لماذا أُحب غزة؟ سما حسن

الخميس 26 أغسطس 2021 10:14 ص / بتوقيت القدس +2GMT



هذا هو مقالي الأخير الذي أكتبه من إسطنبول، تلك المدينة التي خضت فيها لخمسين يوماً من أيام عمري القريب من الخمسين، وها أنا أحزم حقائبي وألملم ذكرياتي الجميلة فيها وأضعها في ذاكرتي وأنتظر موعد رحيلي لكي أعود إلى مدينتي الأحب إلى قلبي وهي غزة.
كثيرون يلقون باللوم عليّ ويسألونني لماذا تحبين غزة؟ والحقيقة أنني قد سألت ذات يوم صاحب محل ملابس شهير في غزة يستقدم تجارته من تركيا، وقد أخبرني أنه يغيب شهوراً ثم يعود إلى غزة، والشوق يأكله إليها، وقلت له لماذا تشتاق إلى غزة؟، فأجابني: غزة وحبها لعنة تطاردك، وتصر أن تجذبك، لا أستطيع أن أبقى بعيداً عنها، أسباب لا يمكن شرحها ولكني أشعرها.
وإجابتي دوماً كذلك أن هناك أسباباً كثيرة لكي أحب غزة، ذلك الشريط الضيق على ساحل البحر، والذي يمتلئ بكل تناقضات العالم، وفي لحظة ضيق على ضيقه تقرر أن تجتازه، أن تعبر ما وراء حدوده مهما كلفك الأمر من مشقة، ولكنك تصاب باللعنة، لعنة الحنين، في كل صباح وفي كل لحظة.
يتهمونني بالغباء أنني أتعجل العودة إلى غزة، لا أحد يشعر بما أشعر به، حتى بتُّ غير قادرة على التعبير أو التصريح أنني أشتاقها وأتلهف لكي أعود إليها، مثلما لا أحد يشعر بشعور الأم المرضع التي يثقل ثدياها بالحليب وتعرف أن رضيعها البعيد عنها يشعر بالجوع، ربما يبعد عنها لسبب قاهر مثل ذهابها للسوق القريب، أو أنها في الحقل القريب حسبما أخبرتنا قصص الجدات ورواياتهن حول سهولة الولادة وتربية الأطفال، فنسبن كل عمل صعب أنه كان يتم وقت الحصاد.
وهكذا يقتلك الشوق ولا أحد يشعر بك، لا أحد يشعر بهذه المشاعر الصغيرة والخاصة، الهواء الذي يملأ صدرك في الصباح الباكر وصوت الصباح المطل على غرفتك الساكنة، لا يمكن لأي إنسان ان يعرف معنى صوت الصباح، ولو أخبرته أن للصباح صوتاً في غزة لضحك واتهمك بالخبال، هنا هذه المدينة صمّاء بلا أصوات، وربما لأنها تتكلم غير لغتك فأنت لا تعرف لغة الصباح فيها، وكيف لمن لا يعرف لغة الصباح أن يفهم بقية يومه.
لا أستطيع أن أصف، ولذلك أصمت، أجلس وحيدة وأهمس لنفسي أنهم سوف يبتعدون يوماً عن مدينتهم الأحب ويشعرون بشعوري، شعور الأم التي فارقت رضيعها والذي لا يستطيع أن يحيا بدونها.
لهذه المدينة سحر وغموض، وغموضها ينبع من كونها كلما أوغلَت في البؤس فهي تزداد غلاوةً في قلب أهلها في البعد وفي القرب، كلما سمعت الأخبار ينتابني الشوق والحنين، أنني أريد أن أبقى في قلب الحدث، حين أقرأ الخبر من بعيد أشعر بالشعور ذاته حين أكون في قلب الحدث، وهو الحدث الذي عشته ألف مرة، شعور ان تمضي ليلة مع القصف ثم يأتي الصباح فتغسل وجهك وتسرح شعرك وتأخذ نفساً عميقاً وتستأنف يومك العادي والمعتاد.
اشتقتُ لغزة، قلتها لكثيرين ولاموني وضحكوا وسخروا مني، ولكن ردي كان مقتضباً أنني أريد فقط منهم أن يأخذوا عينيَّ لكي يروا غزة بهما ومن خلالهما، وهنا تذكرت وصفاً لأحدهم أن المحب يرى الجمال كله في محبوبه ولا يرى غيره، وتذكرت رفيقتي في حافلة عامة وهي تومئ نحو رجل وامرأة لا تحمل أي ملامح جمال في نظر من يراها، ولكنهما كانا يبدوان غاية في السعادة، وبالأخص ذلك الرجل الذي نسي محطته المنشودة في حضرتها، وهو ينظر إلى عينيها ويهمس لها كلاماً لا يسمعه غيرها بالتأكيد، ولو سمعه أحدهم فلن يقع في قلبه مثلما وقع في قلبها.
هكذا أحببتُ مدينتي البائسة الحزينة المحاصرة التي تزداد كل يوم بؤساً وفقراً وهمّاً ولكن محبتها في قلبي تتسع، وفي روحي تتسلق حتى تصل إلى أقصى درجات الحب، فأهمسُ لها من بعيد وأناديها، أهمس وأقول يا غزة، وهي تقول لي نعم... يا بنية... نعم.