لا يزال ضميري يؤنبني، أو ربما هو ليس تأنيب الضمير، ربما حسبت المعادلة جيداً أو من جهة أخرى، وربما أعدت النظر من زاوية جديدة، ولذلك بعد مرور هذه السنوات أصبح واجباً علي أن اعتذر لها، ولكن كيف لي أن أصبح بطلة، لست أدري، فالحقيقة المفزعة أنك لا تملك القدرة أو الشجاعة على تقديم الاعتذار الشفهي والحقيقي والوجاهي، كل ما تفعله، أن تجلس في ركن ما وتعض شفتك السفلى بحزن وألم حتى تكاد تقطعها، وتسرح بذاكرتك لذلك اليوم الدراسي البعيد الذي جلست فيه قبالة ناظرة المدرسة بطريقة توحي بالاحتجاج.
كنت أجلس على حافة كرسي ما اجتهدت إدارة المدرسة ان يكون مناسباً لمكتب السيدة الناظرة، وهكذا كنت أحتج وأقول للناظرة وأوجه كلامي للمعلمات بأن على المعلمة فلانة أن تتقدم باستقالتها ما دامت تعاني من مشاكل في النظر، ولا تقوم بواجبها نحو التلميذات، ولذلك تراجعت درجات ابنتي المتفوقة، واللوم لا يجب أن يلقى على ابنتي، ويجب البحث في الأمر حيث سوف يكتشفون تدني مستوى باقي التلميذات الصغيرات.
همست لي الناظرة في رجاء: أرجوك لا أريد أن يسمع أحد كلامك وانتقادك هذا، ربما كان أحد المشرفين في طريقه إلى مكتبي خلسة، أو أن أحد الأذنة يقوم بوشاية قبيحة لناظر المدرسة المجاورة، وسوف أنال العقاب في كلتا الحالتين لأنني أتستر عليها.
أردفت الناظرة في هدوء: هي لم تكن كذلك ولكن الحياة والظروف، وهنا رفعت يدي معترضة: أي حياة واي ظروف، كلنا نحيا حياة وظروفاً صعبة، فأسرعت لكي تهدئ من لهجتي الغاضبة وقالت لي: تخيلي تركها زوجها مع أولادها وباع البيت وأصبحت في الشارع بعد أن اشترت البيت من مالها، والآن هي تسكن في بيت مؤجر، تدفع ايجاره ولديها كومة من الأطفال الذين تنفق عليهم معظم راتبها ووالديها العجوزين، وقد ضعف نظرها من البكاء والحزن وتصحيح الكراسات بالطبع دون كهرباء لكي توفر بعض المال، كما أنها تمارس التطريز وأشغال الإبرة حتى وقت متأخر من الليل لكي توفر ثمن الدواء لأحد أولادها الذي يعاني من الشلل منذ ولادته...
في الحقيقة أنني توقفت عن الكلام وشعرت أن مصيبة هذه المعلمة أعظم من مصيبتي، وقد كانت تلك الأيام الأخيرة من العام الدراسي، وسألت عنها فأخبروني انها قد حصلت على اجازة دون راتب وسافرت خارج غزة بحثاً عن علاج لابنها الصغير، وهكذا أغلقت فمي وغادرت ولم أفكر بعدها بدرجات ابنتي المتدنية قليلاً وبأنها قد خسرت شهادة تقدير او جائزة منمقة كانت ستحصل عليها في طابور المدرسة.
انشغلت وانتهى العام الدراسي وتركت ابنتي المدرسة وحلت الإجازة الصيفية لتعلن عن انتقال ابنتي إلى مرحلة تعليمية أخرى، وهكذا انقطعت علاقتي وعلاقة ابنتي بالمعلمة ومدرستها، وطوت الذاكرة تلك الحادثة، حتى إذا ما عصفت بي ظروف الحياة وشعرت أنني أكاد أتمزق ولا أتمالك افكاري التي هي رأس مالي، فأكتب بتقطع، وأكتب دون تركيز، ولا أحتوي نقاط المقال منذ أول مرة كما كنت أفعل كل مرة واضطر لمراجعة ما أكتب مرات وكرات، بل أصبح الوسواس يعبث بي بأنني لم أعد مثل السابق في مستوى كتابة القصص القصيرة والقصيرة جدا، ولكني أراجع هذه الظروف وهذه الحياة اللتين عبتهما أن تعيقا معلمة عن أداء واجبها، وهكذا طفت تلك الذكرى وأدركت كم تعصف بنا الحياة، وكم تقتل فينا من الابداع ومن العطاء على المستوى العام، وكيف نصبح نحن النساء خصوصاً غير قادرات على التوفيق بين مشاكل الأسرة التي تزيد وتثقل وبين النجاح في العمل كما عهدنا من حولنا.
كما قلت لكم أنني أعرف اسم المعلمة جيداً، وأذكر هيئتها، وذلك الوجه الذي لا تقرأ عليه أي تعبير، ولكني لا أملك الجرأة لكي أذهب وأعتذر، وينبغي أن أفعل ذلك ولكني أكثر جبناً من فأر، ولذلك أيضاً جلست لأكتب هذه السطور، أن علينا الا نتعجل الأحكام، وألا نصرخ مثل القطط حين ندوس على ذيولها، فالقطة تكون قد شربت كل طبق الحليب، وربما سرقت أكبر قطعة لحم من فوق المائدة.