الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين لمحاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال.. صلاح عبد العاطي

الإثنين 31 مايو 2021 08:12 م / بتوقيت القدس +2GMT
 الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين لمحاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال.. صلاح عبد العاطي



غزة /سما/

 الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين لمحاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي.. المحامي والناشط الحقوقي د. صلاح عبد العاطي رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"

تمهيد:

  في ظل الظروف الدقيقة والخطيرة التي مرت وتمر بها القضية الفلسطينية، واستمرار حكومات الاحتلال المتعاقبة في سياسة العدوان، وفرض الأمر الواقع من خلال مواصلة الحصار، واستهداف المدنيين وهدم البيوت والمنشآت، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء وتوسيع المستوطنات الاسرائيلية غير المشروعة، سيما في مدينة القدس الشريف وتهويدها وعزلها وحصارها، بغية طمس معالمها وملامحها الدينية والتاريخية والحضارية وهويتها العربية الاسلامية والمسيحية، وإيجاد خلل في تركيبها الديمغرافي، بالإضافة لبناء جدار الفصل العنصري والتنكيل بالأسرى وغيرها من الانتهاكات المتواصلة والتي تأخذ أشكالاً لا حصر لها.

 وقد كشف وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر على مدار أحدي عشر يومياً مايوم2021، على مشاهد مروعة للجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث تعمدت قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي بشكل واضح ومنهج ومنظم استهداف المدينين وممتلكاتهم المدنية، وخاصة المنازل السكنية الواقعة وسط أحياء مكتظة بالسكان، بهدف قتل الأطفال والنساء وتشريد آلاف من العائلات وإلحاق أضرار مادية جسيمة في المحيط السكني لهذه المنشآت. حيث تسبب العدوان في استشهاد 254 شهــيداً من بينهم 68 طفل و39 سيدة و19 مسن اضافة الى 1948 اصابة بجراح مختلفة، نصهم من الأطفال والنساء .

  وأدت العمليات الحربية الإسرائيلية على مدار الـ ـ11 يوماً إل: تهجير قسري لقرابة 107 آلاف مواطن اضطروا إلى الفرار من منازلهم من بينهم أكثر من 9 آلاف أسرة، مازال بعضهم حتى اللحظة يتواجد في بعض مدراس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي استخدمت كمراكز إيواء، تدمير قرابة 2000 وحدة سكنية بشكل كلي وبليغ، وإلحاق أضرار بقرابة 14886 وحدة سكينة بشكل متوسط وجزئي، فضلا عن قصف 184 برج سكني ومنزل سكني. وتدمير عبر الاستهداف المباشر لقرابة 74 مقر حكومي ومنشأة عامة تنوعت بين مقرات شرطية وأمنية ومرافق خدماتية، وقد بلغت تقديرات الخسائر المباشرة 23 مليون دولار، و تدمير غالبية الشوارع والطرقات الرئيسية والبنية التحتية من شبكات الكهرباء والمياه  والاتصالات والصرف الصحي في محافظة غزة ومحافظة شمال غزة، وغيرها من المخيمات، وتدمير كلي لــ03 مساجد، وتضرر جزئي لــ40 مسجد وكنيسة واحدة، ومبني وقفي من خمسة طوابق ومرافق وقفية، وتدمير 33 مؤسسة إعلامية، وأكثر من 355 منشأة صناعية وتجارية، ومئات المركبات ، واضافة الي تضرر 134 مدرسة وروضة ومرافق صحية وعيادات رعاية أولية بشكل بليغ وجزئي جراء القصف الشديد في محيطها.

الأمر الذي يطهر بأن بنك الأهداف للعملية الحربية الإسرائيلية بشكل جلي هو إيقاع القتل بين صفوف المدنيين الفلسطينيين، والاستهداف الحربي المباشر والمخطط له لممتلكاتهم المدنية والممتلكات العامة التي لا غني عنها بما يجعل حياة السكان في مستوى الكارثة الإنسانية.

 وما يؤكد ذلك ما رصدته الجهات الحكومية المعنية وتصريحات جيش الاحتلال بأنه شن على قطاع غزة ما يزيد عن 1900 غارة بالطائرات الحربية بصواريخ شديدة التدمير بعضها ارتجاجي انشطاري مضاد للدروع ما يحدث أذى بليغ في المدنيين والأعيان المدنية  وعدد عن رصد الدفاع المدني والجهات الطبية لاستخدام أسلحة محرمة دوليا مثل قنابل وصواريخ دخانية تحتوي على غازات سامة مواد كيميائية ، إضافة إلى القصف المدفعي العنيف في المناطق الحدودية وإطلاق قذائف من البوارج الحربية البحرية بشكل غير متناسب لا يقيم  أي وزن للمبادئ والقواعد الدولية المنظمة لحالة النزاعات المسلحة ولاسيما أحكام اتفاقيات لاهاي التي تنظم طرق وأساليب القتال والتي تحظر استخدام الأسلحة المحرمة دوليا وعلميات الاقتصاص من المدنيين، واتفاقيات جنيف التي تحمي المدنيين والاعيان المدنية، كما وتشير المعطيات والاحصائيات الأولية إلى أن الهجمات الحربية الإسرائيلية في قطاع غزة كانت ذات الطابع الانتقامي والعشوائي ترمي للاقتصاص من المدنيين وممتلكاتهم وفرض عقاب جماعي عليهم، خاصة في ضوء تصريحات مسؤولين إسرائيليين إلى أن الأهداف العسكرية لم تكن بالدقة المطلوبة، ما يبرهن على تعمد قتل واستهداف المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم . كما ترافقت الهجمات الحربية الإسرائيلية مع تنامي الشكوك من استخدام قوات الاحتلال لقذائف دخانية وصواريخ حربية يؤدي انفجارها إلى انتشار غازات كيميائية، فسكان المناطق المستهدفة بالصواريخ والمناطق الحدودية يشتمون روائح لغازات تمتلئ منازل المدنيين، وتسبب بالشعور بحالة من حالات الاختناق، وتهيج في العيون.

إلى جانب الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق المدنيين وممتلكاتهم في قطاع غزة، كانت آلة القتل والقمع الإسرائيلي توجه للمدنيين والمتظاهرين السلميين في القدس ومدن وقري الضفة الغربية، مناطق 48  مع تصعيد واضح ومخطط له لعمليات القتل الميداني التي تدلل على حالة مفزعة من انتهاك الحق في الحياة حيث رصدت الهيئة استمرار عمليات التمييز العنصري والاعتداء على الفلسطينيين في مناطق ٤٨ من قبل المتطرفين بحماية الشرطة الإسرائيلية حيث وصل عدد القتلى من الفلسطينيين 3 شهداء، وعشرات الإصابات و1100 معتقل إضافة إلي مواصلة اعتداءات المستوطنين على مواطني مدينة القدس وخاصة سكان حي الشيخ جراح في المدينة المقدسة، وفي الضفة الغربية فقد ادي قمع قوات الاحتلال للمتظاهرين بالرصاص الحي والرصاص المعدني المغلف بالمطاط وقنابل الغاز الي استشهاد 27 فلسطيني وأصابه قرابة 4500 مواطن في انحاء الضفة الغربية وتبعها استخدام سياسية الاعتقال التعسفية من قبل قوات الاحتلال في القدس والضفة الغربية والتي وصلت حتي اليوم الي اكثر 1400 معتقل .

ورغم أن كل ما تقوم به سلطات الاحتلال يعد انتهاكات جسمية لحقوق الانسان، ترقى لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، وتتناقض وقواعد القانون الدولي الإنساني، كما وتشكل ضرباً بعرض الحائط قرارات الشرعية الدولية وشرعة حقوق الانسان والاتفاقات المبرمة،  فالأمم المتحدة تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته، فهي التي صادقت على القرار 181 الصادر عنها، والخاص بتقسيم أرض فلسطين، وهي التي أكدت من خلال عشرات القرارات لهيئاتها المختلفة، على عدالة وشرعية حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، لهذا فإن الأمم المتحدة يقع على عاتقها مسؤولية دائمة تجاه الشعب الفلسطيني، إلى حين التوصل لحل يضمن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حريته واستقلاله وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وفق قرار 194.

وفي الوقت الذي يعبر فيه الباحث عن الإدانة، والغضب الشديد لاستمرار عجز وشلل المجتمع الدولي عن الوفاء بالتزاماته القانونية والأخلاقية، والتي تقضي بحماية المدنيين ووقف جرائم الاحتلال بحقهم، في ظل انحياز وصمت دولي فاضح،  إلا أن الشعب الفلسطيني اليوم يجد العزم بما يمكنه من عزل ومقاطعة ومحاسبة الاحتلال، على جرائمه وتوفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين، وهذا يتطلب استكمال الانضمام لكافة المنظمات والاتفاقيات الدولية، وتبني استراتيجية وطنية شاملة تضم بين جنباتها كل الأطراف الوطنية الفلسطينية على قاعدة تكامل الأدوار، بما يقود إلى تحقيق الأهداف الوطنية محاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي وإنصاف الضحايا.

وكنا قد رأينا بأن الخرق أو الانتهاك يقابله مسئولية وجزاء دولي، وبناء على ما سبق فحينما يلجأ الفلسطينيون إلى ملاحقة قادة الاحتلال، فإنه يكون بذلك يستخدم حقوقه المتاحة طبقاً للقانون والأعراف الدولية، سيما وأن جرائم الاحتلال تكاد لا تعد ولا تحصى، وتكاد تكون ثابتة بأدلة قطعية، وحق المحاكمة والملاحقة بات اليوم أكثر إتاحة، في ظل حصول فلسطين على عضوية المراقب في الأمم المتحدة، وبالتالي بات يمكن الطلب بتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق، والتحقيق في الوقائع المتعلقة بأي ادعاء خاص بانتهاك جسيم كما حددته الاتفاقيات، طبقاً لنص المادة (90) من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف()، وكذلك المطالبة بدفع التعويضات إذا اقتضى الحال ذلك، وتوقيع الجزاءات الجنائية طبقاً لنص المادة (91) من البروتوكول ذاته.

إن الولوج لتلك الحالة، تتطلب من الفلسطينيين العمل على أكثر من خيار متاح، لكن هذه الخيارات سوف تعترضها عقبات، لعل أبرزها يتمثل بمواقف الولايات المتحدة، والقوى المتنفذة في نظم العلاقات الدولية التي حالت على مدى 73 عاماً، من ملاحقة الاحتلال الحربي الاسرائيلي على جرائمه خلافاً لأحكام القانون الدولي. ومع ذلك لا زال أمام فلسطين عديد الخيارات لملاحقة الاحتلال قانونياً، سوف نوردها في مطلب مستقل بعنوان: الخيارات والآليات القانونية المتاحة، أمام الفلسطينيين لمحاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي.

المطلب الأول: الخيارات والآليات القانونية المتاحة أمام الفلسطينيين لمحاكمة ومحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي.

إن المسؤولية القانونية الدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الاحتلال لا تقتصر فقط على عاتق الدولة المعتدية والتي تكون عرضة لإمكانية فرض العقوبات الدولية عليها فضلا عن التزامها بتعويض أضرار هذه الانتهاكات، وإنما تمتد هذه المسؤولية لتشمل أيضا الأشخاص الطبيعيين من قادة عسكريين أو زعماء سياسيين والذين تآمروا وخططوا ونفذوا لارتكاب هذه الانتهاكات، وتسمى هذه المسؤولية بالمسؤولية الشخصية عن الجريمة الدولية.

نظراً إلى اقتراف دولة الاحتلال لجرائم وباتت جرائم ضد الإنسانية، فقد يكون من الأهمية بمكان أن تبادر دولة فلسطين إلى اعتماد استراتيجية وطنية لمحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي إضافة لتوظيف كافة القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية ومجلس حقوق الإنسان وتقرير منظمات حقوق الانسان الدولية والمحلية والتي أدانت دولة الاحتلال وبصورة رسمية بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لترتيب نتائج قانونية، لأنها تحمل دلالات ومؤشرات قانونية واضحة على عدم التزام دولة الاحتلال الإسرائيلي بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. 

ظلت عقبات كثيرة تعترض العقل القانوني، سواءً على الصعيد السياسي أو الواقعي، لخوض معركة محفوفة بكل العراقيل والتي ليس أقلها الانحياز الأميركي، ومؤامرة الصمت الدولي وضعف النظام العربي الرسمي، يضاف إلى ذلك عدم إيلاء مؤسسات المجتمع المدني الدولية، ما يستحقه هذا الأمر على صعيد الحشد والتعبئة، وبالتالي في تكوين رأي عام مساند للفكرة، فحتى الآن لم تصبح مسألة ملاحقة مجرمي الحرب، هماً لكل نشطاء ومناضلي العالم، ولطالما أن هناك تقاعساً أو نكوصاً رسمياً أو حسابات خاصة، تحول دون ملاحقة المرتكبين لتقديمهم إلى القضاء الدولي، سيما في ظل وجود اتجاه يقول بأنه لا يتعين الحديث عن محاكمات لمجرمي الحرب في الحالة الفلسطينية- الاسرائيلية، حرصاً على إنجاح المفاوضات وجهود إحياء عملية السلام، بالرغم من أن التجربة الفلسطينية قد أكدت سابقاً، بأن التضحية بحقوق الإنسان سوف يعطي الاحتلال الإسرائيلي مزيداً من الوقت والحصانة، وسيفتح شهية الاحتلال على ارتكاب مزيد من الجرائم بحق الفلسطينيين، لذا فإن الانضمام إلى اتفاقيات حقوق الانسان، والقانون الدولي الانساني وكذلك الأجسام الدولية، والتي من بينها محكمة الجنايات الدولية عزز ويعزز من مكانة دولة فلسطين، خصوصاً وأن مبدأ العقوبة فردية، ويعني ذلك ضمناً تحميل إسرائيل المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، عن كل ما حصل في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.

وكنا قد استعرضنا في مقام سابق كيف أن اتفاقيات جنيف قد تبنت بمبدأ مسؤولية الفرد الجنائية عن الأفعال التي يأتيها بالمخالفة لأحكامها، وقد نصت المادة (12) منها على أن تقع المسؤولة الجنائية الدولية على الفرد أياً كان مركزه، فالمركز الرسمي لمقترف الجريمة لا يعفيه من المسؤولية والعقاب، وهو ذات المبدأ الذي أقرته لجنة القانون الدولي والمحاكمة الجنائية الدولية لمجرمي حرب البوسنة من الصرب، وقد نصت على “لا يعفى مقترف الجريمة الدولية من تحمل المسؤولية الدولية، ولو كان قد تصرف بوصفه رئيساً للدولة أو حاكماً أثناء ارتكابها".

وبناء على ما سبق يمكن الجزم بأن الفلسطينيين عندما يلجئون لملاحقة قادة الاحتلال، فإنهم بذلك يستخدمون حقوقهم المتاحة، طبقاً للقانون والأعراف الدولية، والتي حين القياس عليها نكون أمام وقع جرائم ارتكبها الاحتلال لا تعد ولا تحصى، وبأدلة قطعية يبقى أن نستخدم عقولنا وإرادتنا.

 فحق المحاكمة والملاحقة بات أكثر إتاحة من أي وقت مضى، فمثلاً بحصول فلسطين على عضوية المراقب في الامم المتحدة يمكننا أن نطالب بتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق، طبقاً لنص المادة (90) من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف، ويعطينا كذلك الحق في المطالبة بالتعويضات وتوقيع الجزاءات الجنائية، فترقية مكانة دولة فلسطين، وإعلان محكمة الجنايات الدولية بتاريخ: 1 إبريل 2015، عن قبول انضمام دولة فلسطين رسمياً إلى المحكمة، تشكل فرصة تاريخية ودولية للمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب، ولعل هناك أكثر من خيار قانوني دولي، يمكن اعتماده لملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجريمة العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين، لذا قسم الباحث هذا المطلب الى خمسة فروع رئيسية، سوف يتناول في كل فرع خيار أو آلية من الآليات المتاحة للملاحقة القانونية لقادة الاحتلال الإسرائيلي، على النحو التالي:

الفرع الأول: العمل على إحالة قيادات الاحتلال الى المحكمة الجنائية الدولية

وهذا يتطلّب من دولة فلسطين بعد انضمامها إلى ميثاق روما المؤسس للمحكمة، أن تحضر ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لوضعها أمام المحكمة، حيث يعتبر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، معاهدة دولية تلزم جميع الدول الأطراف، وذلك تطبيقًا للقاعدة العامة التي تقضي "بتقييد المتعاقد بتعاقده"، باعتبارها قاعدة أساسية في كافة الأنظمة القانونية، ويترتب عليها أن احترام المعاهدات أمر يعلو إرادة الدول المتعاقدة،  وهنا يثار تساؤل، حول إمكانية محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، عن الجرائم التي ارتكبت في فلسطين، أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، وذلك في ظل رفض دولة "الاحتلال الإسرائيلي" الانضمام إلى المعاهدة الدولية المنشئة لهذه المحكمة؟

هنا نشير إلى أنه من حيث المبدأ، لا تخضع دولة "إسرائيل" بوصفها دولة غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، للولاية القضائية لهذه المحكمة تطبيقا لمبدأ "الأثر النسبي للمعاهدات الدولية" وانطباقها على أطرافها فحسب، غير أن هذا المبدأ تنظمه وتقيده العديد من الاستثناءات المقررة لصالح إعمال العدالة الجنائية الدولية، وعدم إفلات مرتكبي أشد الجرائم خطورة على المجتمع الدولي من العقاب، وإن إعمال الاستثناءات الواردة على المبدأ من شأنه أن يؤدي إلى إلزامية محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذلك استناداً على أن اختصاص القضاء الجنائي الدولي هو اختصاص مكمل لاختصاص القضاء الوطني، فإن الاختصاص ينعقد أصيلاً لقضاء دولة "الاحتلال" بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، من الجنود والمدنيين الذين ارتكبوا جرائم الحرب حيث أن القانون الدولي الإنساني يلزم دولة "إسرائيل" باتخاذ ما يلزم من إجراءات تشريعية وقضائية وتنفيذية لضمان معاقبة الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، وذلك وفقا لنص المادة (146) من اتفاقية جنيف الرابعة الملزمة لإسرائيل باعتبارها طرفاً في هذه الاتفاقية()، وباعتبارها سلطة احتلال حربي للإقليم الفلسطيني.

وهو ما لم تقم به سلطات الاحتلال، وبالتالي في هذه الحالة فإن الاختصاص ينعقد لمحكمة الجنايات الدولية، التي ستكون مكملاً للاختصاص القضائي الوطني لمحاكم الاحتلال، كما وينعقد الاختصاص لمحكمة الجنايات في حال ثبوت تقاعس المحاكم الوطنية عن إحقاق العدالة والمحاسبة، وبالنظر للسوابق التاريخية يتبين أن دولة الاحتلال الإسرائيلي، لم تقم يوماً بالوفاء بالتزاماتها الدولية، سيما ما يتعلق بملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني،  ما يعني أن "إسرائيل" غير راغبة في محاكمتهم، أو غير قادرة على ذلك لأي سبب من الأسباب، وهنا يأتي دور المحكمة الجنائية الدولية، بنظر هذه الجرائم ومعاقبة المتورطين فيها، حيث يصبح اختصاصاً إلزامياً. 

ورغم أن السوابق التاريخية لقرارات مجلس الأمن، تنبئ باحتمال فشل مجلس الأمن في إصدار قرار ملزم، بإحالة ملف جرائم الاحتلال الاسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب الفيتو الأمريكي، إلا أن المحاولة في حد ذاتها سوف يكون لها مردود إيجابي بالنسبة للقضية الفلسطينية، وذلك من جهة كشف الجرائم غير الإنسانية التي تعرض لها تاريخياً، بما في ذلك تعزيز حشد مزيداً من التأييد الدولي تجاه الحقوق الفلسطينية، وتعرية سياسة الازدواجية والكيل بمكيالين التي يتعامل بها مجلس الأمن مع القضايا العربية،  إلا أنه يتبقى وفق ميثاق روما المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية الدائمة، حالتان يمكن من خلالهما إلزام دولة الاحتلال "إسرائيل"، بالخضوع للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قسراً، هما:

الحالة الأولى: لجوء المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك وفقاً للمادة (15) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من تلقاء نفسه بمباشرة التحقيق في الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة، وذلك دون الإحالة من قبل الدول الأطراف (مادة 13(أ)، 14) أو من قبل مجلس الأمن (مادة 13/ب) أو دولة غير طرف (مادة 12/3). ولكن يجب على المدعي العام أن يقوم، قبل البدء في إجراءات التحقيق، بتقديم طلب مدعم بالمستندات المادية للدائرة التمهيدية للمحكمة (مادة 15/2) والحصول على موافقتها (م15/4) بأغلبية أصوات لا تقل عن صوتين من أصل ثلاثة أصوات.

 الحالة الثانية: هي طلب دولة عضو في ميثاق روما المؤسس للمحكمة من مدعٍ عام المحكمة، فتح تحقيق بناء على طلب الدولة، وهذا ما يتيحه الآن حصول فلسطين على عضوية الدولة المراقب، وتصديقها على الميثاق وبما يعني اعترافاً من دولة فلسطين باختصاص المحكمة وولايتها، وهذا ما يجب الاستمرار بالعمل بموجبه، في ظل استمرار تنكر دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكافة قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، وبالتالي فإن هذه وسيلة قانونية وقضائية باتت متاحة، وقد تم إحالة ملف الاستيطان الاستعماري وبعد طول تأخير في تاريخ 22مايو عام 2019 الامر الذي ساهم في تسريع إجراءات الفحص الاولي والزم مكتب الادعاء العام في المحكمة بالإعلان عن نيته فتح تحقيق جاد في جرائم الاحتلال في الحالة الفلسطينية ولكن مكتب الادعاء أحال الي الدائرة التمهيدية في المحكمة مسالة البث في الولاية الجغرافية للمحكمة وهو ما قضت به المحكمة بانطباق احكام ميثاق روما على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، رغم الضغوط الامريكية والإسرائيلية وضغوط حلفاء الاحتلال في المحكمة بادعاء ان فلسطين ليست دولة وان هذه الأراضي متنازع عليها، وان اتفاق أوسلو يلزم الفلسطينيين بعدم التوجه للمحاكم الدولية وغيرها من ادعاءات فشلت في اثناء المدعي العام عن القيام بفتح التحقيق الجاد والتي أعلنت دولة الاحتلال عدم تعاونها مع المحكمة رغم ان عدم التعاون ممكن ان يعيق عملية التحقيق، والا ان التحقيق فتح ومستمر وبغض النظر عن تعاون دولة الاحتلال مع المحكمة، بما يمكن معه تعزيز قواعد العدالة والانصاف والعدالة، من خلال محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام القضاء الجنائي الدولي.

وبالرغم من التخوفات التي يبديها البعض بأن اللجوء لمحكمة الجنايات الدولية، يمكن أن يشكل سلاحاً ذوي حدين، خاصة في ظل اختلال ميزان القوي الدولي، وأنه بمقدور الاحتلال تجريم النضال الوطني ومحاكمة قادة المقاومة، إلا أن شرعية أعمال المقاومة الوطنية أو التحرر الوطني، يعد من أهم مبادئ القانون الدولي، والذي أضفى على مثل هذه الأعمال مشروعية وقبولاً، كوسيلة لممارسة الحق في تقرير المصير والتحرر من الاستعمار، سيما وأن الاحتلال بحد ذاته عملاً قسري، يهدف إلى اكتساب الأرض بالقوة، وبالتالي فهو يشكل انتهاكاً لأحكام القانون الدولي.

دولة فلسطين عليها واجب ان تتابع بكثب ضمان ممارسة محكمة الجنايات الدولية لاختصاصها، في سياق إنفاذ القانون الدولي الإنساني، والمساهمة في حماية ضحايا جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التظهير الجماعي والعرقي، التي مارستها سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي، بما يعزز مبادئ إرساء العدالة الدولية الناجزة والمنشودة، بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين. ويتطلب هذا الخيار إحالة باقي ملفات الانتهاكات الجسمية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وعدم الاكتفاء بإحالة ملف الاستيطان  الاستعماري او دعم التحقيق الأولي الذي قامت به مدعية عام المحكمة فاتو بن سودا بوثائق وأدلة ومذكرات تثبت اقتراف دولة الاحتلال جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية كون هذا المسار قد يطيل أمد التقاضي بشكل كبير بما يساهم في تأخير العدالة، فتقديم الملفات سوف يلزم المحكمة عملاً بأحكام ميثاقها، بتشكيل غرفة ابتدائية من ثلاثة قضاة للنظر في الملفات ومن ثم مطالبة المدعي العام بفتح تحقيق جدي، او ضم كل الجرائم الي مسار التحقيق المفتوح .

الفرع الثاني: الاختصاص العالمي

 بالإضافة للمحاكم الجنائية الدولية، يختص القضاء الوطني كذلك بالنظر في انتهاكات القانون الدولي الجنائي، إلا أن الدول لم تتفق على تحديد معيار للاختصاص بالرغم من أنها في بعض الاتفاقيات المبرمة بشأن جرائم دولية معينة قد وضعت معايير للاختصاص، إلا أن محكمة وقوع الفعل الضار أي الجريمة الدولية، هي الأولى بمحاكمة المجرم وتوقيع العقاب عليه، كما قد تختص محكمة دولة القبض على الجاني، وفي حالات معينة قد تختص محكمة دولة جنسية الجاني()،  إلا أن الحل في المشاكل المتعلقة بتنازع الاختصاص بين الدول يكمن في تبني عالمية الاختصاص القضائي، إذ يحق لأي دولة مهما كانت أن تحاكم المجرم أياً كانت جنسيته، وأينما ارتكب جريمته، ومهما تكن جنسية ضحاياه وبالمقابل تلتزم باقي الدول، خاصة التي مستها الجريمة بطريقة أو بأخرى، باحترام قضاء الدولة الأجنبية التي أصدرت الحكم. ولكي تختص محكمة داخلية معينة في نظر جريمة دولية، يجب أن يكون أحد عناصر الجريمة قد تم فيها، كأن تكون دولة القبض على المجرم، أو تشكل مكان ارتكاب الفعل الجرمي، أو أن يكون المتهم فيها يحمل جنسيتها أو بناء على الاختصاص القضائي العالمي.

ويعني هذا الخيار؛ بأنه يحق لأي دولة طبقاً لاتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949، الشروع محاكمة المتهمين بارتكاب مخالفات جسيمة، بصرف النظر عن مكان وقوع هذه الجرائم، طبقاً لقوانين الدولة ذاتها. تطبيقاً لما نصت عليه المواد (49، 50، 129، 146) المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع، تلك التي ألقت على الدول التزاماً باتخاذ ما يلزم من تدابير إجراءات تشريعية وتنفيذية لقمع المخالفات الجسيمة، وضمان توقيع العقاب على مقترفيها، وذلك بغض النظر عن مكان ارتكاب تلك الجرائم أو جنسية مرتكبها،  حيث ألزمت هذه النصوص، الدول الأطراف بالبحث عن المتهمين بارتكاب هذه الانتهاكات "بغض النظر عن جنسيتهم" وتقديمهم للمحاكمة أمام محاكمها الوطنية أو تسليمهم للمحاكمة من جانب دولة أخرى، وذلك طبقا للمبدأ القاضي بالتزام الدول بـ "إما المحاكمة أو التسليم". ولعل الاختصاص الجنائي الدولي يتيح نظرياً، على الأقل لنحو 47 بلداً غالبيتهم من دول الاتحاد الأوربي، التقدم أمام المحاكم الوطنية ورفع دعاوى، سيما وأن هذا المبدأ أصبح في العصر الحالي يشكل حجر الزاوية، في محاربة الإفلات من العقاب ضد المجرمين، فجوهر هذا المبدأ أن الدولة إن لم تحاكم الشخص الذي اقترف الجريمة الدولية، تصبح مجبرة على تسليمه إلى دولة أخرى طالبت بمحاكمته أمام قضائها.

وفي الحالة الفلسطينية فيما لو تبنت الاختصاص العالمي، يكفي أن يحمل الضحية الجنسية الفلسطينية ليرفع الدعوى أمام قضائه الوطني، ليحق له مقاضاة المتورطين في جرائم يقدّمها ضد شخص بذاته من المسؤولين الإسرائيليين، حتى وإن كان يتمتع بحصانة، لأن هذه الأخيرة لا تعفيه عن المساءلة بارتكاب الجرائم الجسيمة،  ورغم أن إمكانية اللجوء إلى توظيف الاختصاص العالمي متاحة، سيما في البلدان التي تسمح قوانينها ونظامها القانوني بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، إلا أن الباحث يرى أنه لم يجرِ استثمارها من جانب الفلسطينيين على نحو مؤثر، بغية جلب المتهمين الإسرائيليين إلى قفص الاتهام، الأمر الذي يتطلب من دولة فلسطين ومنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والعربية والدولية، تكثيف العمل مع الدول التي تأخذ بالاختصاص الدولي، وبالذات الإفريقية والأوروبية ودول آسيا وأمريكا اللاتينية، سيما التي يرتادها الإسرائيليون المتورطون في ارتكاب جرائم الحرب أو التخطيط أو إعطاء الأوامر بارتكابها، كي تسمح بملاحقة ومحاكمة أولئك وفاءً لالتزاماتها التعاقدية، المنصوص عليها في المادة (146) من اتفاقية جنيف الرابعة. إلى جانب العمل أيضاً على تعديل قوانين العقوبات الفلسطينية والعربية، لجهة الأخذ بالاختصاص العالمي لكي تقبل دعاوى مسائلة المسؤولين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم جسيمة، بحق العرب والفلسطينيين في حالة مرورهم عبر أراضيها.

وفي كل الأحوال فإن اللجوء إلى هذا الخيار ممكن ومتاح رغم أنه غير مضمون، سيما من خلال الضغوط السياسية والتعقيدات القانونية، التي قد تجعل الجناة يفلتون من يد العدالة، كما حدث عندما تراجعت بعض الدول الأوربية عن مبدأ الولاية القضائية الدولية مثل دول (بلجيكا، وإسبانيا، وبريطانيا) على إثر تقديم دعاوي بحق عدد من المسئولين الإسرائيليين، حيث رفضت بلجيكا محاكمة "أرييل شارون" رئيس وزراء دولة الاحتلال عن تهمة ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، متذرعة بحصانته وأنه لا يقيم على الأرض البلجيكية، وقال متحدث باسم محكمة استئناف في العاصمة البلجيكية بروكسل «قررت المحكمة رفض الدعوى المقامة ضد شارون، لأن مبدأ القانون البلجيكي لا يسمح بإجراء محاكمات، عن جرائم ارتكبت في دول أخرى، إلا إذا كان مرتكبها أو من يشتبه أنه مرتكبها موجوداً في بلجيكا.

ولعل من الجدير ذكره في هذا السياق، بأنه يمكن لدولة فلسطين والسلطة القضائية فيها، ملاحقة جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ولكنها قبل كل شيء بحاجة لقرار من السلطة التنفيذية، باعتبار الأمر مسألة سيادية تحتاج إلى قرار سيادي أيضاً، وعلى الرغم من العقبات التي يمكن أن تعترض طريقه، إلا أن الباحث يرى بأنه يمكن تذليلها بالطرق القانونية الدولية والمحلية، ومن خلال إنهاء الانقسام السياسي الداخلي، وتوحيد دفة السلطة القضائية وضمان حيدتها واستقلالها، وضمان موائمة التشريعات الفلسطينية مع الاتفاقيات الدولية، التي وقعت عليها دولة فلسطين.  

والحقيقة الواقعية أنه لم يظهر للقضاء الفلسطيني، أي دور في ملاحقة المتهمين الإسرائيليين بارتكاب جرائم دولية بحق الشعب الفلسطيني، ويعود ذلك وفق تقديرنا بأنه إما التزاماً باتفاقية أوسلو، أو اقتناعاً بعدم أهلية القضاء الفلسطيني للعب هذا الدور، أو خوفاً من ذهاب الجهد والوقت والمال سدى بسبب عدم وجود أفق لتنفيذ الحكم الصادر في الدعاوى،  رغم إن منح القضاء الفلسطيني صلاحية النظر في الجرائم الدولية، يحقق العديد من الأهداف التي من بينها، تأكيد الحقوق التي فقدها أصحابها، وتوثيق الجرائم الإسرائيلية في ملفات معتمدة وحسب المعايير الدولية، إلى جانب فتح مجال جديد للضحايا للبحث عن حقوقهم المفقودة بفعل الجرائم الإسرائيلية، إضافة إلى أن الأحكام الصادرة عن القضاء الفلسطيني ستكون قرينة يستأنس بها لدى القضاء الدولي ...الخ،  الأمر الذي تحتاج إلى توظيف قدرات وطنية قانونية ومادية وبشرية للقيام بالدور المطلوب في تفعيل وإعمال مبدأ الاختصاص العالمي الجنائي لوقف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب عبر اللجوء إلى المحاكم، بما فيها القضاء الفلسطيني باعتبار فلسطين طرف تعاقدي في أحكام اتفاقيات جنيف لوقف الانتهاكات التي ترتكبها القوات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتقديم المسئولين عنها للعدالة،  فاستمرار إفلات الاختلاف الإسرائيلي وقيادته السياسية العسكرية يزيد من غطرسة إسرائيل وهيمنتها، ومن شأنه أن يقوي عزيمتها أكثر من أجل ارتكاب أكبر قدر ممكن من الانتهاكات. 

مما سبق نرى بأن هناك أهمية كبيرة للملاحقة الجنائية والمدنية فهي سوف تساهم وبشكل جدي في ردع تفكير وممارسات قادة الاحتلال عن انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، اضافة إلى تعزيز شرعية الانتفاضة والمقاومة التي يضطلع بها الشعب الفلسطيني، ويعري لا قانونية أعمال التطهير العرقي والتميز العنصري التي تعترفها دولة الاحتلال في فلسطين.

ومن الجدير بالذكر بأن الملاحقة الجنائية وان لم تكن آلية مباشرة للحماية، إلا أنها آلية غبر مباشرة، ووسيلة مهمة لمعاقبة المجرمين، وأدلة لإثبات وقوع الجرائم اللازمة لطلب الحماية الدولية بمعناها الواسع.

الفرع الثالث: الطلب من مجلس الأمن في الأمم المتحدة إنشاء محكمة خاصة

  قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، كانت ولا تزال لدى مجلس الأمن الدولي صلاحية إنشاء محاكم خاصة، وذلك بقرار صادر عنه بشأن قضية محددة،  وهذه المحاكم تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، في أن المحاكم الدولية الخاصة هي محاكم محدودة في الزمان، وفي القضية، ولطالما هي كذلك فإنه من البديهي تنتهي بانتهاء القضية التي تشكلت لنظرها، "فالمحاكم الخاصة هي محاكم محدَّدة الاختصاص، وتقام لضمان تحقيق العدالة في حالات بعينها، ومن الأمثلة على المحاكم الخاصة قرار مجلس الأمن الدولي بإنشاء "المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بجرائم الحرب التي وقعت في يوغسلافيا السابقة"، في العام 1993()، وكذا قرار مجلس الأمن الخاص بإنشاء محكمة رواندا، بتاريخ: 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1994، لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أعمال إبادة الأجناس، وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في إقليم رواندا بين 1 كانون الثاني/يناير 1994 و 31 كانون الأول/ ديسمبر 1994، إلى جانب إنشاء محاكم كمبوديا، والمحكمة الدولية لملاحقة قتلة الرئيس رفيق الحريري. وذلك بالاستناد لنص المادة (41) من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تخول مجلس الأمن الدولي سلطة استعمال شتى التدابير لإنفاذ قراراته.

فقد اقترفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 حتى اليوم جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية تمثلت في جرائم القتل خارج إطار القانون وممارسة التعذيب بحق الأسرى والاستيطان والحصار والسيطرة على الموارد وتدمير المتملكات في انتهاك فاضح لاتفاقيات جنيف والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان الامر الذي يستدعي من المجتمع الدولي التحرك لحماية المدنيين كما حدث في البوسنة ورواندا وتيمور الشرقية، فقد فاقت جرائم الاحتلال الإسرائيلي من حيث البشاعة والوحشية ما ارتكبته القوات النازية والفاشية في أوروبا. 

وفي الحالة الفلسطينية يرى الباحث، بأن العقبة الأساسية التي قد تحول دون تحقيق ذلك، تتمثل باستخدام الولايات المتحدة لحق النقض "الفيتو"، وهو ما سيعرقل اتخاذ مثل هكذا قرار، ومع ذلك تبقى هذه الصيغة مهمة سيما وأنها تشكل خطوة مهمة لإحراج الولايات المتحدة، وتفعيل حركة المناصرة الدولية التي يمكن استثمارها والمراكمة عليها فيما يحقق الحلم الفلسطيني، المتمثل في تفعيل مسارات العدالة الدولية بحق مرتكبي الجرائم الإسرائيليين.

الفرع الرابع: إحالة الأمر للجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء محكمة دولية خاصة

 ويقضي ذلك المبدأ، على أنه في أية حالة إذا فشل مجلس الأمن، بسبب غياب الإجماع بين الأعضاء الدائمين، في ممارسة مسؤوليته الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وفي حالة وجود تهديد للسلام، أو عمل من أعمال العدوان، فإن الجمعية العامة سوف تنظر في المسألة على الفور، بهدف تقديم توصيات ملائمة للدول الأعضاء، من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك في حالة خرق السلام أو العمل العدواني، واستخدام القوة المسلحة عند الضرورة، للحفاظ على، أو استعادة السلام والأمن الدوليين، على أنه إذا لم يحدث هذا في وقت انعقاد جلسة الجمعية العامة، يمكن عقد جلسة طارئة وفق آلية الجلسة الخاصة الطارئة().

عقدت الجمعية العامة عشر دورات استثنائية بموجب اختصاصها "متحدون من أجل السلام"، وذلك بعد المرة الأولى الأصلية الخاصة بالحرب الكورية، وهي كما يلي: عام 1956 في استجابة لأزمة قناة السويس. وفي دورات خاصة أخرى بشأن الغزو السوفييتي لهنغاريا عام 1956، الحرب اللبنانية في عام 1958، وللنظر في كفاح شعب الكونغو من أجل الاستقلال 1960، التدخل السوفييتي في أفغانستان 1980، وحرب الاستقلال في ناميبيا 1981 ...الخ.

ورغم النزاع الفقهي بشأن القرار المذكور، إلاّ أنه يعدّ إحدى السوابق التي يمكن اعتمادها والبناء عليها، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الأنشطة، لحشد وتعبئة الكثير من الطاقات، للحصول على قرار يمكن بموجبه مقاضاة مرتكبي الجرائم.

  ولكن هذا الخيار قد لا ينجح بالحصول على أغلبية في الأمم المتحدة، ولكنه مع ذلك يبقي أحد الخيارات الهامة، التي يمكن من خلالها فتح اشتباك سياسي ودبلوماسي وقانوني، من خلال الجمعية العامة لطلب إنهاء الاحتلال، وأخذ صلاحيات مجلس الأمن لضمان إيقاع عقوبات رادعة على دولة الاحتلال، بموجب الباب السابع في ميثاق الامم المتحدة، وهو أمر وفقاً لتقدير الباحث سيؤدي لفتح نقاش واسع، وعميق لإصلاح آليات العدالة الدولية والأمم المتحدة،  إلى جانب العمل على إحياء مقررات سابقة ومتابعتها،  سيما أن هذه الصيغة تبقى في متناول المجتمع الدولي وسيلة قانونية وعملية، سبق استخدامها واللجوء إليها عدة مرات، بقصد محاسبة المتهمين بالجرائم البشعة التي جاء النص عليها في نظام المحكمة الجنائية الدولية، ولكن بشرط أن تتوافر الإرادة السياسية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأن يكون هناك رغبة فعلية لمحاكمة المتهمين الإسرائيليين عن هذه الجرائم.

الفرع الخامس: اللجوء الى محكمة العدل الدولية

 محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة،  وتتولى المحكمة الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي، في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية، التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وبهذا المعنى فإن اختصاص المحكمة ينحصر في إصدار أحكام مدنية، وليست جزائية على المتهمين، فهي "محكمة حقوقية" تقضي بالمسؤولية المدنية والتعويض، وهناك سابقة البوسنة حيث أقامت دعوى لدى محكمة العدل الدولية العام 1993، ضد صربيا بسبب المجازر المرتكبة،  ولعل صدور أحكام بالتعويض المدني سيسهم لاحقاً بملاحقة المرتكبين عبر محكمة جنائية، لاتخاذ عقوبات ضدهم وتجريمهم طبقاً للقانون الدولي الإنساني،  وهنا يمكن استعادة قرار محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري العام 2000، ودعوتها إلى عدم إكماله وهدمه وتعويض السكان الفلسطينيين المتضررين جراء ذلك.

اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في استفادة من سابقة البوسنة التي أقامت دعوى لدى المحكمة عام 1993 ضد صربيا بسبب المجازر المرتكبة حيث صدر بها حكم بالتعويض، فأحكام التعويض المدني سوف تساهم لاحقاً بتجريم دولة الاحتلال واتخاد عقوبات ضدها طبقاً للقانون الدولي الإنساني، وهنا نذكر بأهمية قرار محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري العام 2000، ودعوتها إلى عدم إكماله بل هدمه وتعويض السكان الفلسطينيين المتضررين بسبب ذلك.

وفي هذا الإطار يمكن الاستنتاج بأن ترقية مكانة فلسطين بالأمم المتحدة، وحصولها على عضوية الدولة المراقب، قد ساهم في تقوية خيارات الملاحقة للاحتلال وفق الآليات الخمسة سابقة الذكر، الأمر الذي يعني تعظيم قدرة الفلسطينيين، على اللجوء لهيئات الأمم المتحدة كي تعمل على  ضمان امتثال دولة الاحتلال، لقواعد القانون الدولي الانساني والقانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان، بما في ذلك العمل على تأمين حماية دولية للشعب الفلسطيني، في إطار تمكينه من ممارسة حقه العادل والمشروع في تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وتأمين حق عودة اللاجئين طبقاً للقرار 194، وصولاً لتقديم مرتكبي الانتهاكات الجسيمة إلى القضاء الدولي، عملاً بمبادئ العدالة الناجزة.

المطلب الثاني: نحو استراتيجية وطنية لمحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي

منذ أن بدأ العدوان الصهيوني على فلسطين، وما تبعه من وعد بلفور الذي أسس وسهل ترسيخ جذور الحركة الصهيونية في فلسطين، والشعب الفلسطيني يتعرض لاقتلاع من أرضه وتشريد شعبه، عبر سلسلة متواصلة من الجرائم، والتي بدأت في الأعوام 1929 و1936، و1948، وتواصلت في الأعوام، 1956 و1967 و1982 و2000 ،2008، و2012، و2014 وعدوان 2021 ، الاعتداءات في القدس وفي الضفة الغربية وقطاع غزة ، والتي لم تنته حتى هذه اللحظة. ورغم قيام دولة الاحتلال على مدار تاريخها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قتل وتشريد وتدمير للمنشآت المدنية وإعدامات خارج القانون ومصادرة الأراضي وتمدد غول الاستيطان، الا أن قادتها وجنودها دوماً كانوا ولا زالوا يفلتون من العقاب.

إن استمرار عجز المجتمع الدولي عن محاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمهم، ضد الشعب الفلسطيني والعجز عن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي، هو تضحية بحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني، ويهدد الأمن والسلم في المنطقة، وعلى الرغم من التحديات أمام ملاحقة ومحاسبة قادة الاحتلال، إلا أننا نعتقد أن الشروع الجاد في تفعيل مسارات مساءلة الاحتلال سيساهم في إنصاف الضحايا ووقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قبل الاحتلال، ومنع إفلات مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية من العقاب. 

ومما لا شك فيه أن موازين القوى المحلية والدولية، سهلت إفلات قادة الاحتلال من الملاحقة والمحاسبة، وبالإضافة لذلك أعاق المركز القانوني للشعب الفلسطيني استخدامه للآليات الدولية لحقوق الإنسان، خاصة تلك التي تشترط اكتساب صفة الدولة.

وبعد فشل ما يسمى " مفاوضات السلام " ووصولها لطريق مسدود، شرعت السلطة الوطنية وبعد ضغط شعبي واسع للتوجه للمجتمع الدولي ومؤسساته لتغيير المركز القانوني للشعب الفلسطيني من جانب، ولملاحقة ومحاسبة قادة الاحتلال على جرائمهم من جانب آخر.

وقد شهد المركز القانوني للشعب الفلسطيني تطورا هاما، عندما أعلنت الأمم المتحدة بتاريخ 29/11/2012م اعترافها بدولة فلسطين المحتلة باعتبارها دولة تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة، بأغلبية 138 صوتاً مقابل معارضة 9 أصوات وامتناع 41 صوتاً.

وتكمن أهمية هذا الاعتراف من منظور ملاحقة ومحاسبة قادة الاحتلال، بأنه فتح الباب أمام السلطة الوطنية للانضمام لكل الآليات الدولية لحقوق الإنسان، بوصفها عضو مراقب. 

وبناء على ما سبق، انضمت دولة فلسطين بوصفها عضو مراقب إلى 63 اتفاقية دولية، و25 منظمة دولية وإقليمية بطريقة اندفاعية وغير مدروسة جيدا، ومن أهم هذه الاتفاقيات والأجسام لأغراض ورقة العمل الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية.

ومن الملاحظ أن الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2015، جاء بعد قرابة 3 سنوات من الاعتراف بفلسطين كعضو مراقب،  الأمر الذي يدلل على أن حركة الانضمام للاتفاقيات والآليات الدولية، جاء محكوماً بردات فعل على مجريات الصراع، وليس كاستراتيجية بديلة تستند على اللجوء للآليات والمؤسسات الدولية للانعتاق من الاحتلال ومحاكمة قادته على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بل تركت السلطة خيار المفاوضات موارباً،  ولقد كان لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني وخاصة الحقوقية دوراً هاماً في الضغط على السلطة للانضمام للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ولقد كانت هناك العديد من القرارات التي مكن الاستناد عليها لمقاضاة الإسرائيليين، ولكنه لم يتخذ أي قرار ضد إسرائيل، حيث استند إلى الفصل السابع من الميثاق، وبذلك تخلصت إسرائيل من تلك القرارات، ويستثنى من ذلك القرار رقم (62) الذي فرض بناءً عليه الهدنة بين العرب وإسرائيل ما بين عامي 4819-1949.66 .

  تسرعت القيادة الفلسطينية المتنفذة بعد اكتساب صفة مراقب في الامم المتحدة في الانضمام للعديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، ولم تراع على الاطلاق الفائدة المرجوة منها، وخصوصية وقدرة السلطة على الوفاء بالالتزامات المترتبة عليها، فالانضمام لها يتطلب تعديل التشريعات الفلسطينية ووجود جهاز قضائي وفعال، وهذا غير متاح بسبب الانقسام، وكذلك لم يأخذ بعين الاعتبار الحاجات المالية والبشرية المطلوبة للوفاء بتقديم التقارير وغيرها من أشكال المتابعة الدولية. مما جعل السلطة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، بل مخالفة أحكام هذه الاتفاقيات.

وتم استخدام خيار الانضمام للاتفاقيات الدولية والآليات الدولية لملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب بدون خطة استراتيجية متكاملة،  والاستراتيجية الفلسطينية بعد الانضمام للاتفاقيات الدولية،  لم تستهدف التخلص من تبعات اتفاقية أوسلو واتفاقية باريس الاقتصادية، فقد بقي المجتمع الفلسطيني حبيس هذه الاتفاقيات وتأثيراتها السلبية، ونعتقد أن السبب الرئيس خلف ذلك يتمثل في أن القيادة الفلسطينية نظرت للانضمام للمنظمات الدولية كوسيلة لتحسين شروط المفاوضات، وليس بديلا لها، ويعني ذلك إمكانية التضحية بكل الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة مقابل عودة مسار المفاوضات بشروط محسنة.

واتسم ولا زال خطاب وممارسات السلطة بالازدواجية والتناقض ما بين التمسك بمخلفات أوسلو وخيار المفاوضات مع قادة الاحتلال والتنسيق معهم، وترك باب العودة للمفاوضات مفتوحاً، وفي مقابل ذلك التوجه لاستخدام الآليات الدولية لمحاكمة هؤلاء القادة، وثمة تعارض واضح ما بين استراتيجية الاتفاقيات والمفاوضات والاعتراف بشرعية الاحتلال، وما بين استراتيجية ملاحقة ومحاسبة قادتها، ولا يمكن التوفيق بينهما.

كما لم تثمر تجربة السلطة الوطنية في مجال الانضمام للاتفاقيات الدولية واستخدام الآليات الدولية عن أية نتائج تشكل رادعا لسلوك الاحتلال الاجرامي، ولم يحقق الشعب الفلسطيني حتى تاريخه أية ثمار ملموسة منها، بما في ذلك تهيئة القضاء الوطني لمحاسبة الاحتلال. 

ويذكر أنه