بدا أن مديرة المنزل كانت بانتظارنا، أشارت لنا نحو درج ضيّق يصعد إلى الطابق الأعلى، كنا مجموعة من الشعراء العرب أنهينا أياماً شعرية حافلة في "كفالا" أو "قولة" كما ذكرت في الكتب العربية، حيث ترتفع قلعة مهجورة تطل أبراجها على المتوسط عاش فيها "محمد علي الكبير"، ونصعد الآن نحو شرفة ميكس تيودراكيس في أثينا تقودنا مدبرة منزل مهذبة وصامتة.
كنت قد رتبت موعداً مع الموسيقي العظيم لإجراء حوار للعدد الثاني من مجلة الشعراء، وقد أسعدني الحظ بوجود الديبلوماسي الفلسطيني الصديق عصمت أبو الرمل الذي كانت تربطه صداقة مع عائلة تيودراكيس.
بمجرد وصولنا إلى أثينا من "كفالا"، اتصل بي عصمت وأبلغني بالموعد، كان تيودراكيس متعباً ولا يستقبل سوى أحد الكتّاب الذي يملي عليه مذكراته، ولكنه وافق على لقاء سريع تكريماً لفلسطين وللشعر.
أبلغت الأصدقاء بالموعد وتوجهنا جميعاً إلى منزل "ميكس تيودراكيس" في قلب أثينا في حي "بلاكا" أو "حي الآلهة"؛ محمد علي شمس الدين من لبنان والراحل محمد الفيتوري من السودان والصديق صبحي الحديدي والصحافي الفلسطيني الصديق محمود خزام.
أزاحت مدبرة المنزل ستارة تغطي واجهة زجاجية عريضة فاندفع الأكروبولوس قريباً وبالغ الخصوصية، بينما الموسيقي اليوناني يتحدث بتدفق بعيداً عن الأسئلة التي أعددتها أو تلك التي نشأت خلال الحديث، ولكنه في حديثه يحيط على نحو غريب بالأسئلة تاركاً الانطباع العميق والقوي الذي يحفره الجسد الكبير والوجه الطفولي.
ثمة أسى عميق ومضمر يشع هنا، أسى لامع وخاص، الخسارة التي تراكمت تحت النافذة وعلى أعمدة الأكروبولوس وحواف الصخور البعيدة في كريت تشبه انتصاراً مذهلاً ومتصلاً.
شيء يشبه حراسة المعبد وحراسة الذاكرة وحراسة الآلهة القديمة، حراسة فيها من الحنين أكثر مما فيها من الحماية، ومن الحب أكثر مما تحمله العبادة.
كان الصوت يذهب إلى ما هو أبعد منا، ليمسح غبار الفرجة عن الآلهة الناقصة هناك قبالتنا خلف الزجاج في المعبد غبار الفرجة على أكتاف الحجر وتحولاته، فيما ننصت لزمن آخر كان هنا.
يجلس تيودراكيس بوجه طفل ويحرك يديه بمرح كمن يلتقط الكلام من الهواء، قلت لأكسر الرهبة يقولون إننا من كريت.
قال بثقة كما لو أنه أوصلنا بيديه إلى شواطئ فلسطين قبل أربعة آلاف سنة: هذا صحيح في عروقكم دم الجزر اليونانية.
فيما بعد سأكتب قصيدة أهديتها له، ليست عنه ولكنها وليدة تلك الجلسة، شيء من طاقة ذلك اللقاء وقوته وكثافته بقي عالقاً في النص، النفوذ المدهش الذي يتمتع به رجل ويبعثه دون قصد، ليست عنه ولكنها قادمة منه.
فيما بعد سيترجم صديق القصيدة ويقرؤها له باليونانية، وكما علمت أنه طلب أن يقرأها بالعربية أيضاً وبتمهل، وستصلني بعد سنوات تحية منه.
• رحل الموسيقي اليوناني العظيم "ميكس تيودراكيس" في أثينا في الثاني من أيلول الجاري في منزله في قلب أثينا، والنص من مقدمة حوار جرى معه العام 1998.