فن الكذب: كلما كانت الكذبة كبيرة كانت أقوى..محمد ياغي

الجمعة 29 يناير 2021 05:45 م / بتوقيت القدس +2GMT



في كتابه «الأمير» نصح الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكافيلي الحكام بقول الحقيقة، لكنه أيضاً نصحهم بعدم قولها عندما تكون الحقيقة في غير مصلحتهم قائلاً: «سيجد الحاكم دائماً من يرغب من شعبه بأن يتم الكذب عليه» وبأن «هذا الكذب سيكون بالنسبة لهم الحقيقة بعينها».
الجاهزية وفي الكثير من الأحيان الحماسة لاستقبال الكذب باعتباره الحقيقة الوحيدة أصبح في السنوات الأخيرة أحد أهم ما يميز السياسة في الكثير من دول العالم.
إنها أداة تشكيل وعي الشعوب وتحريكها في اتجاهات تساعد السياسيين على تحقيق طموحاتهم.  
تأخذ الأكاذيب التي تعيد تشكيل الحقيقة قوتها من تقديمها أجوبة سهلة وجاهزة لظواهر سياسية واجتماعية معقدة ومن أجل تسهيل قبولها من الناس فهي تفسر الأشياء بمنظار الأسود والأبيض/ والخير والشر ولا تدخل مطلقاً المنطقة الرمادية في التفسير والتي تحتاج إلى الكثير من العناء والجهد في التحليل والتفسير لإقناع الناس بقبولها.
لا يوجد وقت لدى الناس للبحث عن الحقيقة ولا يمتلك الناس بشكل عام أدوات ومهارات البحث عن الحقيقة والناس لذلك يريدون أجوبة سهله وجاهزة لتفسير متغيرات في حياتهم تمكنهم من الحديث عنها وأخذ موقف منها يعتقدون في الكثير من الأحيان أنه يصب في مصلحتهم.
قبل الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي نهاية العام ٢٠١٠ كانت الحقيقة التي يصدقها «كل عربي» أن الاستبداد من المحيط إلى الخليج هو السبب في حالة الفقر والهزيمة والتخلف العلمي التي يعاني منها عالمنا العربي.
بعد فشل الاحتجاجات في عدد من الدول وتحولها في البعض منها إلى «حمام دم»، تمكن «المستبدون» من إعادة تشكيل الحقيقة بطرح أكذوبة كبرى صدقها ملايين العرب: الأميركيون يريدون تسليم العالم العربي للإخوان المسلمين لأنهم أداة بيد أميركا.
لم تعد عشرات السنوات من الظلم والقهر والفقر والهزائم هي المحرك الرئيس للاحتجاجات الشعبية، ولكن رغبة أميركا في تبديل حكام المنطقة بآخرين هي السبب في الحراك الشعبي.
تعقيدات «الحالة العربية» التي أدت إلى تحول الحراك في بعض الدول العربية إلى حروب أهلية تحتاج إلى الكثير من الشرح والتحليل وهذا بالضرورة يدخل في الكثير من الأحيان إلى المنطقة الرمادية، جعلت من السهل على الناس أن يصدقوا تفسيرات مغايرة لا تحتاج إلى جهد ومشقة في الفهم.
الأكاذيب والأكاذيب الكبيرة تحديداً تغطي على كل شيء آخر لتسهيل قبول الناس لها.
في حالة الحراك الشعبي لم يعد النظام العربي مسؤولاً عن تجريف الحياة السياسية وغياب الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وإلغائه للإعلام المستقل، ولم يعد مسؤولاً عن السياسات التي أفقرت الناس ولا عن سوء توزيع الثروة ولا عن تقسيم المجتمع على أرضية الولاء للحاكم وعلى أرضيات مذهبية أحياناً ولا عن غياب القيادات السياسية المستقلة ولا عن تحالفاته السياسية الخارجية... كل ذلك اختفى تحت لافتة كذبة كبيرة بأن «الغرب وأميركا تحديداً لم تعد تريد هؤلاء الحكام وهي ترغب بحكام آخرين من الإسلام السياسي».
العرب ليسوا وحدهم من يصدق الأكاذيب الكبيرة!
«نحن ندفع أسبوعياً ٤٤٠ مليون دولار للاتحاد الأوروبي للحفاظ على عضويتنا فيه: دعونا نحول هذا المبلغ للرعاية الصحية»، كان هذا ملصق إعلاني وضعه حزب المحافظين البريطانيين على عدد كبير من «الباصات» في بريطانيا وأحد أهم شعاراته في دعايته للخروج من الاتحاد الأوروبي قبيل التصويت عليه العام ٢٠١٦.
هذه الكذبة الكبيرة، التي اعتذر بسببها جونسون العام ٢٠١٩، صدقها ملايين البريطانيين وكانت السبب في تصويت غالبية (٥١.٩٪) لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الرئيس ترامب فاز العام ٢٠١٦ في الانتخابات بالاستناد إلى أكاذيب كبيرة منها أن انتشار الجريمة في بلاده سببه المهاجرون وأن هؤلاء ينافسون الأميركيين على وظائفهم ويأخذونها منهم.
السلاح الموجود في كل بيت تقريباً في أميركا لم يعد سبباً في انتشار الجريمة فيها وانحياز النظام الأميركي بتشريعاته للأغنياء لم يعد سبباً في فقر ملايين الأميركيين.
المهاجرون وحدهم، وهم من أهم أسباب نجاح أميركا اقتصادياً وعلمياً، تحولوا في لحظة إلى السبب في خرابها!
في السابق كان غياب الإعلام الحر المصدر الوحيد لنشر الأكاذيب. مع التطور التكنولوجي وتحول كل شخص تقريباً في العالم إلى مصدر للمعلومات من خلال السوشيال ميديا أصبح من السهل نشر الأكاذيب وإذا كان من يقوم بذلك «شخص مهم» له مصادره المالية الكبيرة ومؤيدوه فإن نشر الأكاذيب يصبح أسهل وأسرع.
اليونسكو انتبهت لذلك منذ سنوات وهي تنظم سنوياً في الجامعات مؤتمرات تحت عنوان «تعليم الإعلام الرقمي» بهدف تمكين الطلاب من امتلاك أدوات التحليل الإعلامي لمعرفة الأخبار الصحيحة من الكاذبة، وهي تأمل بأن يتحول ذلك إلى جزء من المنهاج المدرسي لعل ذلك يمكن الناس من التمييز بين ما هو حقيقي وما هو كذب وخداع.
السياسيون والشعبيون منهم تحديداً لن يتوقفوا عن الكذب لأن هذا يخدم مصالحهم، لكن السؤال الأهم يبقى: كيف يمكن منع الجمهور من تصديق أكاذيبهم؟
لا توجد إجابة سهلة لهذا السؤال.