الاندهاشة التي أصابت المجتمعات العربية والتي غمرت وسائل التواصل الاجتماعي لرحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي حكمت أكبر دولة اقتصادية في أوروبا وتسليم مهمتها لوريثتها لها ما يبررها في عالم لازال يعيش حالة التصحر الثقافي والبدائية السياسية، فالمقارنة كانت بعيدة زمنياً كأن الفاصل بين أي زعيم عربي لأفقر دولة وبين تلك المرأة هو لعصور بينها مئات السنوات.
سر الاندهاشة عندما تنفتح العيون على عوالم تبدو كأنها قادمة من كوكب آخر وهذا مصطلح يتم تداوله عندما تتم المقارنة بين تصحر الاختراعات العربية وبين الدول الأخرى التي لم تتوقف عن الابداع والاكتشاف لكل شيء والذي يختزله نظامها السياسي كانعكاس لإيقاع المجتمعات وليس منفصلاً عنها فمن يعتقد أن الأزمة تكمن في القيادة أو في الزعيم العربي وحده فإنه يقدم قراءة سطحية لمجتمعات يتكامل فيها أو تسير فيها كل الأشياء بنفس المستوى ان كان متقدماً أو متخلفاً فالحالة العربية هي أقرب منها للرثاء الحضاري.
بعد نهر الدم الذي تدفق بلا رحمة تحتفل ذاكرة العرب موشحة بالسواد بذكرى عقد على ما أرادوه ربيعاً اذ به يحرق كل الأزهار التي لم تتفتح بعد ليكمل ذاكرة لم تنغلق على صراعات لم تصبها بطالة الحروب على السلطة وتدمير الأوطان في منطقة تعرف كيف تتوضأ بالدم ولا تعرف كيف تصلي جماعة وهكذا يتكثف تاريخنا أو ينكشف في كل محطة سواء هرولة نحو اسرائيل أو أمام عجز تبدى في اكتشاف لقاح انشغلت البشرية باكتشافه وانشغل العرب بالانتظار.
الاندهاشة من ميركل التي حكمت وتغادر مكللة بالنجاح تأت من ذاكرة رسمت مخيلتها العامة صورة للزعيم أو جسدتها صورة الزعيم وبمعزل عن النجاح أو الفشل للدولة واقتصادها أو الرعاية العامة للمواطن لكن الذاكرة المصابة بالصدمة تنبع من عدة مسائل تبدو غريبة على العرب.
الأولى أن المرأة التي تحكم الألمان وتلك الدولة تغادر بكل هدوء وهو ما لم يعهده العربي وريث ثقافة القبيلة التي لا يغادرها الزعيم الا بالموت فليس في ثقافة العرب نهاية للحاكم الا بالسجن أو الموت أو الانقلاب الدامي لكن أن يتنحى بهدوء فهذا لا يصدق في عالم تفاخر أبناؤه عندما يتدخل القدر لإزاحة زعيم بأنهم أفاقوا على الدنيا لم يعرفوا غيره أباً أو قائداً أو شيخاً لعشيرتهم.
الثانية وهي الصدمة التي تتضارب مع مفاهيمهم الدينية التي قطعت روحا ونصا بأن" المرأة ناقصة عقل ودين "وتلك مقولة بات يرددها العامة باعتبارها حقيقة مسلم بها ليجدوا أن المرأة عندما تتاح لها فرصة الحكم إذ بها تنسف كل مقولات القبيلة كاملة الرشد والعقل وأن قدرتها على الادارة تتفوق أحياناً على الرجال فقد أدارت ميركل الدولة الألمانية خلال الثمانية عشر عاماً الماضية بكفاءة نادرة وباقتدار شديد ووضعتها كدولة أصبحت الأولى في أوروبا أما عن الداخل الألماني فالتفاصيل مدعاة لإصابة كل مواطن عربي بسيل من الإحباط.
المسألة الثالثة والتي تبدت في الحياة اليومية للمرأة التي تقود واحدة من أعظم الدول أنها كانت تقوم بأعمالها المنزلية بنفسها بلا خدم ولا حشم توزع العمل بينها وبين زوجها تغسل وتطهو بنفسها هذا كان كفيلاً بأن يصاب أي عربي بالصدمة كيف لزعيم أحد أهم الدول في العالم أن يقوم بأعمال منزلية ولأن عدد الذين يعدون الطعام في بيت أي زعيم عربي ربما يتجاوز عدد موظفي مكتب المستشارية ومساعديها في ادارة هذه الدولة العظمى .
كانت ميركل صدمة نهاية عام لم يختلف عن أعوام كان يسير فيها العالم العربي كعادته على غير هدى فلم يمر العرب بتاريخهم المصبوغ بالدم والمهانة بمثل ما يمرون به الآن من شعور بالدونية تجاه اسرائيل تتبدى في السلوك التطبيعي والذي يعكس سيكولوجية بحاجة الى قراءة من منظور علمي النفس والاجتماع، ليس في العلاقة مع اسرائيل والتي تعكس مجمل ما تم بناؤه في الوطن العربي حد الفقر وما تم هدمه حد التخمة وتلك حقيقة في علاقات الدول التي تقاس بموازين دول تسيدت ودول سادها قادة جعلوا كل ممكناتها في خدمتهم وعائلاتهم، لم تمر الأمة العربية بظرف أسوأ من هذا الذي تضطر أن تضبط ساعتها السياسية على جريمة ارتكبها أحدهم وتجد نفسها تدفع ثمنها مجتمعة من مالها وتراثها وتاريخها ومقدساتها.
سندخل العام الجديد ونحن مجردون من أي شيء ومكشوفون أمام كل شيء وأمام عالم يسابق الزمن في التكنولوجيا والعلم والصحة والاقتصاد ورفاهية الفرد ونحن مازلنا نلاحق مواطن يكتب سطراً في السوشيال ميديا ونضعه في قائمة تهديد الأمن القومي عندما يختل مفهومه، فأمة تصارعت لأكثر من ثلاث سنوات بكل ما تملك من قوة وأربطة خيول ولم تستطيع مصالحتها لا مجلس تعاون ولا جامعة الدول لكن يمكن لصبي أسرار البيت الأبيض أن يصالحها بمجرد زيارة هي أمة تحتاج لإعادة النظر في الكثير من الأشياء.
الكثير الكثير مما يمكن أن يصيبنا بصدمة الراهن التي نرسب فيها مع أية مقارنة ويصيبنا أي مشهد خارج الأوطان العربية بصدمة كأننا في كوكب آخر ليس سوى لأن الزمن قد سار بعيداً ونحن توقفنا عند الرصيف الأول وبينما العالم يصارع العلم والتكنولوجيا ومستجدات العصر لازلنا نصارع على الحكم والسلطة باعتبارها أهم من الشعوب ومستقبلها وأن حياة فرد منا على شكل زعيم جاءت به صدفة الأقدار أهم من الشعب والدولة وماضي الشعوب وحاضرها ومستقبلها وعلى الدولة أن تتجند بكل ثرواتها وشعبها لخدمة هذا الفرد، أنه عصر العشيرة وشيخها وحين نسكن هذا المستوى من الحضاري علينا أن نكف عن المقارنة مع العالم لأن في المقارنة ما يصيبنا بما يدعو للقهر.
لأننا أمة تعيد انتاج شيخها أو شيوخها رغم كل الفشل بل ندبج له الأغاني والمديح ونعادي كل من ينتقده حتى لو انتقده من أجلنا .... هي امرأة وهي في عرفنا وثقافتنا وديننا ناقصة عقل ودين فلنبق مبهورون بثقافتنا ولنترك العالم يمضي ولا نشغل أنفسنا بالمقارنة لأن قناعاتنا شيء وما نريده شيء آخر، سنخطو خطوتنا الأولى نحو التقدم عندما نتوقف عن أن نقول ما لا نفعل لأن الدول التي وصلت ذلك المستوى هي على النقيض من ثقافتنا المتوارثة...!!!