فتح صاحبة القوة الجماهيرية الأكبر، والمؤسف أن قيادتها لا تحسن تحريك قوتها الجماهيرية. ومع أن خطابها السياسي تطور ونضج حتى نال قبول العالم؛ إلا أن بعض متحدثيها الرسميين، مصرّون على حشرها في الزاوية الحزبية الضيقة.
ومع أن فتح قدمت من الشهداء والجرحى والأسرى ما يكفي لملء دليل هاتف من الحجم الكبير؛ إلا أن بعض المحسوبين عليها يقزمونها عند طموحاتهم الشخصية الصغيرة.
ومع أنها تمثل أنبل ظاهرة عربية (كما وصفها عبد الناصر)؛ إلا أن بعض الحثالات والطحالب نمت على جنباتها، وشوهتها.
ومع أنها وحّدت الشعب الفلسطيني واستوعبت تناقضاته؛ إلا أن البعض يسعى لشقِّها واختطافها لحسابه.
كما ألهمت فتح الجماهير، وحرضتهم على الثورة، فإنها أربكتهم حين وقفت في منتصف الطريق، ونحَّت السلاح جانباً، قبل إنجاز مهمتها الوطنية، وهي التحرر والاستقلال.
ومع أنها أرست الدعائم الموضوعية للدولة الفلسطينية، وتحملت تبعات وأكلاف بناء السلطة الوطنية، إلا أن مثالب السلطة ومساوئ الحُكْم كانت تنعكس عليها سلباً، دون أن تستفيد منها إعلامياً وتنظيمياً، أو في الانتخابات.
«فتح» نفسها، ليست صنماً، لنعبده، ولا هدفاً بحد ذاته.. هي وسيلة للتحرير.. وما زالت الظروف الموضوعية التي استدعت انطلاقتها قائمة؛ فإنها ستظل ضرورة وطنية.
أبناء الحركة هم أكثر من ينتقدها، وهم أشد قسوة عليها من غيرهم حين يجلدونها، ولكنهم أمام الآخرين، يدافعون عنها باستماتة؛ حيث تبرز «قبيلة فتح».
خلافات فتح الداخلية، عادة ما تكون علانية وعلى الملأ، وبالمناسبة، ليست كلها صحية بالضرورة، هنالك صراعات شخصية لا علاقة لها بالوطن.
فتح اليوم لا تشبه فتح الأمس؛ وزمن الفدائيين يختلف عن زمن أوسلو، وفتح في زمن أبو عمّار ليست كما هي في زمن أبو مازن.. وهذا صحيح؛ ففتح اليوم تعاني من الترهل، وغياب القيادة الجماعية، وشخصنة القضايا الوطنية، وضبابية الرؤية السياسية الشاملة، وضعف البرامج الكفاحية، وقد فقدت الكثير من رصيدها النضالي، وباتت تقتات على أمجادها، دون أن تجدد هياكلها وقادتها وأن تطور آليات عملها.
لم يعد لفتح ذات البريق؛ همتها النضالية تخبو، وقدراتها التنظيمية تتآكل، وهياكلها تتكلّس، وقد أخذت تفقد خياراتها تباعاً، وتفقد رصيدها الجماهيري.. وإذا لم تتنبه قيادات وكوادر الحركة لتلك الحقائق، فليس مستبعداً أن تتحول فتح إلى مجرد ذكرى وتاريخ نضالي، في تاريخ الشعب الفلسطيني الطويل والحافل.
في عهد السلطة الوطنية تعمقت أزمة فتح، وتكشّف ضعفها.. أخطاء كثيرة مارستها فتح، وارتكبتها السلطة، ليس بالضرورة أنها مرتبطة بشخص الرئيس، أو أن الرئيس يتحمل مسؤوليتها وحده.. لكن الرئيس أخطأ بتفرده في اتخاذ القرارات، وبعض مواقفه كانت غير مقبولة، أو على الأقل غير مفهومة بالنسبة لعامة الشعب.
على المسار السياسي، تعمقت أزمة فتح بسبب انسداد الأفق السياسي، وفشل خيار المفاوضات، والتي كان من أسباب فشلها: تعنّت إسرائيل، وانحياز أميركا الكامل إلى جانبها، وممارسات المعارضة على جانبي الصراع: أي عمليات حماس التفجيرية من جهة، واليمين الإسرائيلي الرافض لخيار السلام من جهة ثانية..
ثم جاء الانقسام وأضعف الموقف الفلسطيني كله، وجعل القضية تتراجع إلى منزلة غير مسبوقة في تاريخ الصراع.
على الصعيد الإستراتيجي كان الخطأ الأهم الذي ارتكبته القيادة تهميش حركة فتح أولاً، وتحويلها إلى ما يشبه الحزب الحاكم، الذي يضيق بمعارضيه، وتهميش منظمة التحرير ثانياً، حتى أصبحت كأنها تابع للسلطة.. ثم تحويل دور هذه السلطة من كونها مرحلة نضالية (مؤقتة)، اقتضتها الظروف، كان يجب أن تظل في صيغة اشتباك ومقارعة للاحتلال، إلى حالة دائمة، ودور أمني، مهمتها حماية صيغة أوسلو.
على الصعيد الداخلي، أخفقت فتح في تقديم أنموذج محترم لقيادة وإدارة السلطة، رغم كل ما أنجزته، حيث إن الصورة العامة لأداء السلطة لم ترقَ إلى المستوى المأمول، وقد شابها الكثير من السلبيات، والفساد.
في السنوات العشر الأخيرة، ازدادت الأوضاع سوءاً؛ تراجعت مظاهر الديمقراطية، وهبط سقف الحريات كثيراً، حريات التعبير، حريات الصحافة، قمع التظاهرات الشعبية، اعتقالات على خلفيات سياسية، وأخذت السلطة تتعامل بعقلية أمنية تقليدية. حتى الإعلام الرسمي بات أشبه بإعلام الأنظمة العربية.
على الصعيد الاقتصادي قد برز تحالف طبقي من أصحاب رؤوس الأموال لا يسعَى للتصادم مع الاحتلال.. بل إنه تكيف مع الاقتصاد الإسرائيلي ولم يفلح بالتحرر منه.. وهذه الصيغة تسمح ببروز رموز للفساد.
على هامش هذه الطبقة نشأت طبقة «وسطى» قوامها كبار موظفي السلطة، وكبار موظفي المنظمات غير الحكومية، وكبار التجار.. وهذه الطبقة مستكينة إلى استقرار الأوضاع النسبي (أمنياً واقتصادياً)، وفي قلبها طبقة أصغر قوامها الموظفون والمهنيون والنخب المثقفة.. وهاتان الطبقتان تمارسان النضال الوطني بأشكال متفاوتة، باهتة، وليس إلى الحد الذي يؤدي إلى تغيير المشهد السياسي.
تبقى لدينا الطبقات المسحوقة والشعبية، وهي التي ما زالت تخوض النضال الوطني وتقدم التضحيات والشهداء..
هذا كله نتج عن، وتسبب في تراجع الدور الكفاحي للفصائل الوطنية، وفي مقدمتها فتح، وتعميق عزلتها عن بعدها الجماهيري.
وبالرغم من أخطائها، لا أوافق أبداً على تخوين القيادة، ولا على توصيف السلطة بأنها وكيلة للاحتلال.. فهذه توصيفات أيديولوجية، نابعة من خلافات حزبية، ومن أحكام مسبقة، متأثرة بعقلية المؤامرة، ولا يمكن الاعتماد عليها في بناء تحليل علمي موضوعي لفهم المشهد الفلسطيني واستشراف آفاقه المستقبلية.
باختصار، مشكلة فتح أنها لم تعمل على مراجعة تجربتها، ولم تطور أداءها بما يتناسب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة، ولا على تطوير أوضاعها وتجديد هياكلها، وضخ الدماء الشابة في أطرها، وفي حقل الأفكار والسياسات والعلاقات الداخلية، ما أدى إلى تقادمها وتكلّسها.
ومع ذلك، يجب ألا ننسى أنّ السلطة الوطنية أتت نتاج مرحلة طويلة من الكفاح والتضحيات، وهي منجز وطني مهم في مسيرة التحرير والعودة.. قبل توقيع أوسلو قال أبو مازن: «قد تكون السلطة البداية الحقيقية للتحرر من الاحتلال وإقامة الدولة، أو أن تؤدي إلى تأبيد الاحتلال.. وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على أدائنا». وللأسف يبدو أن أداءنا وكأنه يعمل على تأبيد الاحتلال.
من مقدمة كتابي: «فتح من كَسبِ التاريخ، حتى خسارة الانتخابات».