مِثل غالبية الفلسطينيين المهتمين بشأن بلدهم، تابعتُ خبر اعتقال الفنانة سما عبد الهادي على خلفية الحفلة الموسيقية التي أقيمت في مقام النبي موسى، وقرأت عن تاريخ المكان، وعن غاية الحفل، وبيان عائلتها، وبعضاً مما كُتِب بشأن الحادثة، وشاهدتُ الفيديو الذي تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي.
هنالك حقائق يجب ذكرها:
الحفلة لم تكن في المسجد التابع للمقام، وإنما في ساحة من ساحات المقام الذي هو في الأساس مركز ثقافي، سياحي، وديني جرت فيه سابقاً حفلات موسيقية آخرها كان العام الماضي بحضور ممثلي الاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية.
منظمو الاحتفال لم يسقطوا على المكان من السماء وإنما قاموا وفق بيان عائلة عبد الهادي بأخذ الموافقات من جهات رسمية لأن المكان يتبع لوزارة السياحة.
الذين هاجموا الاحتفال وأخرجوا المحتفلين منه ليسوا جهة تابعة لوزارة السياحة، وانما مجموعة من الأشخاص أخذوا على عاتقهم تطبيق قانونهم الخاص بهم وليس قانون السلطة الفلسطينية، وقد هاجموا المكان في اليوم التالي وأحرقوا الأثاث فيه كما يظهره فيدو آخر يتم تداوله.
ما قاله بعض المهاجمين أثناء إخراج المحتفلين من المكان فيه الكثير من التحريض والإساءة التي تستحق الشجب والعقاب.
هل إحراق الأثاث فيه دفاع عن قدسية المكان؟
هل طردُ المحتفلين بهذه الطريقة وحرق الأثاث فيه دفاع عن قدسية المكان الذي ستتحول الأراضي التي تحيطه الى مكان للصرف الصحي للمستوطنين، كما يعلمنا الكاتب الإسرائيلي أمير بن ديفيد في مقاله «خوف وصرف صحي في الضفة»؟
نعرف المدافعين عن «الأخلاق والقيم الدينية» من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
عندما كان البعض منخرطاً في مقاومة الاحتلال في الضفة وغزة كانوا هم منخرطين في التحريض عليهم. نتذكر كيف حملوا الجنازير في الجامعات ليس لمقاومة الاحتلال وانما للاعتداء على من يقاوم الاحتلال من الأساتذة والطلاب.
نتذكر أنهم كانوا يفضلون «الجهاد» في أفغانستان وليس فلسطين، وبعضهم كان وإلى الآن ينتظر قيام الخلافة «الإسلامية» لتحرير فلسطين بدلاً من الانخراط في مقاومة الاحتلال.
لهذه القضية أبعاد أخرى لا تقل أهمية عن الاعتقال الظالم للفنانة عبد الهادي ولا عن قيام «عدد من الأفراد» ليس لهم مسمى أو مسوغ قانوني بالاعتداء على «مجموعة» أخرى تمارس حقها في الغناء.
البعد الأول أن حرية التعبير قد كفلها النظام الأساسي للسلطة الفلسطينية وهو من يحميها وأن هذا الحفل يندرج في هذا الإطار. هذا لا يلغي بالطبع حقوق الآخرين الذين قد يجدون في الحفل انتهاكاً لحقوقهم، لكن عليهم أن يلجؤوا للقضاء في هذه الحالة لا أن يجعلوا من أنفسهم القضاة والشرطة التي تنفذ أحكامهم في نفس الوقت.
البعد الثاني أن الهدف من إنهاء الاحتلال هو استرجاع حرية الإنسان الفلسطيني التي صادرها من خلال سرقته للأرض ومنعه للفلسطينيين من الحركة، ومن خلال إهانتهم وإذلالهم على الحواجز واعتقالهم وقتلهم.
وإذا كان الحصول على الحرية هو جوهر النضال الفلسطيني فكيف لنا أن نبرر الاعتداء على الفنانة عبد الهادي وزملائها وزميلاتها، ناهيك عن الاعتقال الظالم لها.
البعد الثالث أنه لا تقدم للمجتمعات، أي مجتمعات، بدون حرية. الفرق بيننا وبين الغرب يُختصر في كلمة واحدة «الحرية». هذه الكلمة هي الأساس للتبادل السلمي للسلطة لأنها تعني حق تشكيل الأحزاب، حق الصراع على السلطة، حق التعبير، حق الرقابة على السلطة ومحاسبتها وهي أساس الإبداع والاختراع، وهي ما يدفع أفراد المجتمع لتبني الفكر الناقد.
البعد الرابع أن السلطة لا يجب أن تسمح لأي «كيان» آخر بأن ينفذ قوانينه الخاصة به، لأنها إن فعلت فهي تفقد قدرتها على بسط النظام العام.
نحن لسنا غرباء على مجتمعاتنا ونحن نعلم أن هنالك قيوداً ثقافية وقيمية موروثة، لكن هذه القيود يجب ألا تعلو بأي حال على القانون المكتوب الذي ينظم حياة الناس ويحمي حقوقها وينظم عمل العدالة الفلسطينية، وبخلاف ذلك سيكون هنالك الآلاف من ضحايا التخلف وسيسود التخلف.