في بلادنا عندما يصبح الشرح مملاً والمقدمات خارج المعنى والأسباب لا تؤدي إليه، عندما يتكرر الأمر ويواصل تكراره، نقول: "من الآخر..."، أي دون ادعاء وتشتيت وتحايل و"تغميس" خارج الطبق.
"من الآخر.." هي أيضاً حافة الصبر ونفاد طاقة التحمل وتبديد الوقت.
الحلقة المفرغة التي تدور فيها العلاقة بين السلطة والمعارضة، بين الأجهزة الأمنية وتحركات الاحتجاج على أنواعها؛ احتجاج على فساد، احتجاج على قرار، احتجاج على جريمة قتل مزدوجة تشمل اعتقالاً وقتلاً تحت التعذيب، احتجاج على مصادرة الحقوق واحتكارها، احتجاج على غياب العدالة في توزيع الفرص والوظائف المتاحة...، الاحتجاج مكون أساسي في مدونة الحقوق ولن تنجح محاولات إقصائه من المدونة، أو ترويضه بما يتلاءم مع حاجات السلطة.
الاحتجاج والمعارضة هما اكتمال السلطة ودونهما ستكون سلطة مشوهة وعرجاء تتوكأ على عكاز "الولاء"، وناقصة وغير ضرورية.
على السلطة أن تعوّد نفسها على رؤية المظاهرة الغاضبة، الحشد المعارض، وأن لا تكتفي بمسيرة الولاء، أن تصغي إلى صوت الاعتراض وأن تقرأ بتمعن اللافتات المرفوعة، لا أن تغذي رضاها عن نفسها بهتافات الموالين وأصوات المنتفعين والمدّاحين.
عليها أن ترى وأن تصغي إذا أرادت أن تكون "سلطة" كاملة تقود شعباً تحت الاحتلال على أرض محتلة ومهددة بالمصادرة.
معظم الحقيقة في الشارع وليس في مخيلة القادة ومكاتبهم.
هذه الدوامة ستتواصل وتذهب بعيداً في توسيع الهوة بين وعي الناس بواقعهم وحاجتهم لتغيير هذا الواقع المركب، وبين وعي السلطة بدورها وفكرتها عن نفسها.
"من الآخر"....
الاعتقالات والاعتداء الجسدي والتشويه المعنوي وتوظيف القانون في غير غايته، التنفس خارج "وثيقة الاستقلال" التي اتفقت حولها غالبية الفلسطينيين هي أيضاً مواصلة غير محمودة لإنهاك منظمة التحرير المفككة.
اعتقال المناضلين هو اعتقال لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ومنجزها ومحاولة لإقصاء هذا التاريخ عن حركة الواقع.
الاعتقال يعزز حضورهم، المناضلين، ودورهم في وعي الناس، ويزيد من عزلة السلطة والمؤسسة الأمنية عن شعبها.
تكرار اعتقال المناضلين، تحت أي لافتة، وإفساد القانون عبر الاحتيال عليه، سيعزز فكرة أن هناك أكثر من سلطة في بلد تحت الاحتلال. واحدة تعتذر وتعد، وواحدة تعتقل وتقمع.