ليس رداً.. ولكن متابعة للنقاش مع مهند عبد الحميد..ماجد كيالي

السبت 09 يناير 2021 02:56 م / بتوقيت القدس +2GMT




بداية يجدر أن أعبر عن تقديري لمبادرة الصديق مهند عبد الحميد بإثارته النقاش حول مقالتي: «الجدل بشأن الخيارات السياسية أو نحو تفكير سياسي جديد في الساحة الفلسطينية»، إذ إن تبادل الرأي في المسائل المختلفة، وإعمال التفكير النقدي فيها، لترشيد وإغناء وتطوير الفكر السياسي الفلسطيني هو أكثر ما تحتاجه حركتنا الوطنية؛ منذ عقود.
وحقا، كنت أتمنى لو أن الصديق مهند فنّد وجهة النظر التي طرحتها، أو وضعها موضع النقد أو الشكّ، إذ إن كل المبرّرات التي ذكرها لمعارضة ما طرحته جاءت على عكس ذلك.
مثلاً، فقد فات العزيز مهند أنني تحدثت عن فتح الخيارات الفلسطينية، بدل إغلاقها أو حصرها في خيار واحد، وإنني لم أقل بإقصاء خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، بل أكدت مراراً عدم وضع خيار مقابل خيار آخر، أو “في تضاد مع الآخر»، وأنه لا يجب «طرح خيار الدولة الواحدة كبديل لخيار الدولتين، أو كنقيض له»، مع تأكيد أن الأمر لا يتعلق بما نقوله أو نرغبه وأن المسألة تتعلق بموازين القوى والمعطيات العربية والدولية، وليس بما نتوهمه.
نعم، كنت أكدت ذلك رغم اعتقادي، أولاً، أن خيار الدولة الواحدة هو الأمثل لحل مختلف جوانب المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية. وثانياً، لأن إسرائيل، وفق رؤاها الاستراتيجية، تتعامل مع شعبنا، في مختلف أماكن وجوده بوصفه وحدة واحدة لكن بسياسات مختلفة، ووفق أنظمة قانونية متباينة، كما تتعامل مع الأرض الفلسطينية على ذات النحو، ما يفرض علينا كفلسطينيين، أيضاً، أن نتعامل مع إسرائيل، كما هي، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية منذ قيامها، أي منذ 1948، وليس على اعتبار أن الصراع معها بدأ عام 1967، وكأنها أضحت كذلك منذ ذلك الحين. وثالثاً، لأنه، سواء تم الأخذ بهذا الخيار أو ذاك (دولة أو اثنتان أو أي شكل دولتي)، فإن الأمر يستوجب «إبقاء الأفق مفتوحاً لوحدة أرض وشعب فلسطين، ولو على صعيد المستقبل»، بمعنى أنني لم أستبعد خيار الدولة في الضفة والقطاع، من الناحية النظرية، وكورقة يمكن استخدامها في المجادلات السياسية الدولية لكن من دون أوهام، ومع إبقاء الأفق مفتوحاً أمام خيارات أخرى، لا تقطع بين خيار مرحلي، تتطلبه الظروف والمعطيات الدولية غير المواتية، وبين الخيار الأفضل والأمثل لنا ولهم.
اللافت إن العزيز مهند لم يلاحظ ذلك، بإصراره على خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع كخيار أحادي حصري، «كأنه خيار أيديولوجي»، أو مقدس، خارج النقاش، ولا يجوز المساس به، رغم أنه لم يثبت لا نظرياً ولا عملياً، ورغم عدم تماثل ذلك الخيار مع الواقع والتاريخ وحركة الفاعلين وموازين القوى، منذ 46 عاماً. فكم يحتاج الأمر إذاً حتى نقتنع بعدم جدوى هذا الخيار/الوهم من الناحية العملية؟ كم 46 سنة أخرى؟ ثم أين المشكلة في الحديث عن خيارات أخرى موازية؟ وهل من يقول بذلك هو الذي أعاق قيام تلك الدولة التي لم تقم منذ أكثر من أربعة عقود؟ وأطرح تلك الأسئلة علماً أنني في مقالتي أكدت أنه في تقرير أي خيار أو حل «لا يمكن القفز عن الواقع، أو التكهن بالمستقبل، ذلك أن مثل هذا الحل يفترض وجود توسطات وتدرجات، ربما منها قيام دولة مستقلة أو حكم ذاتي أو نظام أبارثايد، فلا أحد يمكن أن يتكهن بشكل الكيان الفلسطيني المقبل، أو شكل العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين، وفقاً للمعطيات المحيطة وموازين القوى السائدة اليوم».
ما أود التنويه إليه هنا، أو التذكير به، أيضاً، هو أن خيار الدولة في الضفة والقطاع لم يكن يوماً برنامجاً للإجماع الوطني، بل إن هذا الخيار تم فرضه بطريقة فوقية وقسرية (تماماً مثل اتفاق أوسلو)، وهو الذي أسس للانقسام وللاختلاف في الحركة الوطنية الفلسطينية، ووجدان الفلسطينيين، وفي روايتهم التاريخية المؤسسة، منذ أواسط السبعينيات، ثم إن ذلك الخيار هو الذي برر كل التنازلات اللاحقة التي أوصلت إلى اتفاق أوسلو (1993)، إذ الفرق يكمن في التفاصيل، في حين أن الخيارين تأسسا على وهم حل الصراع مع الصهيونية، وناتجها إسرائيل، بناء على إقامة دولة لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق، وتالياً، إزاحة الرواية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني، أي التعامل مع الشعب والقضية والأرض كأجزاء، وليس كوحدة واحدة، في واقع لا يفيد بإمكان الوصول لحل كلي بواسطة حل مسائل جزئية بالنظر لطبيعة الدولة الإسرائيلية.
طبعاً من السذاجة القول إن حل الدولة الواحدة أهون من حل الدولة في الضفة والقطاع، لكن ألم يكن بالإمكان التسلح بقرارات الشرعية الدولية (حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة) في المنابر الدولية، وأيضا اعتماد الخطاب الوطني الجامع، الذي انطلقت الحركة الوطنية الفلسطينية على أساسه (قبل احتلال الضفة والقطاع)، باعتباره الأساس لوحدة الشعب الفلسطيني وقضيته وروايته الوطنية؟ ومن الذي وضع أو افترض التعارضَ بين هذا وذاك؟ ثم إذا كان خيار الدولة المستقلة والدولة الواحدة مجرد أطروحات سياسية، ولا توجد معطيات عملية لتطبيق أي منهما، ألا يجدرُ بنا أخذ الخيار الذي يسهم بتعزيز وحدة شعبنا وبناء اجماعاته الوطنية بدلاً من خيار ينتقص من كل ذلك، لمجرد توهمات؟ وفوق كل ذلك فإذا كان يمكن اعتبار حل الدولة في الضفة والقطاع يتطابق مع الشرعية الدولية، فمن الذي قال إن حل الدولة الواحدة يتعارض مع القيم العالمية، أي قيم حقوق الإنسان، المتأسّسة على الحقيقة والعدالة والحرية والمساواة والمواطنة؟
الفكرة الأساسية هنا أن تجربة 46 عاماً أثبتت أن مجمل الخيارات والحلول هي أطروحات غير قابلة للتطبيق و ”طوباويات” لأنه من دون انقلاب في وعي الإسرائيليين ومن دون تغير ملموس، لصالح العرب، في موازين القوى، وضمنه المعطيات الدولية، ومن دون تغير وضع العرب أنفسهم فإن الباب سيبقى مسدوداً أمام كل الحلول طوباويةً كانت أو أقل طوباوية؛ وعلى ذلك فإنني أتساءل كيف ستقوم الدولة الفلسطينية إذا؟ هل نتيجة مفاوضات نفحم بها إسرائيل؟ هل نتيجة كرم حاتمي سيظهر فجأة عند الإسرائيليين؟
وباختصار، فإن المقالة كانت تركز، أولاً، على ضرورة «وعي التحولات التي دخلت على المفهوم السائد لعملية “التحرير”، فطوال نصف قرن سادت فكرة متخيّلة عن عملية تحرير قوامها العودة إلى لحظة العام 1948 وهزيمة المشروع الصهيوني بالوسائل العسكرية، لذا فمن غير المعقول أن يبقى هذا المفهوم جامداً برغم كل المتغيرات والتحولات. ثانياً، أن «العرب والفلسطينيين اشتغلوا كثيراً على استراتيجية الصراع المباشر والمسلح، ضد المشروع الصهيوني، بمختلف تجلياته، وبدا واضحاً أن هذا المشروع يتميز بنقاط قوة هائلة...لذلك ثمة مشروعية للتفكير بالانتقال من استراتيجية الصراع المباشر مع إسرائيل على وجودها إلى استراتيجية تفكيك هذا الوجود في نواح أساسية فيه، تضعف مرتكزاته الصهيونية والوظيفية، وتعزز مناحي الاندماج لدى الإسرائيليين، بخاصة أن مثل هذا الطرح يقوض فكرة إسرائيل عن ذاتها كضحية، أو كونها مستهدفة من محيط عربي يريد رميها في البحر، سواء على الصعيد الدولي أو بين الإسرائيليين/اليهود أنفسهم. ثالثاً، «إن البديل، عن فكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، الجزئية، نسبة للأرض والشعب والحقوق، أو عن فكرة التحرير التقليدية، التي تقوم على تخيّل امتلاك القوة، وتوفر المعطيات العربية والدولية المواتية، لتقويض إسرائيل، واستعادة كل فلسطين، وهو بالمناسبة تخيّل مشروع...يتمثل بإدخال تعديلات على فكرة التحرير، بما يفيد باستعادة التطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، ومراجعة الوسائل وأشكال العمل والخطابات التي سادت طوال العقود الماضية، وتطوير معانيها، بحيث لا تقتصر على تحرير الأرض، بل وتشمل هذه العملية، أيضاً، على تحرير الفلسطينيين من علاقات الاستعمار والعنصرية والهيمنة الإسرائيلية، وتحرير اليهود ذاتهم من الصهيونية، وإضفاء قيم الحرية والمساواة والديموقراطية على فكرة التحرير. رابعاً، أن هكذا خيار يمكن اعتباره خياراً «تدرّجياً لا يتحقق دفعة واحدة، وكفاحياً لا يتحقق عبر مفاوضات سيما في ظروف غير مواتية، ومستقبلياً أي أنه ليس راهناً، وإنما هو يرتبط بمجمل التطورات في المنطقة، وفي مقدمة ذلك التطورات في مجتمع الفلسطينيين ومجتمع الإسرائيليين».
أخيراً، في مقاله لم يذكر الصديق مهند كيف ستقوم الدولة الفلسطينية إذاً، وفق رأيه؟ وما هي موازين القوى التي ستفرضها؟ ولا من هم الحلفاء الذين يراهن عليهم في هذا العالم الذي حولنا (العربي والإقليمي والدولي)؟ ولماذا لا يفعلون شيئاً أو لا يستطيعون وقف بناء مستوطنة، أو فتح معبر رفح، أو قلع معبر قلنديا؟ على ذلك فإن استنتاج صديقي مهند أن إسرائيل هي «العامل الأهم في إحباط قيام دولة فلسطينية» لكن ذلك ليس اكتشافاً، لأن ذلك هو شغلها، ومن الوهم اعتقاد أن تلك الدولة ستقوم بوسائل المفاوضة، في واقع لا أحد يضغط فيه على طرف إصبع لإسرائيل، وفي ظل حال من التدهور العربي والتغول الأميركي والإسرائيلي. أما الاستنتاج الثاني، بشأن أن رفض إسرائيل للدولة يجب أن يدفع الشعب الفلسطيني للتمسك بها فهو دلالة على تحويل الأمر إلى قضية أيدلوجية، وإبقاء الارتهان على خيار لم يفد شيئاً، من الناحية العملية، ثم إن معارضة إسرائيل لإقامة دولة للفلسطينيين ليس اكتشافاً لأنها ترفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، أما اعتباره أن «للمركز الدولة مكاناً واحداً هو فلسطين» فهو تأكيد على أن ذلك الخيار يبطن أن الضفة وغزة باتتا تختزلان ارض فلسطين وقضية فلسطين وشعب فلسطين، وهنا المشكلة الحقيقية في الفكر السياسي الفلسطيني.