مرّ، أول من أمس، اليوم العالمي للكلمات المتقاطعة، وحياتنا عبارة عن كلمات متقاطعة بشكل أفقي وعمودي ومائل، هكذا قالت المذيعة عبر أثير محطة محلية وهي تذكرنا بهذا اليوم، ولذلك فقد علقت في نفسي بأن من لم يكن من هواة حلّ هذه الكلمات في الصحف اليومية، فعليه أن يحلها على أرض الواقع هذه الأيام، عليه أن يكشف الغموض ويفك الرموز، ويأتي لنا بنتائج وتحليلات لكل ما يدور حولنا من دوامة الأشياء التي لا نعرف لها تفسيرا.
ابتكر "آرثر وين" أول لعبة للكلمات المتقاطعة حيث نشرها في صحيفة نيويورك «ورلد الأميركية» وذلك في 21 كانون الأول العام 1913، وانتشرت بعد ذلك إلى جميع أنحاء العالم، وقد اصبح لها محبوها والمتعلقون بها والذين يبحثون عن الرقعة المرقعة بالأبيض الأسود على كل ورقة جريدة، وقد يقتطعون الورقة ويدسونها في أحد جيوبهم انتظارا لكي يختلوا بأنفسهم، ويبدؤون الحل واعتصار معلوماتهم.
يمكن أن نعبر عن لعبة الكلمات المتقاطعة بأنها لعبة الذات مع الذات، ولعبة اعتصار الذهن ليست هينة، فأنت "تحزر وتفزر" كما يقولون مع نفسك، وربما هي من أوائل تجارب الإنسان مع المحاولة والخطأ مع تقبله، وعدم الاعتراف بالفشل والمداومة على المحاولة، فأنت تخمن كلمة ولا تصلح، أو تكون زائدة أو ناقصة بحرف فتبحث عن كلمة أخرى، رغم أنك تكون قد اخترت كلمة تحمل المعنى، ولكن عدد حروفها غير مناسب، أو عليك أن تغير الفعل إلى اسم فاعل على سبيل المثال.
كلنا مررنا بمحاولة حل الكلمات المتقاطعة في أيام مراهقتنا وحين كبرنا قليلا، وحين كانت الصحف تصل إلى بيوتنا وتتسابق إليها الأيدي، وتتنازع مع إخوتك لكي تحل الرقعة وحدك، ثم تتفقون فيما بينكم على حلها بشكل جماعي، ويبتسم الأب من بعيد ولا يخبركم بسر أنه قد قام بحلها في مكتبه ثم مسح الحروف التي دونها فوق الرقعة بقلم رصاص، وحمل الجريدة بكل براءة إلى البيت.
ربما كانت لعبة الكلمات المتقاطعة كاشفة للمواهب ذات يوم، وكم من شخص كان بطلاً في حلها ويراه الناس غبياً وكسولاً وليس ذا مستقبل، ولكنه أمام المعلومات العامة التي يملكها والتي لا يراها احد فهو يتفوق بذكائه وسرعة بديهته بمراحل على هؤلاء الذين يتذرعون أمام رقعة الكلمات المتقاطعة بأنهم ليسوا من ذوي طول البال، ولا يملكون الوقت الكافي للجلوس متأملين وساهمين، والحقيقة ربما كانوا من هؤلاء الأشخاص التقليديين الذين لا يحتاج عملهم إلى ذكاء وسرعة بديهة.
المعلومات التي تضعها أنت في مربعات الرقعة هي نتاج خبرتك في الحياة من قراءة واطلاع واحتكاك بالآخرين، وسرعة بديهة أيضا، فقد تكتشف انك تحفظ ماركة سيارات معينة، وحين يطرح عليك سؤال من خلال الرقعة فهو يتداعى إلى ذاكرتك.
الأيام الجميلة التي كانت لهذه اللعبة مكانتها تلاشت، ونرى، الآن، الصورة التي فيها موظف يجلس إلى مكتبه ويمسك بهاتفه الذكي ويتنقل بين منصات التواصل الاجتماعي في أحد المشاهد التلفزيونية والسينمائية، فيما كنا نرى الموظف يجلس مع الجريدة ويحزر بكلمة تنتهي بحرف النون وتعنى الموت مثلا، وما أن يدخل عليه زميله ويخبره بأن فلانا قد توفاه الله حتى يتذكر أن المنون تعني الموت، الموت الذي لا مفر منه، ولكن قد تموت فكرة وعادة ولعبة ويموت طقس حياتي ويأتي بدلا من ذلك جيل جديد لا يزيد من حيوية الحياة، بل يحولها إلى حياة جامدة تعج بالكسالى الذين يحملون أجهزة هواتف ذكية.
ليتنا نعود لنحمل رقعة كلمات متقاطعة اقتطعناها من جريدة على طاولة المطبخ وقد تلطخت ببقعة من الزيت، وننفرد بها ونختبر معلوماتنا دون أن نهرع إلى العم "غوغل"، وننشط ذاكرتنا، لعلنا وقتها لا نشكو من النسيان وضعف الذاكرة وبأننا ننسى كثيرا، حتى نسينا أنفسنا.