كتب السياسي المصري د. عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم، ورئيس مجلس إدارة ومدير المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، مقالا في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية ، تناول فيها السيناريوهات الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
وجاء في مقال الدكنور سعيد الذي حمل عنوان "سيناريوهات فلسطينية" ما يلي"
بعد سنوات بدت فيها القضية الفلسطينية وقد تراجعت كثيراً في أولويات الشرق الأوسط، يبدو أنها الآن تأخذ طريقها إلى الظهور مرة أخرى. أسباب ذلك المنظورة على الأقل هي عودة الاهتمام الأميركي مرة أخرى مع تولي إدارة جو بايدن للإدارة في البيت الأبيض، وتزايد الاتصالات العربية حول القضية، خصوصاً بين مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، وخطاب الأمين العام لجامعة الدول العربية في مجلس الأمن حول الموقف العربي الثابت من القضية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمبادرة العربية للسلام، وتحركات أربع دول عربية نحو السلام والتطبيع مع إسرائيل خلال العام الماضي.
ولعل مرور عشر سنوات على ما سمي "الربيع العربي" قد خلق أوضاعاً إقليمية استراتيجية لا يمكن تجاهلها، وتستدعي من ناحية تنظيم العلاقات العربية الإسرائيلية من ناحية، والتوصل إلى حل من ناحية أخرى لقضية استعصت على الحل طوال العقدين الماضيين. توافر هذه الأسباب لا يعني بالضرورة أن المنطقة بطريقها إلى حل القضية، وإنما يعني أن زخماً جديداً بات متوفراً الآن بحيث باتت جميع الأطراف تتلمس سبيلاً أو آخر للتعامل معها.
وهنا توجد ملاحظتان: الأولى أنه ليس معلوماً مضمون ما جرى من اتصالات خلال المرحلة الحالية من الاهتمام، وأن الأطراف المعنية لم تقم بأكثر من إعلان مواقفها العامة التي لا تزال متباعدة بقدر تباعدها منذ عام 2000، والثانية أن الجبهة الداخلية لدى الطرفين المباشرين -إسرائيل والفلسطينيين -ليست جاهزة للمبادرات الدبلوماسية من حيث انقسام جبهاتهم الداخلية، واقتراب كلاهما من جولة انتخابية جديدة بحكم آلياتها تدفع إلى الكثير من التطرف والمزايدة السياسية.
مثل ذلك ليس جديداً على عمليات البحث عن السلام بين الطرفين على أي حال، وفي مناسبات سابقة، فإنها لم تمنع من حدوث درجات مختلفة من التقدم. ولعل ذلك يمثل السيناريو الأول للقضية الفلسطينية، حيث تستمر الأوضاع على ما هي عليه مع تحسن بطيء في العلاقات كما نتج عن مبادرة السلام الإماراتية البحرينية التي علقت الضم الإسرائيلي للمستوطنات، والتفاهمات ما بين إسرائيل و«حماس».
السيناريو الثاني يعتمد أيضاً على استمرار الأمر الواقع، ولكن عبر فترة زمنية أطول، حيث تتخلق دولة واحدة من الناحية العملية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. فإذا ما أخذ في الاعتبار العلاقات الأمنية التي جرى استئنافها مؤخراً بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، وعلاقات الاعتماد المتبادل الكثيف بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مجالات العملة والعمل والاقتصاد بصفة عامة، واعتماد قطاع غزة على إسرائيل في مجالات الكهرباء وصيد السمك في البحر المتوسط، ومستقبلاً في مجال الغاز وتصديره؛ وكل ذلك مع توازن سكاني ملموس، فإن دولة واحدة بغض النظر عن علاقات المساواة داخلها سوف تكون قد ولدت عملياً. هذا السيناريو للقضية الفلسطينية يحولها من صراع حول الأرض إلى نضال من أجل المساواة.
وليس مستبعداً في هذه الحالة أن يتولد سيناريو ثالث يقوم على "كونفدرالية" إسرائيلية فلسطينية تنظم العلاقات بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي مع استقلال كلاهما في قراره السياسي الداخلي؛ وفي هذه الحالة فإن «القدس» تصير عملياً عاصمة للطرفين باعتبارها عاصمة الاتحاد الكونفدرالي.
السيناريو الرابع أميركي، فبعد ستة أيام فقط من توليها السلطة، اتخذت إدارة بايدن منعطفاً حاداً في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، معلنة أنها ستستأنف الاتصال بالقادة الفلسطينيين، وستعيد المساهمات الأميركية لوكالة الأمم المتحدة التي تقدم المساعدة للفلسطينيين. تم الإعلان عن التغييرات في خطاب افتراضي أمام مجلس الأمن الدولي من قبل ريتشارد ميلز، القائم بأعمال سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
وقال ميلز أيضاً إن الإدارة الجديدة ملتزمة بحل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع إسرائيل آمنة إلى جانب "دولة فلسطينية قابلة للحياة". وقال ميلز إنها "أفضل طريقة لضمان مستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية".
أشارت هذه التصريحات إلى رفض سياسة الرئيس آنذاك دونالد ترامب على مدى السنوات الأربع الماضية، التي كانت تفضل بشكل كبير مصالح حكومة إسرائيل اليمينية.
هذا السيناريو يعود بنا إلى بعض من خطوط السياسة الأميركية قبل ترامب؛ ولكنها في الوقت نفسه تقبل باستمرار القدس عاصمة لإسرائيل، والحكم الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية. في هذا السيناريو، فإن الولايات المتحدة، وإن كانت على استعداد لبذل جهد دبلوماسي وسياسي، فإنها سوف تفعل ذلك ضمن الإطار العام لعدم التورط في منطقة الشرق الأوسط الذي تراجع ترتيبه ضمن الأولويات الأميركية الراهنة.
السيناريو الخامس عربي المنطلق، ويقوم على تنسيق للمواقف العربية، بحيث تحتشد وراء تصور عملي لتطبيق المبادرة العربية للسلام، في الإطار الذي يقوم على وجود ست دول عربية في حالة سلام مع إسرائيل، وإن تفاوتت درجات البرودة والدفء في العلاقات. هذا السيناريو من الممكن له الاستفادة من السيناريو الأميركي للتخفيف من الضغط الإسرائيلي على الفلسطينيين، والنفاذ إلى الداخل الإسرائيلي لعقد الصفقة التاريخية للانسحاب مقابل السلام والتطبيع مع جميع الدول العربية. كما يمكنه أيضاً الاستفادة من المبادرات العربية التي اتخذتها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب؛ وكذلك مصر والأردن، للتعامل مع القوى السياسية المختلفة داخل إسرائيل، بحيث تدعم ما تبقى من قوى السلام الإسرائيلية.
السيناريوهات الخمس ليست متطابقة، ومتعارضة عملياً في منطلقاتها القانونية والفلسفية، وهناك فارق كبير ما بين قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية؛ وأن تقوم دولة فلسطينية «قابلة للحياة». والفارق أكبر عند الانطلاق من "قرارات الشرعية الدولية"، وعملياً استئناف عملية السلام من حيث توقفت؛ والبناء على ما عقد في "صفقة القرن" للإدارة الأميركية السابقة. كل ذلك يجعل من السيناريوهات المختلفة تدريبات نظرية لتصورات خيالية في واقع اختلطت أوراقه، وتزاحمت قواه، دون قدرة على تغيير الأمر الواقع الذي يدفع ثمنه الفلسطينيون.
الأمر من الناحية العربية يحتاج مبادرات قادرة على خلق وقائع على الأرض الفلسطينية تجعل التحركات السياسية مؤثرة في أي من السيناريوهات المذكورة. تثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه يخلق أمراً ديمغرافياً واقعياً، ولا يجعل إسرائيل وحدها قادرة على خلق الحقائق الاستيطانية. المصالحة الفلسطينية الصعبة تتطلب ليس فقط رأب الصدع الفلسطيني، وإنما خلق الدولة الفلسطينية على الأرض باحتكارها الكامل لشرعية السلاح الفلسطيني.
قبل فترة قصيرة عقدت قوات "عز الدين القسام" التابعة لـ"حماس" مناورة عسكرية مع 11 تنظيماً عسكرياً آخر في قطاع غزة. مثل هذا الذيوع للتنظيمات العسكرية، فضلاً عن أنها تخلق انقساماً حاداً يقوم على حد السلاح وقرارات استعماله، فإنها في الواقع تحرم السلطة الوطنية الفلسطينية التي تتفاوض مع إسرائيل من أول شروط شرعيتها السياسية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
تصحيح هذا الوضع قبيل الانتخابات الفلسطينية، أو حتى الالتزام بتحقيقه بعدها، ربما يعطي الفلسطينيين الكثير على مائدة المفاوضات، وفق أي من السيناريوهات؛ وفي غيابه فإن استمرار الأوضاع الحالية بكل ما فيها من ذيوع الألم، وخفوت الاهتمام، سوف يعني عودة الظلام إلى سيناريوهات حل القضية الفلسطينية.