حياة الفلسطيني العادي جزء من قوة الأشياء على هذه الأرض، حياة تتحول إلى قصة مقاومة عنيدة غير منظورة الأهداف، لكنها تتبدى في صيغة عراك يومي مع صعوبات وعراقيل ومنع وكبح، من أجل الخبز والكرامة، قصة تبدأ ولا تنتهي لأن مضمونها هو البقاء الرمزي والمعنوي والحرية. ليس الانخراط المباشر في النضال وحده من صنع الصمود وأبقى على جذوة التحدي متقدة، هنا جيش عرمرم من الكبار والصغار، مواطنون ولاجئون في الوطن وخارجه، لا يعرف ما يسمى استراحة المحارب، جيش ينبثق منه المنتفضون والمقاومون.. بدأ عبد الحي شقيقي الأكبر شبابه جندياً وبقي جندياً ولبنة من لبنات الحضور والبقاء.
في أميركا تتوفر بنية تلبي الحاجات الأساسية، يستفيد منها من لديه تأمين صحي كأخي أبو ناصر (84 عاماً)، حيث له علاج وعناية وتلبية الاحتياجات الأخرى كالغذاء والترويح عن النفس بما في ذلك توفر مسجد للصلاة. كل هذا لم يحقق الإشباع النفسي لأخي الذي يتحقق في بيئة الوطن الذي يفتقد لتلك البنية. كان سؤال أبو ناصر اليومي: هل فتحت الطرق إلى البلاد؟ كانت ابنته نداء تجيبه: يابا حتى الآن ما في طيران والمطارات مغلقة وما في حد بالبيت في دير جرير. وكان يعيد السؤال على من يلتقيه أو يتصل به من الأبناء والأحفاد والأقارب في أميركا وفي البلاد. كان يسأل: لماذا لا نستخدم وسائل نقل أخرى؟ المهم بدي أرجع بأسرع ما يمكن لأعتني بالأرض والزيتون. لا يكترث أبو ناصر بالعناية الفائقة التي كانت توفرها له ابنته نداء ولا بالعناية الصحية المتقدمة. فقط يريد العودة إلى بلده، لكنه لم يعد.. توقف قلبه عن الخفقان بعد إصابته بفيروس كورونا اللعين. نهاية حزينة ولكن بداية مشواره صعبة.
ما أن تجاوز المولود البكر «عبد الحي» الأربعين يوماً بقليل، حتى اصطحبه أبوه «عوض الله» وأمه «رقية» وشقيقتها الصغرى «يوحاند»، إلى موسم حصاد القمح بعيداً عن القرية مسافة عشرة كيلومترات تقريباً. بنوا له «حذلا»، ما يعني سرير الطفل بأعمدة من «الرتم» وظللوها بقصفاته وأنواع أخرى من النباتات البرية التي لا تزال خضراء. كان الإشراف على عبد الحي مهمة أولى لخالته الصغيرة يوحاند. وبينما كانوا يحصدون «بمناجلهم « مستمتعين بغزارة المحصول الذي نسب في ذلك الموسم للمولود الجديد باعتباره «فال خير»، سمعوا صراخاً شديداً فهبوا راكضين ليجدوا عبد الحي مطروحاً على الأرض وقد شج رأسه بالحجر الذي وقع عليه، انهمر الدم على الأرض غزيراً محدثاً هلعاً وارتباكاً. يا كشلي راح الولد.. يما يا حبيبي، الله ينجيك ويحميك، وضعت الأم خرقتها على الجرح محتضنة ابنها، وهرع الأب إلى الوادي، وقد أحضر تراباً أحمر ناعماً مترسباً من أيام الشتاء وهو أشبه «بالبودرة»، وسارع إلى وضعه على الجرح استجابة لوصفة أحد رعاة الأغنام الذي كان قريباً منهم، وشجعهم على فعل ذلك قائلاً: إنه يوقف نزف جرحه. بعد وضع الرمل وتضميد الجرح بأطراف خرقة الأم عاد المولود للرضاعة وبقليل من الهدهدة غط في نومه، وعادوا يحصدون القمح بمناجلهم بهمة أكبر وكأنهم يعاقبون أنفسهم بعد أن انتابهم إحساس بالإهمال.
كل شيء يبدأ من الطفولة، كان مسار حياة عبد الحي يشي بمستوى من شظف العيش أقل من الحاجات الأساسية. ورث أبوه الشقاء منذ نعومة أظافره، ورغم تفانيه في العمل لم يقطع مع الشقاء والفقر، فتورثه الأبناء الأوائل وأولهم الابن البكر عبد الحي، لكن هؤلاء لم يستسلموا بل سعوا إلى تغيير المعادلة وإيجاد البدائل. كان التعليم أحد أهم أسلحة الأبناء للخروج من الحالة الصعبة. دخل عبد الحي المدرسة وأكمل مرحلتين لكنه تعثر في الأول الثانوي، ولما كانت متطلبات الأسرة ومن ضمنها التعليم أقوى من طاقة الأسرة على الخروج من الضائقة، التحق عبد الحي بالجيش الأردني–سوق العمل الجديد في خمسينيات القرن المنصرم. أصبح عبد الحي شريكاً في تأمين الرزق حين وفَّر إيراداً شهرياً كان بمثابة صمام أمان، وتعزز الإيراد بعمل شقيقي قدري في سلك التعليم الذي كان مهنة معتبرة وذات جدوى في ذلك الوقت، وتعزز الدخل أكثر بانضمام شقيقي وليد إلى سوق العمل في الكويت.
منذ أن أصبح منتجاً، عمل أخي عبد الحي بمشاركة ودعم أخي قدري على نقل الأسرة إلى الحداثة. كانت النقلة الأهم والتي أحدثت فرقاً شراء راديو بحجم كبير ببطارية كبيرة، ما زال صوته الرخيم يطن في أذني من فرط نقائه. الراديو كان وسيلة تعلم ومعرفة وطرب وارتقاء بالذائقة، فضلاً عن مساهمته في إعادة بناء الوطنية الفلسطينية المطموسة آنذاك. اهتم عبد الحي بنقل الراديو إلى «العلية» التي يتجمع فيها الرجال ليسمعهم الأخبار ويفتح لهم نافذة إلى العالم. كانوا يتحلقون حول الراديو منبهرين بسماع الأخبار والبرامج والأغاني. الانتقال إلى الحداثة شمل اقتناء كتب ومجلات وبناء بيت جديد وتحويل أرض مزروعة بالتين الشائخ إلى كرم تفاح وسفرجل وخوخ، وبعد أن شاخ التفاح جرى استبداله بزراعة زيتون لا يزال حتى الآن، والحداثة شملت الانحياز للنظام الناصري وتيمناً بجمال عبد الناصر سمّى ابنه عبد الناصر وأصبح اسمه أبو ناصر.
الشيء المسكوت عنه في الانتقال إلى الحداثة قصة حب عبد الحي ويسرا التي توجت بالزواج. في العادة كان الزواج يتم بقرار من الأهل والاكتفاء بموافقة العريس والعروس المملاة عليهما. خلافاً لذلك فعل الثنائي المذكور، كانا يحبان بعضهما بعضاً ويتواصلان بالحديث وتبادل الهدايا الرمزية، كنت أنا الولد المراسل على جبهة الحب بينهما. وقد تغلبا على الشروط التي وضعها دار خالي (أهل العروس) عليهما، وكأن لسان حالهما يقول: لا شروط على المحبين. لم يكتمل دخول العائلة إلى الحداثة بتعليم البنات والأخذ بيدهن، ولم يجر تعويضهن عن ضياع فرص التعليم والعمل. الموقف النزيه من النساء نصف المجتمع لا يقتصر اتخاذه على أسرة واحدة، بل يتحمل مسؤوليته الحركات السياسية والنخب الثقافية والأكاديمية أيضاً.
أبو ناصر قصة حضور وحيوية وتفاعل وتأثير وتأثر مع كل الأوساط التي عايشها، خاصة الصغار. كان يحب هذا الجيل ويؤثر فيه بطيبته وإخلاصه وبأسلوبه الساخر والمشوق. لا مجال لذكر طرائفه باستثناء وصف عنوان زميله وصديقه في الجيش الأردني «عبد الحق» حين قال: عندما تصل إلى منطقة تحس فيها أن الذباب يرفع بسطارك عن الأرض تكون قد وصلت المنطقة (وادي الحدادة في عمّان)، حينها اسأل الأولاد الفائضين عن حاجة أهلهم وبيوتهم عن العنوان. أود أن أنهي حديثي المقتضب بمأثرة أبو ناصر أثناء حرب 67. بينما كنا ننتظر الجيش المصري أثناء حرب 67 توقفت سيارة جيب عسكرية أردنية هبط منها أبو ناصر بزيه الحربي، جمعنا وقال: نحن منسحبون إلى الأردن، إياكم الهجرة من هنا والذهاب إلى الأردن، لا تخافوا ابتعدوا قليلاً عن البيت أثناء احتلالهم للقرية، وبعد ذلك عودوا للبيت واخفوا آثاري العسكرية، وقد كان له الفضل الكبير في بقائنا وبقاء أسرة خالتي وبعض الأسر الأخرى في البلاد.
أبو ناصر وداعاً
Mohanned_t@yahoo.com