سأل معاوية بن أبي سفيان ، صحار العبدي: ما البلاغة؟: فأجابه " أن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ" فأنَّبه معاوية: أكذا قلتَ يا صحار؟ : فأجابه " البلاغة أن لا تخطئ ولا تبطئ " فأسقط من كلامه الأول الجزء الذي لا حاجة إليه ؛ والإيجاز على وجه عام هو أفضل هذه الحالات؛ لأنه يقوم على الإيماء والتلميح ويفسح مجالًا لحظ القارئ أو السامع من القدرة على التحصيل العقلي، و تصوير التفاعل الذي يقع في زمان ومكان بين شتى المؤثرات فيترك طابعه على مشاعر القراء ومداركهم، وعلى آثارهم الأدبية.
بين المبنى والمعنى، أو الشكل والجوهر، أو القالب ومضمونه؟ والخلاصة أن الجرس الموسيقى الجميل والايجاز ، شرط ضروري في مفردات الكاتب، الذي استطاع بهذه الطبقات، أن يصور الواقع الفاجع الذي يتوج العبد ويقيد الحر الامين. إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير. وليس هذا بالنقد الذي يستطيع أن يساهم في توجيه الأدب وجهة الأمانة العقلية والصدق في العبارة، وما أحوجنا إلى الأمانة والصدق في كل مظاهر نشاطنا المادية والروحية ! وهما في مجال الروح ألزم. والأدب فيما أرى أقوى عامل في مراجعة القيم وتفنيد باطلها من صحيحها.
وايضا هي دعوة إلى مائدة القراءة ، ليس فقط لكي تزداد المعرفة ، بل لفهم لحظات الحاضر على ضوء أحداث الماضي بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء ، او الإيجاز؛ نسترجع المشهد.. كنت اقرأ اثناء الخدمة العسكرية مذكرات مارشال وبطل وقائد جيوش الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية "جوكوف" توقفت امام جمله استحوذت ومازالت . وفيها من الحكمة والصدق والامانة، تصلح لكل الازمان قال : "كان التعيين اليومي للمقاتل السوفيتي علي الجبهة الغربية ثلاث قطع من السكر يومياً ، وكنت اهوي شرب الشاي مخلوطا بسكر زائد عن المألوف وكان هذا يمثل لي مشكله ، فمن ناحيه لو طلبت ما يزيد عن المفروض والمعين فلا اعتقد انني سأجد رفضا من اي نوع. لكن المقابل كان لا يليق بقائد وجندي حتي لو كان برتبه مارشال!
ومن ناحيه اخري كان شرب الشاي بدون سكر كاف لا يمنحني الرضا بالذات ان كل من حولي يعرف تعلقي بالقدح الساخن المغمور في السكر؛ وتفتق ذهني عن حل نفذته وكان مريحا لي كنت اصب الشاي في القدح لا اخلطه بالسكر لكني كنت اضع قطعه السكر تحت لساني واحافظ عليها الا تذوب بسرعه وانا اشرب الشاي ..) القيادة قدوه ، ومهداه لكل مسئول ، في اي موقع يتخيل انه فوق البشر بوظيفه مؤقته سوف يتركها تطاول الزمن او قصر ؛ ولن يترك خلفه الا سمعته ونظافة يده وعظمة قراراته.
طبعا هذا المارشال , كان يحكم بلا معقب ويقود ملايين وميزانيه حروبه مليارات , ومع هذا لم يجرؤ ( ولا سولت له نفسه وهو الآمر الناهي ان يسطوا علي قطعه سكر) لهذا حققوا نصرا علي انفسهم اولا ثم علي العدو والاعداء.
وايضا للعبرة وللتاريخ ,في عهد العبودية كان الإقطاعي يختار أحد العبيد ليشرف عليهم و ينظمهم في العمل و يعطيه بعض السلطات في العقاب و السيطرة عليهم، و كان رئيس العبيد هذا / أو المشرف عليهم يتحول بعد قليل إلى شخص قاسي جدا على زملاءه العبيد! بل أكثر قسوة من سيده .. و أكثر وحشية في تعذيبهم .. و استغلال سلطاته ! و من ناحية أخرى يتحول إلى عبد ذليل و كلب مطيع امام سيده و ولي نعمته؟! وفي هذه الحالة يتحول فيها المشرف إلى كلب متوحش يعض إخوته ؛ و كل أمله في الحياة و رجاءه هو رضا سيده ! هذه الحالة أصابت العديد ممن عمل خادما لدى أسياده المستعمرين ، أو الديكتاتوريات، فيكون أقسى على بني بلده من الاستعمار نفسه ..و من الديكتاتور نفسه؛ هذه الحالة لا نعرف تفسير علمي لها ! بل إنها تصيب اليوم بعض المسؤولين ،و يؤذي إخوته.. و يفتري عليهم ..أكثر من سيده... طمعا في رضا سيده! أو أسياده!.. حقا ..حالة عجيبة، لكنها واقع ؛ وصفه الكثير من الكتب والادباء في الروايات والقصص والأفلام.
انها صفحات من كتاب نضعها تحت بصر القارئ الذي لا يملك عادةً من الوقت ، ما يستطيع معه أن يستخرج من النص كلَّ ما فيه. من العبارة الفنية او موقف إنساني، وعبارة موحية ، وهذا هو الأدب؛ إذ فيه عناصره الثلاثة: عبارة فنية. موقف إنساني. و قوة إيحاء، وقد اتحدت تلك العناصر في وحدة متينة هي وحدة الفن . أنه تعبير فني عن تجارب بشرية. و صياغة لموقف إنساني. ولنا لقاء اخر .