هكذا تكلم زكريا ،،، محمد سالم

السبت 30 يناير 2021 09:24 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هكذا تكلم زكريا ،،، محمد سالم



ليس العنوان.. لكتاب الفيلسوف الألماني الأشهر فريدريك نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" الذي صدم به  تياراتِ الفلسفات المتناقضة في أوروبا ، وكان علامة من علامات الفلسفة الألمانية؛ ولازالت لأفكاره صدًى كبير ، لدرجة أن البعض يعدُّه من أعظم مائة كتاب في تاريخ البشرية. لكنه مفتاح الدخول الى النص.. الى كلمات زكريا تامر. أحد الأعمدة الراسخة في الكتابة الساخرة في الأدب العربي ،مع المضحك المبكي ؛ الكبير محمد الماغوط ،شاهد على عصره؛ الذي قال :

" ﺇﻥ ﺗﺤﻄﻴﻢ ﻭﺗﻘﺴﻴﻢ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺮﻥ ، ﻳﻌﺎﺩﻝ ﻓﻲ ﺃﻫﻤﻴﺘﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻐﺮﺏ ، ﺗﺤﻄﻴﻢ ﻭﺗﻘﺴﻴﻢ ﺍﻟﺬﺭﺓ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺘﻪ ، ﻭﺍﻻ ﻟﻤﺎ ﻭﺿﻌﺖ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻳﺪﻫﺎ ﻓﻴﻪ،

ﻭﻟﻦ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ إﻟﻰ ﺭﺳﻢ ﺧﺮﺍﺋﻂ ﻭﺗﺒﺎﺩﻝ ﻭﺛﺎﺋﻖ ﻭﺍﻻﺳﺘﺌﻨﺎﺱ ﺑﺮﺃﻱ ﻫﺬﺍ ﻭﺫﺍﻙ ، ﻓﻜﻞ ﺷﻲﺀ ﺟﺎﻫﺰ .. ﻓﻠﺒﻨﺎﻥ ﻣﻨﺬ ﺳﺘﺔ ﻋﺸﺮ ﻋﺎﻣﺎً ” ﻣﺴﻮﺩﺓ ” ﻭﺍﻵﻥ ﺑﺪﺃﺕ ﻣﺮﺣﻠﺔ ” ﺍﻟﺘﺒﻴﻴﺾ" ﻭﻟﺬﺍ ﻓﻌﻠﻰ ﻛﻞ ﻋﺮﺑﻲ ﺃﻥ ﻳﺒﻞ ﺫﻗﻨﻪ ﻭﺣﺪﻭﺩﻩ ﻭﻳﻨﺘﻈﺮ ﺩﻭﺭﻩ ﻓﻲ ﺻﺎﻟﻮﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ!! ﻭﻧﻌﻴﻤﺎً ﻳﺎ ﺑﻄﻞ.

 

 لنضحك على الانكسار والتناقضات والصراعات في الوعي العربي بمرارة؛ مجسدا المقولة الخالدة شر البلية ما يضحك.

ابتدأ  القاء خطبته، فقال : ايها المواطنون .. سبق لنا في مناسبات عديدة ان أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تأمرت القوى المعادية. قال : لم افهم ما قلت ؟ قال: عليك ان تعجب بكل ما اقول ، وأن تصفق اعجابا به. وحين اقول لك : قف ، فعليك ان تقف .. اللحم الذي ستأكله له ثمن. ونادى النمر الغابات بضراعة ، ولكنها كانت نائية؛ وسقط في فخ لن ينجو منه. 

 

قال: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي .قال المروض بدهشة مصطنعة : أتأمرني وأنت سجيني ؟ يا لك من نمر مضحك! قال النمر : لا أحد يأمر النمور .قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً وقد صرت في القفص ، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء .قال النمر : لن أكون عبداً لأحد.  قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي ؛ لأني أنا الذي أملك الطعام. قال النمر: لا أريد طعامك . في اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر. قال المروض : ألست جائعاً؟ قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.

قال النمر: أنا جائع فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه .

 وأصدر أوامره ، فظفر النمر بلحم كثير. في اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك ، طلبي بسيط جداً . أنت الآن تحوص في قفصك ، وحين أقول لك : قف ، فعليك أن تقف .قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع . في اليوم الرابع قال المروض: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط . وقلد مواء القطط ، فعبس المروض ، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.

في اليوم الخامس ، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج. قلد النمر مواء القطط ، فصفق المروض ، وقال بغبطة : عظيم! أنت تموء كقط في شباط . في اليوم السادس ، قال المروض : قلد نهيق الحمار ، قال النمر باستياء : أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات ، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك . في اليوم السابع ، اندفع النمر ينهق مغمض العينين ، فقال المروض : نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك . في اليوم الثامن ، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً. قال النمر : سأصفق. في اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش ، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم. قال المروض : منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش . في اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص ؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة .

 

زكريا تامر الأديب المعروف ، كاتب واسع الثراء الفكري، وأديب بارع لا يُشقُّ له غبار، تعرفت عليه بعد أن قرأت "دمشق الحرائق" و " صهيل الجواد الابيض " وكانا أول ما قرأت له، فلمست في سطورهما شيئاً مختلفاً،  الجرأة في الطرح، والعمق في التحليل، والمباشرة في النقد، والذكاء في العرض، فالرجل يمارس النقد الذاتي بجراءة وشجاعة يُحسد عليها ! 

واستلهاماً للشخصيات التاريخية؛ واستحضارها ليظهر من خلالها التناقض القائم بين المفاهيم التي تحكم الحياة العربية الراهنة ، والقيم التي آمن بها من سبقونا، فكانت عاملاً في تفوقهم الحضاري.

 

وقد فتح النار على الجميع تقريباً؛ صاحب" صهيل الجواد الابيض"، وقد حقَّ عليَّ أن أورد الأسباب التي حفزت بي إلى "طعم الحصرم" و أشفقنا على  "النمور في اليوم العاشر" حين "انتشر الجراد في المدينة" ونظرنا الى "الرعد" بوقت "ربيع في الرماد" بكلماته الجارحة التي تخرج من تحت سندان الحدّاد ، بالوثبة الأولى نحو الضوء في إنماء المعرفة؛ بكتابة تشاؤمية تلك التشاؤمية التي يراها بعض المشتغلين بالأدب والنقد قد رفعته إلى مرتبة العالميّة.

 

بقصص تحكي صراخ المظلومين. فالرجل شديد الصراحة والجرأة في الهجوم على المستبدين، ولعل مجموعة (دمشق الحرائق: وهي أضخم مجموعاته القصصية التي يحكي فيها على لسان أبطال كُثُر واقع الإنسان الدمشقي ربّما لظروف المعيشة الصعبة؛و واقع دمشق واحزان العالم العربي ) ونموذجاً للجرأة في الهجوم الساحق على "جبابرة العالم العربي" كما كان يسميهم ! .. أهم ما لفت نظري في كتابات ذكريا تامر "فضلاً عن محتواها الأدبي والفكري الجريء ولغته الأدبية البارعة، وأسلوبه السردي الرشيق إذ قد صهر كل ذلك في بوتقة قصصه، بالقصّة الصرفة والخاطرة والحوار المسرحيّ ، بصوره من البلاغية المبدعة، والسخرية ، فالرجل يكتب قطعاً أدبية محكمة ! بأسلوب فريد بديع.

 فيحق لنا أن نسير في المظاهرات الغاضبة ، ونصرخ بحماسة حتي تبح أصواتنا آملين أن تلمحنا الكاميرات التلفزيونية لتؤرخ مواقفنا الوطنية والإنسانية، فهذا كل ما نستطيع تقديمه للذين يموتون مقتولين مظلومين ، فمن يقدم لضيوفه كل ما في بيته من طعام قليل قد يتهم بالفقر ولا يتهم بالبخل.
يحق لنا أن نتباهى بسواعدنا القوية ، فلا وجود لصديق لنا لم نتحداه ونتغلب عليه ونطرحه أرضاً ونجعله أضحوكة. يحق لنا أن نتدرب ليل نهار علي الركض أسرع من الصوت ، فالحياة عقيدة وجهاد ووقفة عز، والحرب خدعة، والحرب كر وفر. يحق لنا التفاخر ببسالتنا وشجاعتنا وصمودنا وبطولاتنا، فالعدو احتل بعض بلادنا فقط ، ولم يحتلها بأكملها.


يحق لنا أن نمجد أجدادنا لعلهم يكفون عن إنكار وجود أية صلة لهم بأحفادهم.
يحق لنا أن نضرب أطفالنا الضرب الموجع بغية تعريفهم إلي بعض ما سيحلّ بهم حين يكبرون، ونحن نهرف بما نعرف.. يحق لنا أن نضحك ، فقاتلنا لن يؤجل عمله إذا رأي وجوهنا عابسة. يحق لنا أن نتكلم من غير توقف ، ففي القبر الموحش سنحرم الكلام ، وقد لا نجد من نكلمه ويكلمنا. يحق لنا أن نأكل الأخضر واليابس ، فحتي أشجار الفاكهة لا تزهر ولا تثمر إذا لم تحصل علي السماد الكافي. يحق لنا أن نبتعد بنفور وعداء عن كل ما هو مصنوع من ورق مطبوع، فقد خرجنا من بطون أمهاتنا متخمين بأشمل ثقافة.

.يحق لنا أن نتذمر من زوجاتنا وأولادنا وجيراننا وأطبائنا وجرائدنا وأدباءنا وأفلامنا حتي لا نتذمر من حكام أشباح هم الماء المالح والسمك الفاسد والهواء الملوث، والتذمر الأول مؤدب حكيم مستساغ مشوق، والتذمر الثاني مجلب للمهالك.
يحق لنا الإيمان بأن حياتنا هي جهنم، ولن يحكم علينا بعد مماتنا بجهنم أخري حتي لو كانت ذنوبنا جبالاً. يحق لنا أن ننتحب مبتهلين إلي الله أن يغيثنا بجنود من عنده غير مرئيين لإنقاذنا من جنودنا البوسل. يحق لنا أن ننام نوماً عميقاً طويلاً لا نهاية له، فليس لدينا ما نفعله إذا ما استيقظنا.

كلمات ، زكريا تامر، تبقى واحدة ولا تتكرّر، وفرضًا لأتوِّج به هذا المقال،  ليس أمر غير عادل.. جاء لملء فراغات الحديث ، والتعويض عن فقر العقل.. فقر الفكر .. وفكر الفقر ؛ وبكلماته الجارحة بلغ ذروة إبداعه الأدبي، فهو إبداع فطريّ لم يقلّد أحدًا، و احسن النطق  بمؤلفات تسبح عكس التيّار تاركًا التقليديين وراء ظهره بقصص تدور في إطار مأساوي ينبع من ذات الكاتب المثقلة بالحزن لدرجة الانصهار لدرجة..السخرية!
كنت التهم سطوره وكأني أقرأ شعراً أو نثراً أدبياً. لقد أردت أن اكتب مقال، فإذا باسمك يُفرض على سن قلمي ..بالحروف والفكر والتشاؤم ، وطابع نفسك الحرة وتفكيرك العميق، في عالم الأدب والنقد؛ والكتابة الساحرة..الكتابة الساخرة. وتعتبر مجموعة النمور في اليوم العاشر من العلامات الكبرى في مسيرته القصصية؛ وترجمت اعماله الى اللغة الفرنسية والروسية والانجليزية والالمانية 
والايطالية والبلغارية والإسبانية.