لا يزال المشهد في أفغانستان مرتبكا على كافة الأصعدة، فحركة طالبان التي ظهر أعضائها بمشهد مسالم في القصر الرئاسي في كابل وقاموا بتسلم هذا المقر بكل ما فيه من رمزية بسلمية وبمرافقة أحد مرافقي الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، والذي كان حينها يستقل الطائرة الى وجهة ما خارج افغانستان. هذا ما آلت اليه عشرون عاما من الحرب الأمريكية على أفعانستان تحت ذريعة القضاء على الحركات المتطرفة التي شكلت أفغانستان إبان حكم طالبان حاضنة لها كالقاعدة وغيرها.
وكانت شرارة الحرب قد أشتعلت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وإعلان زعيم القاعدة حينها أسامة بن لادن من مكان تواجده في أفغانستان أن التنظيم كان مسؤؤلا عن هذا الهجمات والتي راح ضحيتها المئات من الأمريكيين. حينها ما كان من جورج بوش الإبن إلا أن أعلن الحرب على أفغانستان ليخلص البشرية من إرهاب الحركات الاسلامية على حد تعبيره، حيث قال حينها في خطابه أمام مجلسي الشيوخ والنواب إن هذه "معركة العالم ، هذه معركة الحضارة، هذه معركة كل من يؤمنون بالتقدم والتعددية والتسامح والحرية". اليوم وبعد عشرين عاما، تُسلم مفاتيح افغانستان لحركة طالبان "الإرهابية" وتفر أمريكا بجنودها وموظفيها وبعدتها وعتادها، ويتبعها الكثير من البعثات الدبلوماسية والهيئات الدولية تاركين مصير أفغانستان مفتوحا على خيارات لا حصر لها. ولازال المشهد مرتبكا، وسيظل لفترة ليست بالقليلة ولا أكثر شاهد على ذلك من الخطاب الأمريكي المضطرب نحو قرار الإنسحاب.
وموقف الإدارة الامريكية ما بين محاولة تدارك تبعات الإنسحاب الذي وصف بالفوضوي واللامسؤول من قبل الكثير من الدول. وفي تتابع مجريات الأحداث هناك إستقبل العالم اليوم الأخبار الصادرة من أفغانستان وتحديدا من حركة طالبان التي تولت الحكم فيها بعد الإنسحاب الأمريكي الذي بدى مفاجئا للبعض، بينما رأه آخرون معد له مسبقا بإتفاق بدأت بوادره مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وما طفى منه على السطح في الآونة الأخيرة ليس إلا قمة لجبل من جليد المفاوضات المتراكمة وتبادل التفاهمات حول أفغانستان ما بعد الانسحاب الأمريكي. بدا هذا جليا أحيانا ومستترا أحيانا أخرى في ما صدر عن كافة الأطراف المعنية بالملف الأفغاني سواء في الداخل أو على الساحة الدولية. وهنا سنتطرق بنوع من التحليل للخطاب السياسي الملتبس إن صح التعبير فيما يتعلق بمشهد لا زالت أركانه غامضة ووجهته أكثر غموضا فيما ينتظر هذا البلد المتعثر سياسيا وإقتصاديا وإجتماعياً وما إلى غير ذلك من مناحي الحياة التي زادتها عشرون عاما من الإحتلال الأمريكي تعقيدا وبؤسا.
وللبناء على هذا التحليل نتطرق بشكل مقتضب لتعريف الخطاب السياسي Discourse بصفة عامة بإعتباره منظومة من المفاهيم والمقولات النظرية حول جانب معين من الواقع الإجتماعي.[1] وحتى لا يأتي الخطاب مجردا أو بمعزل عن الواقع، لا بد أن يتضمن في سياقه ربطا بين هذه المفاهيم أو المقولات النظرية وبين الحقائق المتجسدة على أرض الواقع والتي ترتبط بدورها ارتباطا وثيقا بالواقع الاجتماعي. وللخطاب منطق داخلي وإرتباطات مؤسسية، فهو ليس ناتجاً بالضرورة عن ذات فردية يعبر عنها أو يحمل معناها أو يحيل عليها، بل قد يكون خطاب مؤسسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما."[2]
الخطاب السياسي ما قبل الإحتلال الأمريكي لأفغانستان:
لقد كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي التي دقت طبول الحرب الأمريكية على أفغانستان مدعومة بخطاب ديني ممزوج بعواطف قوية لا تخلو من اللعب على جزئية التفوق الأمريكي وعدم قبول الهزيمة والتي هي كانت حينها في عقر دارهم. وخرج جورج بوش الأبن حينها قائلا بوضوح لا مواربة فيه ما أشتهر عنه بأن من لن يكون معنا فهو ضدنا وتسائل حينها سؤاله الأشهر لماذا يكرهوننا؟ وقرع طبول الحرب على الإرهاب متوجها بجيوشه نحو أفغانستان التي لم يكن يعلم أن بقاء الامريكان فيها سيقارب العقدين وينتهي بهذه الصورة. حينها قال بوش الإبن بأن "حربنا على الإرهاب تبدأ بتنظيم القاعدة، لكنها لا تنتهي عند هذا الحد. ولن تنتهي حتى يتم العثور على كل مجموعة إرهابية ومنعها من الانتشار العالمي ووقفها وهزيمتها".
اليوم يتضح عدم تحقق هذه الرؤية وعدم القضاء على اي من هذه المجموعات وإن كانت خلال العقدين المنصرمين قد تكبدت خسائر بشرية في صفوف أعضائها ولكننا نرى اليوم أحد اهم هذه الحركات الإسلامية التي رأتها أمريكا وبصفها العالم الغربي قاطبا حركة إرهابية، نراها تشكل أول حكومة من أعضاء الحركة بشكل حصري على مرأى ومسمع من العالم أجمع. انتقد الرئيس السابق بوش الأبن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ووصفه بالقرار الخاطئ محذرا من معاناة الأفغان من تبعات ما بعد الإنسحاب. وتعاقب ثلاثة رؤساء ما بعد جورج بوش الإبن وحملوا من إدارته ارثا ثقيلا يدعى أفغانستان، وكل من هؤلاء الرؤساء تبنى ذات الخطاب الذي برر التواجد الأمريكي في أفغانستان وما ترتب عليه من إنفاق عسكري بلغ وفق تحليلات جامعة براون ما لا يقل عن 2.261 تريليون دولار على أقل تقدير. ناهيك عن خسائر في الأرواح من كل الأطراف بذريعة الحرب على الإرهاب الذي اثبتت عشرين عاما فشلها.
الخطاب الأمريكي عشية الإنسحاب:
إستمر اللبس في الخطاب السياسي الأمريكي نحو الحرب على أفغانستان حتى آخر يوم للوجود الامريكي هناك، ولعل من المفارقات التي لا تفسير واضح لها بأنه ليس بالبعيد من مشهد الإنسحاب الفوضوي المروع الذي ذكر العالم بمشهد الانسحاب الأمريكي من فيتنام، كان الرئيس الامريكي جو بايدن يستضيف آخر الرؤساء الأفغان في عهد الاحتلال الامريكي للبلاد أشرف غني في البيت الأبيض في مباحثات وصفت بالمثمرة من قبل الطرفين. حينها قال الرئيس بايدن بأن "الشراكة بين الولايات المتحدة وأفغانستان لن تنتهي والأفغان بحاجة لتقرير مستقبل بلادهم" وهذا الخطاب يضحده الواقع الحالي بشكل لا لبس فيه. حيث استفاق العالم على حكومة تسيير اعمال شكلتها طالبان من اعضائها بلا استثناء وبررت هذا بكونها حكومة تسيير أعمال. وهنا لم يتسق الخطاب الأمريكي في انطلاقه من مبدأ الشراكة لخدمة الشعب الأفغاني وما يعيشه الأفغان حاليا من تغيرات لا قوى لهم على مجاراتها تسير على مرأى مسمع من القوى العظمى وبشكل موارب يتحاشى التصادم والحركة المسيطرة على المشهد بلا منازع، وينتظر بتأهب القادم.
حتى خطاب الرئيس الافغاني السابق أشرف غني بدى متناقضا مابين انتقاده علنا لقرار الانسحاب الامريكي الذي وصفة بالسريع والمفاجئ وما بين تأكيده فيما بعد بثقته في القرار الأمريكي وأنه ايا كان سيصب في مصلحة بلاده والشعب الأفغاني. لكن الواقع بعد اشهر قليلة اثبت عكس ذلك تماما. ومن المهم القول بإن الإلتباس في الخطاب الأمريكي لم يكن من أعلى هرم السلطة هناك والمتمثل بخطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن لكنه كان خطاباً ملتبسا ايضا في كافة مستويات المطبخ السياسي الأمريكي وكان سوء تقدير الموقف واضح على لسان مسؤولي البنتاغون والاستخبارات الامريكية والمستوى العسكري. كل هذا التخبط ظهر جليا في صورة الإنسحاب المتخبط.
طالبان ما بعد الانسحاب:
أما طالبان فالعالم يرى منها حتى اللحظة صورة تغاير تماما طالبان منذ عشرين عاما، لعلنا لا نغفل ما حصل من طفرة في ادوات الاتصال وتكنلوجيا المعلومات التي قد تكون قيادات الحركة وأعضائها طوعتها لخدمة غاياتها على كافة الأصعدة. فشاهد العالم بترقب مشهد تسلم القصر الرئاسي في كابل ولم يكسر به باب ولم تطلق به رصاصة وجلس قادة الحركة المنتدبين لتسلم القصر كما نقل في وسائل الاعلام بكل هدوء في مكتب الرئيس الفار الى وجهة غير معلومة حينها. ليرى العالم مالم يعهد من مقاتلين شرسين يتمترسون في جبال افغانستان الوعرة والذين يصفهم العالم بالارهاب. وهنا لابد من طرح اسئلة ليس بالامكان الاجابة على اي منها في الوقت الحالي وبالمعطيات المتوفرة حاليا. اسئلة تتعلق بحركة طالبان وبإمكانية ان الحركة غيرت من مسارها المتشدد جدا في تطبيق الشريعة الاسلامية. ام ان الحركة تتصرف بنوع من البراغماتية التكتيكية في انتظار ان تتثبت اقدامها في الحكم وتعيد اصطفاف تحالفاتها مع من ابدى قبولا وان مواربا لها منذ بداية سيطرتها، واعني هنا الصين وروسيا وباكستان، ام ان الخطاب الطالباني الحالي هو خطاب منمق يتماشى ومطالب المانحين فيما يتعلق بحقوق الانسان والمرأة تحديدا وغيرها من القضايا التي يربطها المانحين وعلى رأسهم امريكا واوروبا بشروط التمويل. هذا التمويل الذي تحتاج له الحركة بشكل اساسي في المرحلة الحالية والذي من شأنه ان يعينها على استمرار قيام مقومات الدولة والابتعاد بها عن شبح الانهيار وبالتالي سيناريوهات الحرب الأهلية وغيرها من السيناريوهات المرفوضة اقليميا للصين وباكستان ودوليا لاوربا وروسيا وامريكا لما لها من تبعات كارثية تطال الجميع. الى يوم كتابة هذا المقال لا زال خطاب طالبان للعالم يتسم باللين والتعبير عن الرغبة بالتعاون والانفتاح وإن كان مبدأ الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الاسلامية مبدأ لم تبدي به الحركة الكثير من اللين. وهنا كانت قضية المرأة من اهم القضايا التي طرحت من قبل أمريكا والدول الأوروبية كمقياس لدرجة تعاطي الحركة ومنظومة حقوق الانسان وما لذلك من انعكاس على مستقبل علاقتها وقبولها على الساحة الدولية كقوة مرحب بها لا حركة خارجة عن السياق الدولي. فنحن هنا لا نعلم ان كان خطاب الحركة هو تعبير عن التغيير المنشود، ام هو خطاب لذر الرماد في عيون المانحين. وحدها الايام كفيلة بالاجابة. لكن طالبان اليوم تعيش في عصر التواصل الاجتماعي وقدرة الافغان الذين جعلهم التواجد الامريكي لعقدين كاملين يتصلون بأعلى سبل تكنلوجيا الاتصال والتواصل، حتى اعضاء الحركة انفسهم ظهروا ليلة دخول القصر الرئاسي في كابل بهواتف محمولة ذكية كانوا يلتقطون بها الصور لبعضهم البعض. فطالبان القابعة في الجبال منذ عقدين ليست طالبان التي يمكن بكبسة على هاتف ذكي ان ينقل الافغان للعالم ما تقوم به ايا كان.
طالبان وخطاب المرأة:
لعل التطرق لخطاب حركة طالبان حول قضية النساء هناك بشكل خاص ينبع من حساسية هذا الموضوع على المستوى الداخلى بالتوازي مع اهميته لقوى دولية كثيرة على رأسها القوى الامريكية المنسحبة واوربا وغيرهما، والسؤال الجوهري هو كيف ستتعامل طالبان مع النساء؟ ولم يظهر حتى اللحظة في خطاب طالبان على لسان مسؤوليها ما يخيف المجتمع الدولي فيما يتعلق بقضايا المرأة وحقها في التعليم والعمل. الا ان الحركة اشترطت لتعليم المرأة وخروجها للعمل ارتداءها للحجاب. حتى قضية الحجاب لم يتطرق لها مسؤولي الحركة بالتفصيل وما اذا كانت الحركة ستعيد فرض الغطاء الكامل على النساء وتعاقب المخالفات، حقيقة لا احد الى هذه اللحظة يعلم. لكن طالبان ايضا صدرت للعالم بذكاء قبولها لاعتراض بعض السيدات في كابل على سيطرة الحركة على الحكم وسمحت للصحفيين بتصوير المتظاهرات في اشارة طمئنة وان كانت مؤقتة للغرب بأن طالبان اليوم ليست طالبان الأمس. لكن الحقيقة تقر بحادثة لم يمر عليها بضعة اشهرتعلقت بمقتل ثلاث صحفيات في مارس على يد اعضاء من الحركة. اضافة الى هجمات كثيرة طالت مدارس تعليم الفتيات بهدف تخويفهن وثنيهن عن الذهاب للمدارس.
هل من خيارات لدى الغرب؟
الخطاب الاوروبي والامريكي ليس واضحا حتى اللحظة والخيارات مفتوحة اما بقبول الحركة او رفضها ومعاداتها وقد يكون التلويح بالعقوبات الاقتصادية لشعب منهك اقتصاديا له اثر كارثيا على افغانستان في حالة قبول الحركة فسيكون هذا مشروطا بتنازلات او اعادة نظر فيما تتبناه الحركة من ممارسات في كثير من الصعد اهمها حقوق الانسان وحق المرأة في التعليم. وقد تماس هذه الدول ضغوطا على الحركة بهدف تعديل مسارها بما يتماشى والنسق الدولي المقبول. وفي حال عدم تماشي الحركة والمتطلبات الدولية سيكون السيناريو كارثيا ان صح التعبير على الشعب الافغاني الذي عانى ويعاني منذ عقود كثيرة شبح الحرب والفقر والجهل وهو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة المعقدة. الى هذه اللحظة تصدر طالبان تطمينات كثيرة غير مقرونة بأفعال وليس من السهل قراءتها بشكل دقيق في ظل عدم توفر معطيات لتسارع الأحداث هناك، لكنا قد نقتبس ما قاله الخبير الأمريكي كينث كاتزمان وهو خبير في قضايا الشرق الاوسط الذي قال : لا يمكن ان نثق بالتزام طالبان.
ختاما من الممكن القول بأن التباس الخطاب السياسي المتعلق بالإنسحاب الأمريكي من أفغانستان وما تلاه من سيطرة لحركة طالبان على سدة الحكم في البلاد يعد جزءا من التباس المشهد كاملا على كافة الأصعدة. وأيا كان ما يخبئ الغد لهذا الشعب الذي عانى طويلا ستظل صور الموت وشبح الفرار والتعلق بعجلات الطائرات المغادرة من مطار كابل فالسقوط كالذباب على ارض الوطن من أقسى الصور التي ستحفظ في ذاكرة التاريخ.
[1] عبد العليم محمد، الخطاب الساداتي: تحليل الخطاب الايديولوجي للخطاب الساداتي (القاهرة: كتاب الأهالي، 1990)، 26.
[2] ميشيل فوكو، نظام الخطاب،. ترجمة: محمد سبيلا )بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 1984)، 4.