سلّطت الأحداث الأخيرة في السودان، وقبلها الأحداث التفجيرية في لبنان، ضوءاً كاشفاً بقوة مضاعفة على الصورة العامة لحقيقة الأوضاع على امتداد خارطة الوطن العربي بكامل اتساعها والدول المكونة لها. وإذا تمعنت أكثر تصدمك الحقيقة العامة التفصيلية والمتنوعة لمسببات الأوضاع الموصوفة في كل بلد منها.
لا تلغي هذه الصورة العامة حقيقة وجود استثناءات تتمثل في عدد قليل من البلاد العربية تظهر تقدما ملحوظاً على الصورة العامة الموصوفة، سواء على مستوى أوضاعها الوطنية الخاصة، أو على مستوى علاقات الانسجام والتعاون والتنسيق مع دول عربية أخرى.
والصورة العامة الموصوفة لا تلغي أيضاً وجود وتأثير عوامل خارجية غير إرادية تلقى بثقلها، وأيضاً باعتداءاتها وتدخلاتها بدرجات متفاوتة على المنطقة العربية ومعظم الأنظمة فيها.
الصورة العامة لدول العالم العربي تطغى عليها المشاكل والخلافات تصل حد الصراعات، سواء كانت أولاً وأساساً بين أهل الدار أو مع الجيران دولاً عربية كانت أو غيرها.
كل الدول العربية في القارة الإفريقية مثلاً: بدءاً من السودان وصولاً إلى المغرب، مروراً بليبيا والجزائر وتونس، تعيش مشاكل أساسها وأولها داخلي تتنوع طبيعتها ودرجة تعقيداتها من دولة إلى أخرى. وكلها تضع بلادها على درجة عالية من الخطر الداخلي يصل حد وحدتها ومستقبلها، وربما استمرار وجودها بالصورة القائمة عليها الآن.
والمشرق لا يختلف كثيراً بدءاً من اليمن مروراً بالعراق، وصولاً إلى سورية ثم لبنان.
وبصرف النظر عن الحالة الخاصة المتمثلة في فلسطين وصراعها الوطني مع دولة الاحتلال ونضال أهلها لتحريرها وإقامة دولتهم الوطنية على أرض وطنهم المحرر، فإن واقع ما يمكن تسميته النظام الفلسطيني لا يختلف عن الصورة العامة الموصوفة لواقع النظام العربي، سواء كان ذلك بذاته ومقوماته وسياساته، أو بدرجة تأثره بالواقع العربي المذكور خصوصاً أنه أكثر تأثراً بهذا الواقع نظراً لخصوصيته وخصوصية احتياجاته.
هذه الصورة العامة تستدعي وتستحضر أكثر من عنوان على اختلاف أولويته أو قوة حضوره:
العنوان الأول، هو جامعة الدول العربية ودورها المفترض في توحيد الوضع والموقف العربي، وضرورة ذلك سواء تجاه القضايا المتعلقة بتطور وتقدم الوضع العربي العام، أو تلك المتعلقة بوحدة الموقف العربي تجاه أي قضية وطنية عربية، أو في مواجهة أي اعتداء، من أي نوع على أي شعب أو دولة عربية. أو في تبنيها للقضايا العربية في المحافل والمنظمات الدولية، أو في لعب دور أساسي في حل الخلافات والمشاكل التي تحصل بين البلدان العربية، أو... أو...
لكن للأسف، فإن جامعة الدول العربية ودورها بعيد تماماً عن الدور المفترض المذكور.
ومرة أخرى فإن السبب الأساس وراء ذلك يعود إلى واقع النظام العربي وأنظمته المكونة ومشاكلها وخلافاتها الداخلية والبينية. أما الطموح بالوصول إلى الحديث عن نظام عربي موحد أو حتى متجانس أو متقارب فهو نوع من التمني اللاواقعي.
العنوان الثاني، هو تراجع إلى درجة تقترب من الغياب التام للتشكيلات والأطر التنظيمية السياسية والفكرية العابرة للحدود القطرية، بصرف النظر عن اختلاف فكرها وتوجهاتها العامة: من أمثال حزب البعث العربي الاشتراكي أو حركة القوميين العرب أو الأحزاب الشيوعية العربية أو... حتى حركة الإخوان المسلمين كحركة دينية، فإنها بعد الفشل الصارخ لتجربتها ودورها في سنوات «الربيع العربي»، ثم فشل تجربتها وأدائها وانكشاف مراميها في المواقع التي وصلت إلى قيادتها، فإنها بعد ذلك وغيره، تعيش حالة واسعة وعميقة من التراجع في الوجود والتوحد والتأثير. وتعيش نفس الحالة كل التنظيمات الشيطانية الإرهابية التدميرية التي تولدت منها أو تأثرت بها وبفكرها.
هل أثرت صورة هذا الواقع العربي على النضال الوطني الفلسطيني ومؤسساته؟
بالتأكيد أن ذلك قد حصل فعلاً وبدرجة ملموسة وإن بتفاوت بين شكل وآخر.
أول وأهم مظاهر هذا التأثير هو تراجع القضية الفلسطينية في سلم أولويات واهتمامات الجماهير العربية؛ لانشغالها في هموم بلدانها وعدم استقرار أوضاعها ومصاعب الحياة اليومية فيها. بدليل الضعف، الذي يقترب من السكون لحملات التضامن والمساندة والدعم المنظم من قبل الجماهير العربية ومنظماتها المجتمعية الشعبية والسياسية للنضال الوطني الفلسطيني. وأيضاً تراجع زخم المساندة في المناسبات والظروف الصعبة التي تكون فيها القضية بحاجة إلى الدعم والإسناد جماهيرياً وسياسياً ومالياً.
ومن المظاهر أيضاً، ضعف الدعم والإسناد من النظام الرسمي العربي ومن جامعة الدول العربية للنضال الوطني الفلسطيني ومؤسساته بشكل عام ودائم ومستمر.
وبالتالي فإن حال الضعف أو التفرق في النظام العربي بأي من جناحيه الرسمي أو الشعبي يفرض تأثيره السلبي على النضال الوطني الفلسطيني بكل مستوياته ومجالاته ومؤسساته. يساعد في ذلك حال الفرقة والانقسام في صفوف القوى الوطنية الفلسطينية وفي مؤسساتها الوطنية الجامعة.
بشكل مبدئي وعام لا يمكن للنضال الوطني الفلسطيني أن يحقق أهدافه دون الدعم والإسناد من الجماهير العربية، ومن أنظمتها أيضاً.
ولذلك يكون من واجب كل قوى ومؤسسات النضال الوطني الفلسطيني أن تكون مهمتها الأولى هي إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بداية بإنهاء الانقسام وتوحيد هيئاتها النضالية والتشريعية وبرنامجها النضالي ومؤسساتها السياسية والتنفيذية، وأن تتعامل مع الواقع العربي ومكوناته الشعبية والرسمية الوطنية والقومية موحدة، وبكل مسؤولية وإيجابية.