أعتقد بل أجزم بأن أكبر جريمة قد نرتكبها بحق أطفالنا أن نأتي بهم إلى الحياة ونحن غير قادرين على توفير سبل الحياة الكريمة لهم، أن نأتي بهم إلى الحياة وندفعهم نحو الفقر والحاجة أو نحو أمراضنا النفسية ونقتص منهم أو نجعلهم ضحية لهذه العقد والنواقص التي نمت وتراكمت في دواخلنا، والنتيجة أننا نرتكب جريمة، وأننا قبل أن نفكر في دفع طفل إلى هذا العالم وفي هذا اليوم بالذات علينا أن نفكر جيداً: هل سنوفر له القدرة المادية لكي يعيش عيشة طيبة؟ وهل سنكون بنفسية سوية لكي نتعامل معه ونربيه وننشئه كما يجب أن يكون المواطن الصالح في المجتمع؟
هكذا علمونا في المدارس منذ صغرنا أننا نكبر لكي نصبح مواطنين صالحين وكأن المجرمين والقتلة والسفاحين لم يعرفوا للمدارس بابا.
قالت لي وهي تحمل طفلا هزيلا بين يديها، وتلهث من المشوار الذي قطعته على قدميها نحو جمعية خيرية، ويبدو على محياها فقر الدم وسوء التغذية، (فكيف بالطفل الذي لم يتجاوز عمره الشهور القليلة؟)، قالت: تخيلي لم أجد لدى الجمعية أي معونة، أوصوا بحليب ومكمل غذائي لطفلي، وأوصوني بأن أهتم بتغذيته وتركوني أعود إلى البيت خالية الوفاض، اعتقدت أنهم سوف يمنحوني علبة حليب أو علبة من الفيتامينات المخصصة للأطفال الضعفاء والتي تصرفها تلك المؤسسات حيث تصلها كمعونات دولية مخصصة للمرضى الفقراء من الأطفال.
قالت لي: تخيلي أن الجمعية أصبحت فقيرة، قالوا لي إننا لم نتلقَ دعما منذ شهور، ومخازننا فارغة، والسبب معروف بالطبع بسبب توقف وصول المساعدات إلى غزة منذ انتهاء العدوان الأخير، فسألتها: وهل كنت تتوقعين أن تحصلي على حليب ودواء ولذلك فقد حملت للمرة السادسة؟
في الحقيقة هي لم ترد وإن أبدت حزنها ولكني أردفت بسؤالها: لماذا قررت أن تأتي بطفلك السادس وأنت تعيشين في بيت متهالك وزوجك بلا عمل، ضحكت وكشفت عن أسنان متآكلة وقالت: نفسي أجيب أخت للبنت، عندي أربعة أبناء ذكور وبنت واحدة، وكنت أريد أن أنجب بنتا لتكون أنسا لأختها، فقلت لها: وهل هذه ضرورة لكي تزيدي الهم فوق الهم؟
لم تفكر هذه البائسة منذ زمن بعيد حين فرحت بإنجاب الأبناء الذكور تباعا بأنها سوف تتورط في مشاكلهم وتربيتهم ومصاريفهم، وأنها سوف تقف عاجزة عن تدريسهم فهي لم تتلقَ تعليما، وكذلك زوجها، كما أنها تعيش في بيت يفتقر لأدنى مقومات الحياة، وفي كل مرة تنجب فيها طفلا وتدفعه إلى الحارة بمجرد أن يخطو خطواته الأولى تعلق قائلة: يأتي الصغار ويأتي رزقهم معهم.
لا تدرك هذه المرأة عظم جريمتها وبأنها ما زالت تعيش في تفكير العصور الغابرة التي كانت ترى الأبناء سندا، والبنات صالحات لخدمة هذا السند، وأنهن حبيبات أمهاتهن لأنهن سوف يحملن العبء معهن في أعمال البيت، فيما يقوم الأبناء بالعمل مع الأب في الخارج، ولكن الواقع اليوم تغير تماما، فلم يعد هناك عمل للأب، ولم يعد هناك أبناء يرغبون في مساعدة الأب من الأساس، فكل واحد يفكر بنفسه وبمشاكله الصغيرة التي تبدأ بالنمو معه بمجرد أن يصبح في مجتمع المدرسة ويخرج إلى الحياة، ويفتح عينيه على الواقع الأليم، الواقع الذي لا ذنب له أنه قد أصبح فيه، فالأب عاطل والأم جاهلة والحياة في الخارج ليست رغيفا من الخبز، فهناك أشياء أصبحت أساسية يحصل عليها الصغار غيره، ويحرم هو منها بسبب أنه قد جاء إلى هذه الحياة حسب نمط تفكير قديم وبال ومهترئ بأن الأولاد يأتون ويأتي الرزق معهم.
نخطئ حين نأتي بهؤلاء الأبناء الذين لا نستطيع أن نوفر لهم سبل الحياة، وفي الوقت الذي يعانون فيه من الجوع والفقر ونقص الأساسيات، فهم مضطرون للعيش مع أم ذات أفق ضيق، وأب لا يفعل شيئا سوى أن يضربهم ويعاقبهم لأتفه سبب، ويسبهم بأفظع الألقاب والنعوت، وفي النهاية يترك كل شيء ليدخن سيجارة مستعارة من رفيق سهرة متأخرة ويتباهى بأن لديه أربعة رجال في البيت يسدون عين الشمس!