة وتم تمشيط الممرات الضيقة ورشها بالماء، فأسعدني المنظر، وقد تمنيت ان يستمر كذلك، ورأيت أحد السكان يهرع لهؤلاء العمال بإبريق كبير من الشاي وبعض الأكواب الورقية، ودارت الأكواب التي يتصاعد منها البخار بينهم وهم يتصببون عرقا بعد جهد كبير.
فرحت لهذا المشهد وتمنيت ان يستمر طويلاً وكل يوم، وأسعدني ومنحني طاقة إيجابية فورية وقررت ان اهتم بالأصص الجافة التي تحيط بسور بيتي لكي تتلاءم وتتناسق مع هذا المشهد، وغبت لساعات اربع داخل البيت منشغلة بأعمال يومية، ثم تذكرت المشهد النظيف وقررت أن ألقي نظرة ثانية وهنا صعقت.
رأيت الأوراق الممزقة ملقاة على الأرض، وهناك من ألقى بكيس من القمامة لم يغلق جيداً، فقامت القطط العابثة بتمزيقه وإخراج محتوياته في منظر مقزز، وتراكمت فوقه بالطبع الحشرات، وبدأت القمامة تزداد مع مرور الوقت، ولا تدري كيف ظهرت، ولكن الأوراق التي ألقاها تلميذ في طريقه إلى المدرسة قد زاد عليها عبوات مياه غازية، وأقماع حلوى، وعلب سجائر فارغة وغيرها وغيرها من المهملات التي قضت على المشهد الجميل والذي لم يبق منه سوى صورته العالقة في خيالي.
حزنت لما حدث وفكرت بأننا نمتلك ثقافة غائبة عنا، وأننا نتعامل مع الملكية الخاصة بأنها لا تتجاوز حدود بيتنا، وبعد باب البيت فليحترق العالم، ففي النهاية هناك البيت الذي نعتني بنظافته وترتيبه ونظامه، فلماذا نهتم بنظافة الشارع والحي الذي نمر به كل يوم عدة مرات، بل أننا قد نقف لنلتقي صديقاً او جاراً، أو لنبتاع شيئاً من فوق عربة، وربما نوقف سياراتنا ودراجات أطفالنا فيه وتتعرض للقذارة التي تنتقل بسرعة لممتلكاتنا العزيزة على قلوبنا والتي تعبنا في الحصول عليها.
رأيت كيف تسرب اليأس لنفسي وأنا التي كانت تعد نفسها لكي تكمل اللوحة، تخيلت أنني أمام لوحة بحاجة لرتوش قليلة سوف أضيفها حين أعتني بالأصص، وسأطلب من جاراتي ان يفعلن ذلك، وفكرت بتخصيص مبلغ من المال لنعيد طلاء جدار البيت الخارجي وكذلك الباب المعدني، لكي نحسن من جمالية المكان، ولكن ذلك لم يعد مجدياً للأسف، وفكرت أن علي أن أنزل من بيتي لأتعارك مع المارة المستمرين بتشويه جمال لم يدم، وربما القضاء على ثمرة تعب الرجال الذين سال عرقهم في الصباح الباكر رغم برودة أجواء الخريف في ذلك الوقت، ولكن يبدو ان ما فكرت فيه سوف يدعو الجميع لاتهامي بالخبال فتراجعت.
هكذا لم يدم الجمال سوى لساعات وعاد القبح في كل مكان، لست أدري السبب في ذلك، ولكنه حتماً ليس الفقر ولا البطالة كما أوردت في بداية مقالي، ولا أي شيء ولكنه افتقارنا لثقافة غائبة نحتاج لوقت طويل حتى نحصل عليها ولا يمكن ان نكتسبها لأننا سرعان ما نخلعها لو فعلنا ذلك.