لم يكن ليخطر ببال نفتالي بينيت وهو يستقل طائرته إلى واشنطن لإجراء أول لقاء رئاسي له، أن «القيامة ستقوم صبيحة اليوم التالي»، وأن واشنطن ليس لديها من تحدثه أو ما تتحدث به، سوى إتمام سحب قواتها تحت نار العمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة... اللقاء الذي وصفته «هآرتس» قبل تفجيرَي بوابات مطار كابول، بـ»التاريخي» وإن كان ليس «مهماً» بالضرورة، فقد أهميته وتاريخيته على حد سواء... فجأةً من دون حساب أو احتساب، تندفع هواجس إسرائيل خطوة للوراء، ويصبح اللقاء مع عاشر رئيس حكومة إسرائيلية يجريه بايدن، مناسبة ثقيلة، تَصرف سيد البيت الأبيض، عن متابعة أسوأ أيام رئاسته.
لا يعني ذلك، أن ملف إيران الذي تأبطه رئيس الحكومة الإسرائيلية بمختلف صفحاته إلى العاصمة الأميركية قد فقد أهميته، أو اندفع إلى الخلف إستراتيجياً... ولا ينبغي بحال التقليل من الأهمية التي أولاها الجانبان للقاء أُريد به، الاحتفاء بطي صفحة دونالد ترامب أميركياً وصديقه بنيامين نتنياهو إسرائيلياً... لكن حتى إشعار آخر، ستظل أحداث السادس والعشرين من آب، تُرخي بسدولها على إدارة بايدن، بل وربما تشكل مناسبة لإعادة توزين مهددات الأمن القومي الأميركي وترتيب أولوياتها.
قبل التفجيرات، وبالأخص بعدها، لم يكن منتظراً أن تنتهي قمة بايدن – بينيت الأولى، باتفاق الجانبين: واشنطن ما زالت تؤمن بالدبلوماسية كخيار للتعامل مع ملف إيران النووي، وهي تدرك أهمية العودة لاتفاق فيينا، والأهم أنها ليست بوارد الدخول في مغامرة عسكرية كبرى جديدة، وهي التي ما زالت تجرجر أذيال خيباتها الأولى، من أفغانستان اليوم، إلى العراق غداً.
هذا ليس خياراً مؤاتياً بالنسبة لحكومة الائتلاف بزعامة الرمز اليميني الأكثر تطرفاً من بين صفوفها، فالرجل لم يخف رغبته في منع واشنطن عن العودة لاتفاق فيينا... والرجل من أنصار سياسة «أقصى الضغوط» الترامبية على طهران... والرجل، أنجز صياغة إستراتيجية بديلة، تعيدنا إلى نظرية «التحالف الاستراتيجي الشرق أوسطي»، والذي يضم إسرائيل و»عرب الاعتدال»، الخليجيين منهم بخاصة، لعزل طهران وكبح جماحها، والرجل تعهد بأن تنفذ إسرائيل ما بوسعها من عمليات ضد برنامج طهران النووي ومنشآته، من سيبرانية واستخبارية وغيرها، وهو ماضٍ في مطاردة طهران في سورية والعراق وأعالي البحار.
والحقيقة أنه باستثناء حكاية «التحالف الإستراتيجي الشرق أوسطي»، لا جديد في هذه الإستراتيجية، وهي لا تختلف عن تلك التي بلورها سلفه «ملك إسرائيل»، زمن إدارة أوباما، وحين كان بايدن نائباً للرئيس... لقد أخفقت إسرائيل من قبل في منع أوباما من إبرام الاتفاق، وليس ثمة ما يشي بأنها ستنجح في منع بايدن من العودة إليه.
ثم من قال إن الجانب العربي، الخليجي بخاصة، ما زال يحتفظ بـ «شهيته» لتشكيل أحلاف إستراتيجية جديدة، سيما بعد تجربة الفشل المتكرر على غير جبهة وأكثر من صعيد...؟ من قال إن السعودية والإمارات، ما زالتا تثقان بوعود الإدارات الأميركية...؟ من قال إن الثقة بواشنطن بعد انسحابها الفوضوي من أفغانستان وتسليمها لطالبان، ما زالت كما كانت عليه...؟ وأخيراً من قال إن دول الخليج، تعتقد أن بمقدورها الاحتماء بشبكة أمان إسرائيلية، وأن إسرائيل يمكن أن تعوض «فراغ القيادة الأميركية» في الشرق الأوسط...؟ في ظني أن مياهاً كثيرة قد جرت في أنحاء المنطقة في الأشهر الفائتة، وأن ما كان ممكناً في بواكير عهد ترامب وزيارته الخارجية الأولى للرياض، لم يعد متاحاً مع مجيء إدارة بايدن.
من تابع ردود الأفعال الأميركية والغربية على واقعة الهجوم الإيرانية على ناقلة النفط الإسرائيلية «ميرسر ستريت»، ظن أن المجابهة العسكرية باتت قاب قوسين أو أدنى، لكن ما هي إلا أيام قلائل، حتى طُوي هذا الملف، وتوقفت التصريحات المهددة والمتوعدة، حتى إن إيران لم تتردد بعد أسابيع قلائل من تلك الواقعة، من تحدي الحصار الأميري، المضروب عليها وعلى لبنان، وتسيير أول ناقلة محملة بالديزل الإيراني إلى لبنان، استجابة لطلب عاجل من حزب الله، وسط ترجيحات بأن الناقلة ستصل محطتها النهائية من دون عرقلة أو تعرّض.
والأرجح أن واشنطن، وفقاً لأكثر السيناريوهات الإسرائيلية تفاؤلاً، ستترك لإسرائيل أمر تدبر نفسها وتقرير كيفية التعامل مع التحديات والتهديدات الإيرانية والحليفة، ولكن من دون وعود بما هو أكثر من التسليح من إعادة ملء مستودعات جيشها حين تفرغ، وتوفير شبكة حماية لها في مجلس الأمن، ودائماً، شريطة ألا يفضي السلوك الإسرائيلي إلى «توريط» واشنطن في حربٍ جديدة، وهي التي لم تنته بعد، من لملمة ذيول حربيها الأخيرتين.
لقد ظهرت في الإقليم، وبالذات على خط «بقايا تحالف صفقة القرن»، نظرية تقول: إن واشنطن التي تعرضت للإذلال في أفغانستان، ستحاول التعويض في إيران وضدها، بهدف إعادة الاعتبار للعسكرية الأميركية، وإعادة رسم الهيبة والصورة الردعية للدولة الأعظم... في ظني أننا أمام عينة من «التفكير الرغائبي»، وأن من فشل أمام 80 ألف مقاتل، بأسلحة بدائية، معظمها فردية، لن يفكر لسنوات طويلة، بالتحرش بإيران، والمليشيات المؤيدة لها في بقاع عدة من مشرق العرب وجزيرتهم.
ولسنا نستبعد أن تكون أحداث السادس والعشرين من آب على بوابات مطار كابول، سبباً في إعادة الاعتبار لنظرية انتعشت في الولايات المتحدة زمن ولايتي أوباما (2008-2016)، وتعطي الأفضلية للإسلام السياسي الشيعي على الإسلام السياسي السني، على اعتبار أن معظم الحركات الجهادية الأكثر شراسة في عدائها للغرب، إنما تنتمي لمدارس مذهبية سنية من سلفية ووهابية، مثل هذه المقاربة دفعت واشنطن للسير في خطين: الأول؛ تسريع إبرام الاتفاق النووي مع إيران، والإشادة المتكررة بإرث إيران التاريخي والروحي والحضاري، مقابل هجاء القادة العرب وقذفهم بأقذع الأوصاف، كما ورد في مذكرات أوباما... والثاني؛ إعطاء ضوء أخضر لتمكين المدرسة الإخوانية في الإسلام السياسي، بوصفها البديل الجاهز للأنظمة المتهالكة من جهة، والأقدر من جهة ثانية، على احتواء ومحاصرة الإسلام الجهادي–السلفي-العنيف.
نائب الرئيس جو بايدن، لم يكن بعيداً آنذاك عن تلك القراءات والمقاربات، وليس مستبعداً أن يعيد جو بايدن، الرئيس، السير على الخطين معاً، وإن بتثاقل أكبر وحذر أشد، وربما تذكره تفجيرات كابول، بما قد يكون نسيه من سجالات ما بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وعشية التوقيع على اتفاق فيينا وغداته.
مَثَلُ نفتالي بينيت في واشنطن هذه الأيام، كمثل ضيفٍ ثقيلٍ-مُتَطَلّبٍ، حل بعائلة صديقة، مكلومة بفقدان أحد أفرادها، منهكة ومنهمكة بإعداد مراسيم التشييع والدفن، لا متسع لديها لتلبية قائمة طلباته الطويلة من الطعام والشراب، فلديها ما هو أكثر أهمية وإلحاحاً.