تتوالى الانتقادات الإسرائيلية لعدوان “حارس الأسوار” والتشكيك بالرواية الرسمية خاصة نتائجها. ويؤكد باحث بارز أن إسرائيل حققت انتصارا تكتيكيا، لكنها منيت بخسارة إستراتيجية.
ويقول الباحث في مركز السادات- بيغن للأبحاث الاستراتيجية، دورون ميتسا، إنه بعد عشرة أيام من القتال، انتهت الحرب الرابعة بين حماس إسرائيل منذ سيطرة الحركة الإسلامية على القطاع في سنة 2007. وكسابقاتها انتهت الحرب من دون حسم واضح، مشيرا إلى وجود انطباع بأن الاشتباك الحالي كان مختلفاً اختلافاً مطلقاً عن جولات القتال السابقة من حيث اختلاف اللغة والتفكير بين حماس وإسرائيل، والذي كشف فجوة فكرية ومفهومية.
وعن ذلك أضاف في مقال موسع: “بينما اتسم التفكير الإسرائيلي طوال القتال بمنطق تكتيكي- كمي، كان تفكير حماس إستراتيجياً- نوعياً. برز هذا جيداً في النقاش الداخلي الإسرائيلي الذي تركز على الإنجازات الكمية للقتال، مثل عدد الأهداف التي هوجمت وعدد عناصر حماس الذين قُتلوا، وكميات الصواريخ التي أُطلقت، والتي جرى اعتراضها، وعدد الأبراج التي دمرها سلاح الجو وغيرها. من وجهة النظر هذه، إن هذا الأسلوب القتالي، أي معركة غير مباشرة من الجو، رسّخ أكثر المقاربة الإسرائيلية التي وضعت آمالها على محاولة تحقيق أكبر عدد ممكن من الإنجازات من خلال ضرب أهداف”.
نجاح تكتيكي عملياتي
يقول الباحث ميتسا، إنه من هذه الزاوية، قام الجيش الإسرائيلي بعمل جيد، إذ أدار المعركة جيداً من خلال التنسيق بينه وبين الشاباك، بينما المستوى السياسي المختلف سياسياً مع بعضه البعض، فقد نجح في المحافظة على الانسجام، وعلى تعاون يستحق الثناء. كما يرى أنه من دون شك، تلقت حماس ضربة عسكرية واسعة، لكن هنا تكمن المشكلة برأيه: المنطق التكتيكي- الكمي منع إسرائيل من تحقيق نتيجة عسكرية واضحة لا جدال فيها، بينما استخدمت حماس منطقاً مغايراً للغاية، وركزت بصورة منهجية على أهداف استراتيجية.
ويرى أنه من وجهة النظر هذه، نجحت حماس نجاحاً لم يكن متوقعاً، فهي لم تبادر فقط إلى المعركة من خلال إطلاق الصواريخ على القدس في يوم عيد الفطر، وبذلك فاجأت إسرائيل (كما اعترف جزء من كبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية)، بل نجحت حتى في خلق موجة تداعيات لهذه الحرب خارج حدود القطاع. معتبرا أن “الخلافات التي ظهرت في العلاقات اليهودية- العربية في إسرائيل، والاضطرابات في المدن المختلطة، إلى جانب تسخين جبهة الضفة الغربية، كانت من النتائج التي رافقت الحرب في قطاع غزة، وفعلاً نجحت حماس في توحيد المنظومة الفلسطينية كلها (في غزة، وفي الضفة وداخل إسرائيل)، وفككت بعد سنوات من نجاح غير قليل المنطق الأساسي في السياسة الإسرائيلية التي تعتمد على دق إسفين بين أجزاء المنظومة الفلسطينية بهدف إضعافها.
علاوة على ذلك، يشير ميتسا، إلى أن “حماس” خاضت المعركة انطلاقاً من منظور إقليمي ودولي، وأن وضع القدس كهدف رمزي للمعركة بخلاف جولات القتال السابقة، حيث كانت مشكلة “الحصار” هي أساس القتال وهدفه، سمح لها بتنصيب نفسها رئيسة لمعسكر “المقاومة” الإقليمي الشامل على حساب حزب الله، الذي اضطر في الأسبوع الماضي إلى السكوت عن إطلاق أطراف فلسطينية “مارقة” الصواريخ من لبنان في اتجاه إسرائيل، عملية يمكن أن تتطور كنموذج عمل دائم في مواجهتها.
المعركة الكبيرة
يضيف الكاتب: “حددت حماس في المعركة الأخيرة جدول الأعمال في الشرق الأوسط، ولم تعد المعركة في غزة مجرد جولة قتال محلية بينها وبين إسرائيل، بل أصبحت تعبيراً أو حجر أساس في المعركة الكبيرة التي تجري في الشرق الأوسط بين مدرستين فكريتين تمثلان معسكرين إقليميين: الإستراتيجيا الاقتصادية- البراغماتية “أصحاب الأدمغة”، حيث تقف إسرائيل إلى جانب الدول الثرية التي تكره المجازفة في المنطقة. هذه المدرسة وضعت في مركزها سياسة تتركز على الدفع قدماً بجدول أعمال اقتصادي، وكانت وراء اتفاقات أبراهام، وكذلك وراء ظاهرة النائب منصور عباس، وهي فعلياً التي حددت صفقة القرن لإدارة ترامب”.
ويشير في المقابل لوجود مدرسة “أصحاب القلوب” في “معسكر المقاومة” التي تركز على السياسات القديمة التي تعتمد على الدفع قدماً برؤى مثالية وطوباوية وتعطي الأولوية للمستقبل على الحياة في الوقت الحاضر. ويقول إنه في العقد الماضي، تمكنت المدرسة البراغماتية من تحقيق تفوّق واضح في المنطقة تحت رعاية الإدارة الأمريكية، ويبدو أن المعركة في غزة كانت بمثابة تحدّ لها وذلك لثلاثة عوامل: تغير الإدارة في الولايات المتحدة، وتخلّي الرئيس بايدن وإدارته التقدمية عن سياسة سلفه ترامب؛ وضعف المنظومة السياسية في إسرائيل، وفي الأساس ضعف نتنياهو الذي يُعتبر محوراً إستراتيجياً مركزياً ورادعاً؛ وتقدير أطراف المقاومة ضعف الغرب (بما فيه إسرائيل) على خلفية الصعوبات الداخلية خلال أزمة الكورونا.
ويتابع: “بينما كان العقد الأخير يمتاز باستقرار أمني نسبي في المنطقة، وبضعف أطراف المقاومة وتراجُع كبير للمسألة الفلسطينية، جاءت المعركة في القطاع لتقلب هذا الواقع، وجرّت وراءها كل أنصار سياسات الهوية، سواء في القطاع أو بين العرب في إسرائيل وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية. لقد حوّلت المعركة في غزة الصدام التكتيكي بين الطرفين إلى صدام إستراتيجي بين مدرستين وتوجّهين ونظريتين ومعسكرين مختلفين”.
تفويت فرصة استثنائية
يرى ميتسا أنه من هذه الناحية، كان لدى إسرائيل فرصة استثنائية لتحويل غزة وحماس إلى درس إقليمي ودولي، واستعادة التوازن السابق، وإعادة ترسيخ أجندة براغماتية اقتصادية. وبرأيه فإن المطلوب لهذا الغرض أن تغير إسرائيل إستراتيجيتها إزاء غزة، وأن تحدد أهدافاً عملياتية متعددة، تؤدي إلى معركة تنتهي بتحطيم كامل لقواعد القوة العسكرية لحماس. وهذا برأيه يعني التخلي عن الاستخدام المعروف للمعركة الجوية لمصلحة معركة تجمع بين الجو والمناورة البرية، مرجّحا أن الفجوة بين اللغة وتوجه إسرائيل التكتيكي- الكمي وبين التوجه الاستراتيجي- النوعي لحماس، كشف عن الصعوبة الإسرائيلية في فهم طبيعة المعركة الحالية ودلالاتها الخاصة، مقارنة بسابقاتها والتعرف على الإطار الواسع الذي تجري ضمنه.
واعتبر أن إسرائيل قد واصلت العمل وفق المنطق العملياتي العسكري نفسه الذي استخدمته في الجولات السابقة، واعتبرت القتال مجرد جولة تخوضها ضد حماس. ويضيف: “في هذه الظروف انتهت المعركة بإنجاز تكتيكي مدهش، لكن في تحليل إستراتيجي أوسع، يذكّرنا هذا بالإنجاز الكمي الأمريكي في مقابل الخسارة الإستراتيجية في حرب فيتنام (1959-1975) ولذلك تداعيات واضحة على السياسة الشرق أوسطية على مختلف المستويات تقريباً”.
ويقول ميتسا إن كفة “أهل القلوب” هي الراجحة حاليا، مشيرا إلى أن حماس نصّبت نفسها لاعباً إستراتيجياً مهماً يتخطى الساحة الفلسطينية، ونجحت في تقويض النموذج الاقتصادي البراغماتي لـ”صفقة القرن”، ودقت إسفيناً بين اليهود والعرب في إسرائيل، وأعطت الأطراف المسلحة في المنطقة أسباباً وجيهة لمواصلة تحدّيهم لإسرائيل. ويخلص الباحث الإسرائيلي البارز للقول إن هذه ليست أخباراً جديدة “لأصحاب الأدمغة” وللذين يحبّون الحياة. لافتا أن أي تصحيح للمسار الناشئ يتطلب قبل كل شيء استيعاباً معرفياً للدلالات الحقيقية للحرب الأخيرة، ونتائجها الفعلية، في أسرع وقت ممكن.