عادة ما يقوم المستعمر في لحظة ما بنقد تجربته ، و مراجعة سياساته و يقينياته ، و ذلك اما لخسارة تلحق به و بمشروعه، او لنضج تجربته و وصولها الى درجة عالية من الاختمار ، او لحساسية ثقافية و وجدانية او لردود و استجابات سيكولوجية خاصة بثقافة المستعمر و مرجعياته .
القوي عادة ما يكون شجاعا في نقد ذاته من اجل المزيد من القوة و النجاح و السيطرة، و القوي لا يخشى من تسمية الاشياء بمسمياتها ، و لا يخشى ذلك بل يفخر بأنه يستطيع احتمال النقد و المراجعة و المساءلة، و ربما كانت هذه احدى اهم مزايا النظام الرأسمالي القادر حتى الان على محاسبة نفسه و نقدها من اجل التصويب و التصحيح و السيطرة ، و لهذا يستمر النظام الرأسمالي و يزداد توحشا.
و بالنسبة لاسرائيل التي تحتلنا و تغتال يومنا و غدنا بدعاو تزداد قتامتا و صلابة ، و بسياسة تتحول يوما بعد يوم الى ما يشبه العيش في الجحيم ان لم تكن الجحيم بعينه فأن ظاهرة الكاتب الصحفي جدعون ليفي تتميز بشكل يثير الدهشة حقا ، و حتى اكون صريحا ، فأنني شخصيا معجبا بما يكتب اذ يستطيع بحساسية عالية ان يحول الحدث القاسي الى مأساة انيقة و رفيعة ، و يحول القتل الذي عودنا عليه المحتل حتى صار عاديا الى دراما تتدفق طزاجتا و عنفوان، دراما تدفع الى اعادة النظر و اعادة الاكتشاف، تعجبني فيه قدرته على متابعة التفاصيل الصغيرة التي يبني فيها قصته، و كذلك دقته المتناهية في تركيب القصة و منحها ابعادا انسانية و وجدانية تقود القارىء رغما عنه الى التأثر و الانفعال ، تعجبني جرأته في نقد الاحتلال و تعريته، و يعجبني عمقه في تلمس الجذور العميقة للتطرف الديني و القومي الاسرائيلي، و تهافت الرواية و الرؤية الصهيونية، و اكثر من ذلك، يعجبني فيه تقديميه للفلسطيني من حيث الاعتراف به انسانا يشبه تماما من يسيطرون على حياته ، و هذا بالذات مهم لكل فلسطيني ، لان المحتل عادة ما يستهين بدائنا و حرمة بيوتنا و حرمة حقولنا و قدسية اماكننا ، و عندما يأتي جدعون ليفي ليتحدث عنا كبشر متساوين فهذا يجعل مما يكتبه اضافة و نكهة ، و هذا يدفعني للقول انني كنت عادة ما اطلب من طلابي في الماجستير ان يقرأوا ما يكتبه الرجل ، و اعرف ان هذا الكاتب يدفع ثمن مواقفه في الشارع الاسرائيلي و اعرف انه يعبر عن اقلية متناهية في اسرائيل، و اعرف انه قوطع و صحيفة هأرتس ايضا في الانتفاضة الثانية فالشارع العريض في اسرائيل لم يعد حساسا ولا يقظا ولا يريد ان يرى او يراجع ذاته، بل على العكس من ذلك، فأن العمى المسيطر هناك تحول لادمان حقيقي و خصوصا بعد اختفاء الزعامات و الشخصيات التي تعرف ما الذي يحتاجه الجمهور لا ما الذي يريده.
و اعتقد ان كثيرين من الفلسطينين متابعون كتابات ليفي و يرتاحون له و يعتقدون ان ما يكتبه يشعرهم بالغبطة ، ذلك بانه يصورهم دائما بصورة الضحايا الهادئين ، الذين يستحقون معاملة اخرى ، و ان جدعون ليفي يعرف الحقيقة و يصارح بها مؤسسات المحتل .
ولكن الامر _ برأي _ اكبر من ذلك و اعمق مع كامل تقديري و حتى اعجابي بما يكتبه هذا الكاتب المثابر و المؤمن بما يفعله ، فالمستعمر كما ذكرت في بداية مقالي لديه القدرة و القوة و الشجاعة بمراجعة ذاته و نقدها في مرحلة ما من اجل تنظيف الضمير او تخديره ، او من اجل تصويب التجربة و تجديدها ، و اما اسرائيل ، و لخصوصية التركيب الديموغرافي و استثنائية التاريخ ، فقد كان هامش النقد واسعا بالمقارنة مع المحيط ، و اعتبر هذا النقد في اسرائيل جزئا في قوة المجتمع و النظام السياسي على حد سواء ، و قد اتسع هاش النقد و المراجعة في التسعينيات بما سمي في حينه ما بعد الصهيونية ، حيث تمت مراجعة و نقد الرواية الصهيونية الرسمية و ظهرت في التالي تناقضات و تهافت هذه الرواية ، كما اتسعت المطالب الليبرالية و تم التخلص لحد كبير من العقلية العسكرتارية و الجمعوية المتشددة ، ولكن اسرائيل _برأي_ لا تطيق هذه الفضائات الواسعة ، و لهذا عادت ظواهر التعصب و التطرف القومية و الدينية مرة اخرى بحجة اندلاع الاصوليات و انهيار عملية التسوية و فشل الليبرالية اصلا و عدم قدرتها على الاستجابة لشهوات الاستيطان و التوسع و السيطرة .
اين يقف جدعون ليفي في كل هذا !
ليفي هو جزءا من كل هذا لصخب و الضجيج في اسرائيل ، هو يشبه اوري افنيري في الخمسينات و الستينات ، و يشبه المؤرخين الجدد في التسعينات الى حد ما ، و يشبه ايلان بابيه و ابراهام بورغ على ايامنا هذه ، كل هؤلاء انتقدوا الصهيونية و جردوها من سردياتها كجزء من عملية متواصلة في الثقافة اليهودية التي ترى في الكلمة المخالفة و المعارضة وجه اخر من كلمة الله ايضا ، اقصد ، انه كاتب اسرائيلي اخر يريد من الفلسطيني ان يظل ضحية مسالمة و طيبة حتى يشعر الاسرائيلي بالارتياح ، الاسرائيلي اليهودي لا يريد ان يغادر لغة الضحية ولا يريد ان يرى غيره يقاسمه و ينازعه هذا الدور الابدي .
كل الاحترام لجدعون ليفي الذي يضم بين جنبيه قلبا شفوقا و لكن كل عواطف جدعون ليفي لم تمنع حتى الان جرافة مجنونة تهدم بيتا من الصفيح و الخشب لبدوي فلسطيني يأوي اليه ليرعى قطيع من الاغنام هو كل معاشه ، ليفي مايزال ظاهرة فردية لم تتحول بعد الى تيار عريض و قد لا تتحول ، ليفي الجريء و المتعاطف الذي يقوم بتحويل مأسينا الى قصص مؤثرة تنشر في صحف المحتل الذي يعيش في كنفه و يتمتع بمزاياه و خدماته .
رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية في جامعة القدس