مقدمة:
الرئيس محمود عباس الذي يستعيد قوته وألقه بعد سقوط ترامب وسقوط صفقة القرن وتضييق الخناق على بنيامين نتنياهو، يترافق ذلك مع تغير الساكن في البيت الابيض، ومع خطوة متقدمة من اجل المصالحة الوطنية الفلسطينية، وكذلك مع عودة المنطقة العربية الى المقاطعة في رام الله باعتبارها بوابة للرياح الجديدة. ورغم كل هذه النجاحات الا ان الضجيج القادم من اسرائيل سيؤثر بالتأكيد على عملية التسوية. الرئيس عباس وشعبه أسقطا ترامب واطماع اليمين الاسرائيلي، ولكن اسرائيل لم تحسم بعد امرها في كثير من القضايا الحساسة والمصيرية وعلى رأسها العلاقة مع الشعب الفلسطيني.. في هذا التقدير للموقف نحاول رصد الحالة في اسرائيل وانعكاساتها على سيرورة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
المشهد الفلسطيني:
من حق الرئيس محمود عباس ان يشعر بالراحة والاستقرار وذلك للأسباب التالية:
ضمن موقفاً عربياً داعماً لرؤيته حول المؤتمر الدولي للسلام.
تم تخفيف الضغوط الدبلوماسية والمالية على الشعب الفلسطيني والرئيس محمود عباس من أطراف اقليمية ودولية كانت تنتظر منه الاختفاء والانكسار او الاستسلام لو ان ترامب اعيد انتخابه.
تم القفز عن فكرة التطبيع التي تعزز الرؤية الاسرائيلية، حيث ان اطرافاً عربية فصلت بين التطبيع من جهة وعملية التسوية من جهة اخرى. أي ابقت عوامل الصراع قائمة وعوامل الحل العادل قائمة ايضاً. (وهو امر يمكن لنا ان نستثمر فيه دائماً مع هذه الدول).
الادارة الامريكية الجديدة في طريقها الى التعامل مع قرارات ترامب بما يخص القضية الفلسطينية بنوع من التعاطي الايجابي او على الاقل عدم البناء على ارث ترامب الى حدٍ معين.
انكسر الحصار الذي فُرضَ على القيادة والشعب الفلسطيني.
خطوة الرئيس باتجاه اجراء انتخابات وطنية كان لها أكبر الاثر في تخفيف التوتر الداخلي وتحريك المياه الراكدة في اجراء نرجو له ان يقود الى مصالحة وطنية شاملة او مقبولة على الكل الفلسطيني.
جدد الرئيس عباس الثقة بالنظام السياسي الفلسطيني وفتح الباب واسعاً امام استئناف العلاقات مع الاقليم والعالم.
يمكن القول بعد هذا الاستعراض المتوقع في الاشهر القادمة (لا تزيد عن خمسة شهور) ان يتم ما يلي – إذا لم يفجر أحد الاطراف الوضع-:
انتخابات فلسطينية ستفضي الى تشكيل حكومة وحدة وطنية تراعي فيها الوضع الدولي والاقليمي العام، تحظى بقبول العالم ودعمه، وفي ذلك تعزيز للموقف الفلسطيني النضالي والسياسي.
دعم عالمي سياسي ومالي سيشجع الفلسطينيين على الذهاب الى انتخابات رئاسية ومجلس وطني، وما في ذلك من تعزيز لصورة الشعب الناضج والدولة الفلسطينية برسم التحقق.
استعادة الوحدة الوطنية واغلاق فصل اسود من فصول التاريخ الفلسطيني برؤية وقيادة الرئيس محمود عباس.
بهذه الخطوة يتم استعادة مفهوم الشعب الواحد والارض الواحدة والمصير الواحد ايضاً.
(لهذا، فإن اصرارا الرئيس محمود عباس والفصائل الاخرى على اجراء انتخابات يعني ان الجميع مقتنع بالمرور من هذه البوابة الهامة التي تفضي الى تموضع اخر للدولة والشعب والجغرافيا).
السؤال هو: بما ان اسرائيل ستجري انتخابات عامة للمرة الرابعة في اقل من سنتين، فما هي انعكاسات هذا الامر على ما يجري عندنا في الاراضي الفلسطينية؟
المشهد الاسرائيلي:
يمكن تلخيص الوضع في اسرائيل حالياً كما يلي:
ما يزال حزب الليكود يتصدر استطلاعات الرأي ويحظى بتقدم يزيد وينقص حسب الاحوال، ولكن ما يزال الحزب مسيطراً ويعبر عن قطاعات كبيرة من الجمهور الاسرائيلي، وهو يعتمد على سكان المدن، اصحاب المصانع، اليمين الحريدي، اليمين الاستيطاني، قطاعات من الشرقيين.
ما يزال نتنياهو يتصدر استطلاعات الرأي حتى الان رغم تضاؤل الفرق بينه وبين ساعر الليكودي المنشق والذي اسس حزب" امل جديد" وهو يحظى بتأييد من اعضاء الليكود الذين يشعرون ان نتنياهو يريد اغراق اسرائيل وجر الليكود معه الى الهاوية لحماية نفسه من المحاكمة.
هناك ازدحام كبير في القيادات في المعسكر اليميني الحريدي واليميني" الليبرالي"، ومن الواضح انهم حتى الان لم يصلوا الى اتفاقات ذات مغزى إذ ان نتنياهو شكل كتلة يمينية تعتمد على احزاب حريدية صغيرة مثل المستوطن غبير والمستوطن سموترش وهؤلاء قد لا يحصلون على مقاعد كافية خصوصاً على خلفية مجيء بايدن الذي له رؤية تختلف عن رؤية ترامب.
ومن جهة اخرى، فإن اليمين العلماني (ليبرمان، ساعر) لم يشكلا كتلة موحدة حتى الان.
ازدحام اليمين الليبرالي والحريدي بهذا الشكل يعني خلافات ليست شخصية فقط وانما تعكس خلافات اثنية وسياسية وطائفية ايضاً.
رغم ان نتنياهو ملاحق بالمحاكمة والفساد وخيانة الامانة الا ان الجمهور يختاره دائماً حتى الان، مما يدل على ان سياسة نتنياهو كانت تحقق نتائج على صعيد السياسة الخارجية والامن والاقتصاد والشخصية الكاريزماتية التي لم يستطع أي شخص اخر ان يحل محلها حتى الان.
يمكن القول ان معسكر اليمين بشقيه الليبرالي العلماني والحريدي المتشدد يشهد انشقاقات واختلافات عميقة تجعله غير قادر على تشكيل حكومة منسجمة. وهذا الامر يقال ايضاً عن معسكر الوسط وما يمكن تسميته اليسار الاسرائيلي. حيث شهدنا في هذا المعسكر ما يلي:
انسحابات من المشهد السياسي مثل يعالون (صاحب الخلفية العسكرية) وخولدائي صاحب الخبرة الادارية ورجل طبقة الاغنياء.
تآكل في الرصيد الجماهيري او تذبذب في ذلك على الاقل مثل حزب ازرق ابيض وحزب العمل (رغم زعيمته اللامعة).
عدم تشكيل كتلة او ائتلاف كبير يضم هذه الاحزاب فيما بينها، وتعود الاسباب في ذلك لأهداف انتخابية مصلحية، حيث كل حزب يريد ان يتميز بأطروحته وبرامجه السياسية والامنية. أي ان هناك فروق سياسية وشخصية بين زعماء تلك الاحزاب.
يسجل زعيم حزب هناك مستقبل استقراراً في رصيده الجماهيري حتى الان، ويبدو ان ذلك متعلق بزعيم الحزب لبيد أكثر من برامجه السياسية او الامنية، فهو لا يختلف من حيث الكم او النوع عن برامج اليمين مثلاً وهو بعيداً الى حدٍ واضح عن احزاب ما يسمى باليسار. شخصية زعيم الحزب شخصية جذابة من حيث المظهر والكاريزماتية وعدم تورطه في الفضائح.
الانشقاقات التي جرت في حزب العمل وازرق ابيض وخولدائي وضعف الرصيد الجماهيري الى حدٍ كبير يعني ان تيار الوسط واليسار لم يعد قادراً على ان يشكل بديلاً عن اليمين الاسرائيلي، ولكن هذا قد يتغير في الحالات التالية:
التدخل الامريكي الرسمي والشعبي، اقصد يهود امريكا في جماعات الضغط التي ترفض سياسات اسرائيل الاستيطانية.
دخول اسرائيل في تصعيد او حرب.
اشتداد وباء الكورونا.
تسريع محاكمة نتنياهو او ظهور تطورات جديدة.
ضغط من بعض الدول العربية التي تقيم علاقات مع اسرائيل، وعدم اهداء نتنياهو هدايا مجانية.
ان ما يحصل من خلاف بين الاحزاب اليهودية يحصل ايضاً في القائمة المشتركة، حيث شهدت هذه القائمة انشقاقات على خلفية القضايا القومية الكبرى مقابل قضايا المواطن اليومية، ومن الواضح ان انشقاق بعض مكونات هذه القائمة كان ايضاً بتشجيع من السلطة الحاكمة. نقول في هذا الصدد ان ما يجري في القائمة المشتركة هو جزء مما يجري في المشهد السياسي الاسرائيلي سواء بسواء.
هذا الاستعراض يعني ما يلي:
ان اسرائيل ما تزال في ذروة الجدل الداخلي على مسائل كثيرة منها: شخصية الزعيم، شخصية الدولة، شخصية المجتمع، سيادة القانون، ادارة الاحتلال النظيف او غير المكلف، العلاقة مع العالم وخصوصاً العالم الغربي الرأسمالي.
اسرائيل التي تدخل انتخابات للمرة الرابعة في اقل من سنتين تقول للعالم كله انها لم تستطيع حتى اللحظة ان تضع حلولاً مناسبة للمشروع الصهيوني الذي لا يمكن له ان يدير عملية ديموقراطية وعملية احتلال عنصرية في ذات الوقت. وتقول ايضاً ان الطائفية في اسرائيل لم تذوب ابداً في النظام الديموقراطي الذي تدعيه.
هذا الجدل الكبير سيؤدي الى عدم فوز حزب معين قادر على تشكيل حكومة مستقرة، الامر الذي سيفضي الى تشكيل حكومة قلقة وغير قادرة على الاستمرار وهو ما سينعكس على التسوية السياسية. ذلك ان حكومة ضعيفة اسرائيلية لن تكون قادرة على اجراء اية تسوية سياسية، بل ستكون أقرب الى العنف والعدوان للحفاظ على استمرارها.
الاستنتاجات:
السلطة الوطنية الفلسطينية تستعيد القدرة على المبادرة والمناورة ايضاً من خلال:
اجراء الخطوات المتتابعة لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني وتجديده واستعادة الثقة به من خلال الانتخابات.
العمل من اجل المصالحة الوطنية الشاملة في ظروف أكثر راحة وملائمة خصوصاً بعد الانتخابات.
التقدم للعالم برؤية تسوية سياسية تقوم على مؤتمر دولي بالشكل المناسب والمتاح.
الضغوطات الدبلوماسية المالية تجد حلولاً الامر الذي يجعل من تنفيذ ما سبق سهلاً او ممكناً.
اسرائيل تعيش ذروة من ذروات ازماتها الوجودية على مستوى المشروع والانسان وادارة موارد الدولة ومضامينها السياسية والاجتماعية ولهذا فإن من المحتمل ان تشهد اسرائيل ما يلي:
ميلاد حكومة ضعيفة او غير مستقرة نتيجة الانشقاقات الكثيرة في احزابها.
هذه الحكومة لن تكون قادرة على البدء بعملية تسوية بل ستكون أقرب للعدوان على غزة او لبنان او حتى إيران (في اماكن تواجدها العسكري على الاقل).
من الممكن ان تقوم حكومة مثل هذه على تخريب العملية الديموقراطية في الاراضي الفلسطينية حتى لا تضطر ان تدخل في تسوية او ان تروج ان الفلسطينيين لا يستحقون دولة ولا يقدرون على الوحدة.
لكل ما سبق، فإن السلطة الفلسطينية يجب ان لا تنتظر من اسرائيل خلال هذه السنة اية انجازات على مستوى التسوية السياسية، فالحكومات الضعيفة لا تصنع سلاماً خصوصاً في حال اسرائيل المنقسمة على نفسها.
على السلطة الوطنية الفلسطينية ان تركز جهدها الدبلوماسي مع الولايات المتحدة من جه، وعلى ترتيب البيت الفلسطيني من جهة اخرى.
رئيس المركز
د. محمد المصري