قالت سؤدد الصالحي مراسلة موقع “ميدل إيست آي” في العراق إن مقتل الجنرال قاسم سليماني قبل عام بغارة أمريكية ببغداد قلب الإستراتيجية الإيرانية في العراق. وقالت إن خليفته إسماعيل قاآني بحسب عدد من المسؤولين بالميليشيات التي تدعمها إيران لم يبد الرغبة بالتعرف عليهم وبناء علاقات كما فعل سلفه.
وكانت زياراته القليلة مجرد توصيل رسائل أو نقل أوامر للجماعات الموالية لطهران. وهو ما أدى لصدمة وليس فقط خيبة أمل. وقالت: “أن تقول إن قادة الشيعة العراقيين شعروا بالخيبة من الرجل الذي حل محل قاسم سليماني هو تقليل من الموقف، فقد صدموا”. وكان سليماني يعرف القادة واحدا بعد الآخر وبل ومن يعملون تحت إمرتهم ووثق العلاقة معهم عبر عدة عقود. لكن زعيم فيلق القدس الجديد ليست لديه هذه المزايا فقد قضى معظم وقته في أفغانستان، والعراق ساحة جديدة له وهو لا يتقن العربية مثل سلفه سليماني، وفوق كل هذا يبدو أنه غير مهتم في تقليد سلوك القائد السابق.
ورغم مضي عام مضطرب على الغارة الأمريكية في 3 كانون الثاني/يناير والزيارات القليلة إلى العراق واجتماعه مع قادة الميليشيات فلقاءاته كما وصفها زعيم فصيل شيعي تشبه “مسؤولا رسميا مهتما بتوصيل الرسائل والتعليمات”. وفوق كل هذا لم يبذل الزعيم الجديد أي جهد لإذابة الجليد مع شركائه الجدد. وكانت زياراته إلى العراق رسمية ولم يخصص وقتا لمعرفة القادة العراقيين. وقال سياسي شيعي بارز: “كانت لدى سليماني جاذبية ولا يمكن تجاهلها وتحدث العربية ووسع علاقاته مع معظم السياسيين العراقيين وقادة الفصائل المسلحة وجماعاتهم أو طوائفهم” و”هو ما جعله قريبا من الجميع وبنى موقعا له ومنحه تأثيرا على القادة الذين استخدمهم في السياسات التي يريدها”. وقال السياسي إنه كان يعرف كيفية التعامل مع العدو والصديق على حد سواء و”كان قادرا على التسوية مع معارضيه وجعلهم يوافقون على حل مرض”. وبالمقارنة مع ذلك فقاآني لا يعرف شخصيات مثل عمار الحكيم ويعرف شقيقه محسن فقط. وأصبحت المقارنة بين الثقة بسليماني ورسمية قاآني حديث المسؤولين في العراق.
وفي الوقت الذي كان يصل فيه سليماني إلى العراق بطريقة مفاجئة يقدم قاآني طلب تأشيرة قبل وصوله بأسابيع. وقال مستشار لرئيس الوزراء العراقي: “لم يكن سليماني يعترف بوجود باب بل وكان يقفز من النافذة، أما قاآني فيحب الدخول من الباب وعندما يسمح له”.
وكان الفرق واضحا فلم تكن إيران قادرة على سد الفجوة التي تركها رحيل سليماني وأبو مهدي المهندس الذي يعد الأب الروحي للكثير من الميليشيات المسلحة. وفي غياب سليماني باتت جماعات مثل عصائب الحق خارج السيطرة وتتجاهل تعليمات قاآني. وفي الوقت نفسه تتعامل إيران التي تعاني من العقوبات بعصبية مع الأزمة المالية في العراق وتراجع أسعار النفط وآثار كوفيد-19. وأجبر التطوران طهران على مراجعة سياساتها الإقليمية خاصة في العراق كما يقول مسؤولون سياسيون وعسكريون وأمنيون في العراق.
وقال مسؤول عراقي على علاقة مع المخابرات الإيرانية: “يقوم الإيرانيون حاليا بمراجعة كل خطط سليماني في العراق. وفي الماضي لم يكن أحد يمكنه الحديث عن سلبيات ولكن بعد مقتله صار الكل يتحدث عن سلبيات”، وأضاف: “اكتشفوا أنهم استغلوا العراق بشكل كبير واعتمدوا على حلفاء قدامى ساهموا باستنزاف موارده وجعل إيران تخسر القاعدة الشعبية الشيعية. والهدف هو محاولة نهج جديد وإعادة ترتيب الوضع في داخل العراق لتقليل الخسائر”. وقالت مصادر سياسية وعسكرية وأمنية عراقية إن السلطات الإيرانية المسؤولة عن العراق بدأت سياسة جديدة قبل شهر. ومن المتوقع ظهور آثار هذه السياسة في المؤسسات السياسية والأمنية العراقية. وبدت هذه تتضح داخل الجماعات المسلحة.
وقال مستشار مصطفى الكاظمي: “الفكرة هي تغيير الرؤية بناء على طريقة إدارة النزاع الأمريكي- الإيراني داخل العراق ومناسبتها مع التطورات المحلية والإقليمية”. وتلعب في تغير الرؤية الإيرانية من العراق 3 عوامل: الإدارة الأمريكية المقبلة لجوزيف بايدن وخروج الجماعات الموالية للمرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني والانتخابات البرلمانية في العراق. وقال المستشار: “الفكرة لا تدور حول هوية الرابح أو الخاسر في هذا النزاع ولكن عن النجاة وبأقل الخسائر” و”لا يمكن لإيران القبول بخسارة العراق ولا المخاطرة والتنازل عن مصالحها القومية. ومن هنا فتقديم تنازلات أو التراجع خطوات للوراء هو الرد الطبيعي لإيران في هذه المرحلة”.
وأشار التقرير إلى دور المخابرات الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي التي كانت ناشطة مع الجماعات المعارضة لصدام حسين في داخل وخارج العراق. وقال مقاتل سابق في منظمة بدر، التي تعد من أقدم الجماعات المسلحة التي عارضت صدام، إن تأثير المخابرات الإيرانية تراجع بعد 2005 “عندما اندلع النزاع المباشر بين إيران من جهة والقوات الأمريكية والبريطانية من جهة أخرى”. وبدلا من ذلك تولى فيلق القدس، أو فرع العمليات الخارجية في الحرس الثوري، مهمة متابعة المصالح الإيرانية في العراق. ولعب الفرع دورا في توجيه العمليات ضد القوات الأمريكية في العراق وكذا بعد عام 2014 ضد تنظيم “الدولة”.
ويتمتع فيلق القدس بسيطرة كاملة على الشؤون الإيرانية في العراق وتأثيره في أعلى حالاته. وفي قلب هذا النجاح توتر يأبي التلاشي وسلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيات وتهدد بزعزعة استقرار العراق الذي يحاول التعافي من آثار تنظيم الدولة. فالحشد الشعبي الذي شكل بناء على فتوى من السيستاني أصبح تحت قيادة سليماني الذي وجهه في الحرب ضد تنظيم الدولة. وبعد هزيمته الجهاديين في 2017 كانت طهران قادرة على فرض السيطرة الكاملة على الحشد الشعبي الذي تجاهل أوامر الجيش العراقي الذي يخضع له. وفي ظل السيطرة الإيرانية ارتكبت فصائل الحشد سلسلة من الانتهاكات ضد المدنيين وبدأت بتهديد الحكومة العراقية والناس والسفارات الأجنبية. ورد السيستاني في النجف بالدعوة لإعادة ترتيب الحشد وتقليل التأثير الإيراني. وقال مسؤول سياسي مقرب من إيران: “وافق الإيرانيون على إعادة ترتيب الحشد الشعبي العام الماضي فقط. وكانوا يدرسون مقترحات للتضحية ببعض الجماعات المرتبطة به. وكل هذا توقف بسبب التظاهرات الحاشدة عام 2019 ومقتل سليماني” و”لم يعرقل مقتل سليماني المشروع ولكن أجل تنفيذه”. إلا أن وفاة سليماني وفشل قاآني في متابعة خطوات سلفه وعدد آخر من القضايا الملحة دفعت التحرك الذي بدأ من طهران وأدى لعودة المخابرات الإيرانية إلى العراق. وقال المسؤول السياسي: “لم يعد ممكنا المخاطرة وخسارة المزيد من التأثير داخل العراق والمنطقة”.
وبدأ فيلق القدس بالتراجع وتتراجع أرصدته وقدراته التنظيمية في العراق من الخط الأول في المواجهة السياسية. و”بالنسبة لإيران فالسياسة يجب أن تكون في المركز الآن لا السلاح”. ومن هنا كانت الرسائل المشوشة القادمة من طهران إلى بغداد تعبيرا عن التوتر بين الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية. وهناك من يعتقد أن المخابرات كانت تدعو للضبط في المواجهة مع أمريكا فيما كان فيلق القدس يحثها سرا على زيادة الهجمات. ولا أحد يعرف ما يجري لكن الساسة في العراق يعتقدون أن الخطة الإيرانية لبلدهم تغيرت. وتقوم الرؤية الجديدة على ثلاثة محاور: تفكيك بعض الجماعات المسلحة أو “إزالة النتوءات” وتقوية الحكومة العراقية والبحث عن مصادر بديلة لدعم حلفائها في داخل العراق. وقال مستشار الكاظمي إن عدم اعتراف إيران بالقوة الواحدة في العراق وخلال السنوات الماضية قادهم لمفاقمة الخلافات مع الجماعات المسلحة داخل الحشد الشعبي مما قاد إلى حالة الفوضى التي يعيشها البلد. ومن هنا فالطريق لحل مشكلة الميليشيا وفصائل الحشد الشعبي هو العثور على بديل للمهندس، المؤسس المشارك لكتائب حزب الله. وبعد ذلك قد تختفي بعض المنظمات مثل كتائب الخراساني وتتحول أخرى إلى عصابات أو تندمج مع الأقوى منها.
وتشترك هذه الميليشيات بالراتب من الدولة والمميزات والمعدات التي تحصل عليها، لكن ولاءاتها مختلفة، فهي إما تتبع السيستاني في النجف أو مقتدى الصدر أو تتبع آية الله علي خامنئي في طهران. ورغم محاولة نوري المالكي رئيس الوزراء عندما بدأ هجوم تنظيم “الدولة” عام 2014 إنشاء سلطة واحدة للحشد الشعبي وجعله تابعا للحكومة إلا أنه لم ينجح. وفي عام 2016 صدر قانون لتنظيم الحشد الشعبي وجعله خاضعا لنفس قوانين القوات الأمنية العراقية. وبدلا من ضبط الميليشيات زاد قانون 2016 من الفوضى. ويتمتع القادة الخارجون عن الحشد الشعبي بالمنافع التي يتمتع بها الحشد الشعبي بما في ذلك الهويات والعربات والأسلحة والمقرات التي يستخدمونها كغطاء للعمليات غير القانونية وحماية المقاتلين غير المسجلين في الحشد.
وقال مسؤول إن البعض استخدم مصادر الحشد ومقاتليه لأغراض شخصية وتنفيذ أجندات إقليمية وتورط في أعمال عنف ضد مؤسسات الدولة والبعثات الدبلوماسية. وقام المسلحون الذين هم في الحشد وخارجه في نفس الوقت بملء خزائنهم من مال المخدرات والسيطرة على بيوت المدنيين النازحين وابتزوا الشركات ورجال الأعمال واختطفوا العراقيين والأجانب طلبا للفدية. وعندما بدأت التظاهرات عام 2019 بدأ بعضهم باستهداف المتظاهرين والصحافيين واختطافهم وقتلهم. وهو ما دعا إيران للتحرك والحفاظ على القوى المسلحة الكبيرة داخل الحشد مقابل تنظيف صفوفها من العناصر الانتهازية وحل الفصائل الصغيرة. وبالنسبة للجماعات غير المسجلة في الحشد فسيتم الحفاظ على اثنتين أو ثلاثة منها تحت مظلة ما يعرف بـ “المقاومة المسلحة” ومرتبطة بفيلق القدس. وكتائب حزب الله وحزب الله النجباء سيشكلان نواة ما يعرف بقوى المقاومة.
والنتيجة تنين من رأسين، الأول منظم وتابع للحشد الشعبي والثاني تابع للمقاومة. ويعتمد تنفيذ الخطة على المحادثات الأمريكية- الإيرانية، ولهذا أصدر آية الله خامنئي أمرا للميليشيات في العراق بالتوقف عن استهداف المصالح الأمريكية وعدم منح دونالد ترامب الذريعة قبل مغادرته البيت الأبيض. وزار قاآني بغداد في 23 كانون الأول/ديسمبر والتقى الكاظمي والرئيس برهم صالح وأبلغهما رسالة مفادها ألا علاقة لإيران بالهجمات الأخيرة على مجمع السفارة الأمريكية في بغداد.
وأكد الجنرال عدم نية إيران الرد على مقتل سليماني. ولم تستمر زيارته سوى 24 ساعة وتبعها وفد عراقي إلى طهران. ويعتقد أن الزيارة هذه مرتبطة بمحاولة العراق الحصول على دعم إيراني للتحكم بالجماعات الخارجة عن السيطرة. ولإيران والعراق مصلحة بتنظيم الفصائل المسلحة بسبب الأوضاع المالية التي يمران بها والعقوبات الأمريكية على طهران.