دورُ منظماتِ حقوقِ الانسانِ في تعزيزِ الديمقراطية وحمايةِ الحقوقِ والحريات..
المحامي والباحث صلاح عبد العاطي
رئيس مجلس إدارة الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني(حشد)
مقدمة: (تعريف ومكونات ومعايير المجتمع المدني):
لايزال المجتمع المدني الفلسطيني ملتبس الهوية في غياب الدولة الوطنية وفشل السلطة في التحول لدولة وفي سياق بيئة تتسم بالانقسام السياسي والتفسخ الاجتماعي،
وتنتظم تحت مكونات المجتمع المدني في فلسطين القوى والأحزاب السياسية والمنظمات الأهلية والتي تصنف حسب طبيعتها إلى الجمعيات الخيرية والتعاونية، المنظمات الجماهيرية، المؤسسات والمنظمات التنموية، المراكز ومؤسسات البحث والإعلام وحقوق الإنسان، مؤسسات وهيئات الدفاع عن حقوق ومصالح فئات محددة.
والأصل أن يلتزم المجتمع المدني في وجوده ونشاطه بقيم ومعايير حقوق الانسان والاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف، وما يتطلبه ذلك من قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين وهي نفس القيم والمعايير التي تقوم عليها الديمقراطية كصيغة لإدارة الصراع في المجتمع بوسائل سلمية وباعتبارها أيضًا أسلوب حياة يشمل كافة مجالات المجتمع.
في هذا الإطار هناك حاجة لثقافة مدينة ديمقراطية، فالثقافة الديمقراطية تلغي الانقسامات ومركزية القرار وأحادية الفكر، وعليه فإن عملية الإصلاح تتطلب إصلاح منظمات المجتمع المدني ذاتها كي تتمكن من إصلاح النظام السياسي والتخلص من أزماته وانقسامه؛ كما أن هذه القيم ضرورية لموجة ظاهرة التعصب والتطرف فضلاً عن إبداع بدائل حل المشكلات الناجمة عنها، والمفاضلة بينها، أما مهارات المشاركة فتمكن المواطن من التأثير في قرارات السياسة العامة ومساءلة ممثليه في المجالس والهيئات المنتخبة.
أولاً: دورُ المنظماتِ غير الحُكومية في فلسطين
تؤكد الحالة الفلسطينية أن المنظمات الأهلية تاريخياً هي التي أسست ورفدت الحركة الوطنية الفلسطينية، تاريخياً لو نظرنا إلى أول بروز للحركة الوطنية الفلسطينية كانت في إطار الجمعيات المسيحية الإسلامية في عام 1918، وهي منظمة أهلية، هذه الجمعيات منها انبثقت الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ كانت هي الأساس حتى أيام الثورة، ومنظمة التحرير، اتحاد الطلاب، اتحاد المعلمين، اتحاد المرأة، حيث كانت قاعدة المشروع الوطني الفلسطيني، لو رجعنا تاريخياً نجد بالفعل صوت المنظمات الأهلية مسموعاً بشكل قوي جداً في داخل المجتمع العربي والدولي.
وعلى مدار تاريخها المعاصر والحديث لعبت المنظمات الأهلية الفلسطينية، أدوارًا مختلفة ومتباينة انسجمت مع الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية التي مر بها المجتمع الفلسطيني، ابتداءً بفترة السيطرة العثمانية على مقدرات البلاد، ومروراً بالاستعمار البريطاني والصهيوني، وكذلك بفترة التواجد الأردني والمصري في الضفة الغربية وقطاع غزة، مرورًا بالاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين عام 1967، حيث لعبت المنظمات الأهلية الفلسطينية دورًا أساسيًا في تعزيز صمود المواطن الفلسطيني في مواجهة سياسات المحتل من خلال خدماتها الإغاثية والحقوقية، وفي المقابل عانت هذه المنظمات من القيود والعراقيل التي أوجدها الاحتلال للحد من وجودها ونشاطها المقاوم إلا أنها استطاعت وبكثير من الجهود القيام برسالتها في تعزيز الصمود وفضح ممارسات المحتل وانتهاكاته اليومية لحقوق الشعب الفلسطيني كما نجحت في القيام بأدوارٍ مهمةٍ في الاستجابة لاحتياجات المواطنين في معظم المجالات الإنسانية والاجتماعية في فلسطين.
وبعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994 تضاعف عدد المنظمات الأهلية الفلسطينية وتنوعت أدوارها وأهدافها وأخضعت للمرة الأولى للرقابة الفلسطينية الرسمية بموجب القوانين الفلسطينية، فقد كفل القانون الأساسي الفلسطيني المعدل للعام 2003 حق كل مواطن في تشكيل الجمعيات والنقابات والاتحادات والروابط والأندية وحرية الانضمام إليها، انطلاقا من أن حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام وأنه يقع على عاتق السلطة الفلسطينية واجب العمل على الانضمام إلى المواثيق والإعلانات الدولية التي تحمي حقوق الإنسان ومنها الحق في تكوين الجمعيات ، في العام 2000 صدر قانون الجمعيات والهيئات الأهلية الفلسطيني لسنة2000، كأول قانون فلسطيني ينظم إنشاء وتسجيل ومتابعة عمل المنظمات الأهلية، وحدد وزارة الداخلية بالجهة المسئولة عن تسجيل الجمعيات بما ينسجم ويتفق مع القانون.
وقد جاء ذلك مُنسجمًا مع ما أقرته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أكد على حق الأشخاص في الاشتراك والانضمام إلى الجمعيات السلمية الأهلية بحرية ودون قيود غير القيود والتدابير الضرورية لحماية النظام العام وحماية حقوق وحريات الآخرين.
ويمكن القول بأن قيام السلطة الوطنية عام 1994 قد دشّن مرحلة جديدة في عمل المنظمات الأهلية حيث وصل عددها حتى نهاية عام 2011 ، (2600) جمعية أهلية تعمل في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وتنشط في المجالات كافة ، الأمر الذي يؤكد أهمية الدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية في فلسطين ، والتي أدّت أدوارًا مهمةً في الإسهام في تنمية وبناء الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الانسان وحمايتها في موجه تعسف السلطة وفسادها، وخاصة الفئات الضعيفة والمهمشة وضمان مصالحهم وحقوقهم، إضافة الي رفع مستوى الوعي العام لدي المواطنين من خلال التعليم والتدريب والنشر والإعلام وإعداد الدراسات والأبحاث وتجميع المعلومات المتعلقة بأوضاع الفلسطينيين، محلياً وإقليمياً ودولياً ووضعها في متناول الجهات الفلسطينية والعربية والدولية المعنية والجمهور، حيث ساهمت منظمات حقوق الانسان في فضح انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي والتأثير بالرأي العام الإقليمي والدولي لنصرة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
كما أدّت المنظمات الأهلية دورًا كبيرًا في صياغة القوانين والتشريعات والأنظمة والإجراءات والسياسات العامة من خلال حملات المناصرة والتعبئة والضغط والتأثير بالسياسات العامة وتعزيز مشاركة الفئات الاجتماعية في الشؤون العامة وتقوية حكم القانون ونشر الوعي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى جانب الضغط لوقف انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الانقسام السياسي، إضافة إلى تلبية احتياجات المجتمع المحلي من خلال تقديم الخدمات المختلفة للمجتمع الفلسطيني، وخاصة في قطاعات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والزراعة وتنمية المصادر البشرية والمرأة …الخ. إلى جانب التركيز على الأنشطة ذات الطابع الإغاثي قامت منظمات المجتمع المدني الفاعلة بالتركيز على أنشطة المدافعة والضغط من أجل المصالحة، الدفاع عن الحريات، رصد الانتهاكات الأمر الذي أدخل المنظمات الأهلية في حالة اشتباك مع الحكومتين وقد تراوحت تدخلات المجتمع المدني بين التنسيق والتعاون تارة، والانتقاد وتقديم البدائل تارة أخرى، ومن جهة ثالثة حول متابعة قضايا المواطنين وحقوقهم والمشاركة في رسم السياسات والضغط تجاه القضايا المطلبية للناس.
وإن كان مرجع بعض المنظمات ودورها في الفضاء السياسي مرده التعاطف أو بالتبعية لأحد أطراف السياسة المحلية أو الانتماء إليها، بعض هذه المنظمات خلاق ومهني وديناميكي وبعضها غير فاعل، والواقع إن ظاهرة المنظمات الأهلية ككل تثير الجدل على الصعيد المحلي حيث يحمل المجتمع المحلي موقفًا سلبيًا تجاه العديد منها نظراً لارتباطها بالتمويل من الحكومات والمنظمات الأهلية الغربية. وقد أظهرت التجربة أن بعضها اختفى وقلص خدماته عندما رفع عنه التمويل.
وقد وجهت انتقادات شديدة ومتعددة إلى هذا النمط من التنمية والذي يتكون من شبكات من المشاريع الانفرادية القائمة بين المنظمات الأهلية والمدنية الفلسطينية والغربية بدون وجود خطة أو أطار عمل شامل والذي بدوره يتيح للأجانب السيطرة على التنمية والسياسة، إلى جانب كون ذلك يؤدي إلى إهدار الموارد وازدواجية المشاريع وتدني مستوى الخدمات وعدم القدرة على الاستمرارية ويجعل مصير بعض المنظمات الفلسطينية الأهلية مرهوناً بخيارات المانحين الغربيين، الأمر الذي يجعل تلك المنظمات عرضة للتأثر الشديد بالمتغيرات السياسية الخارجية، مما أدى إلى وجود حاجة ماسة إلى معالجة مسألة الاستمرارية بشكل مباشر وواقعي على قاعدة الشراكة والتشبيك عبر إيجاد أشكال تنسيق وتكامل محلي ودولي تهدف إلى تجنب الازدواجية والهدر وضمان الاستمرارية من خلال عقد اتفاقات طويلة الأمد ومراقبتها وتقييمها مما يخفف من مشاكل الفساد ويضمن المحاسبة والشفافية، فوجود مجموعة من الخطوط العامة المتماسكة والمهنية يساعد على تقوية وتمكين المنظمات الأهلية الفلسطينية وبالمقابل استمرار الممارسات الفالتة من أي محاسبة سيؤدي إلى مواصلة عملية شرذمة وأضعاف قطاع العمل الأهلي.
وللإنصاف نجحت مؤسسات العمل المدني الفلسطيني في عدد من المهام التي توجب عليها القيام بها، وأخفقت في جوانب أخرى، على أن المثير في الأمر، وفي الجوانب الميدانية والعملية، أن هناك عددًا كبيرًا من مؤسسات العمل المدني في المجتمع الفلسطيني تتسم بقصور النظر وغياب التخطيط والمشاركة الاستراتيجية في تنمية، وتطوير، وتغيير المجتمع الفلسطيني، وبالتالي غابت أو هي بلا دور على الإطلاق.
وفي المقابل هناك منظمات مجتمع مدني تدرك بأنها لا يمكن إنجاز مرحلة التحرر الوطني بدون تحقيق الديمقراطية واستعادة الوحدة الوطنية، فمن الصعوبة بمكان تحقيق التنمية والتحول الديمقراطي في ظل حالة الانقسام السياسي، كما أنه لا يمكن ضمان استعادة عافية المجتمع ووحدة نسيجه بدون ديمقراطية النظام الساسي القائم على أسس ومرتكزات سيادة القانون والعدالة والحرية وحقوق الإنسان، بالتالي كان على المنظمات الأهلية أن تعمل لتحقيق القضايا المطلبية للناس دون إغفال الجانب النضالي السياسي، المعركة من أجل الاستقلال ومن أجل الديمقراطية ومن أجل تحقيق غايات التنمية الإنسانية هي معركة سياسية بالمقام الأول، وأن أعمال الإغاثة الخيرية والاكتفاء بتقديم الخدمات والعزوف عن السياسة من شأنه أن يفاقم أزمة المجتمع المدني ويضعف دوره ويمّكن سلطتي رام الله وغزة من الزحف المنظم لاحتلال القضاء العام وتقليص مساحة الفعل السياسي والاجتماعي أمام الآخرين، لذا وجدنا أنه كلما ارتفعت الفعالية السياسية للمجتمع المدني خفت حدة الملاحقة الأمنية ومحاولات تضييق الخناق على الحريات.
لذا لم يكن ذلك غريباً ،القيام بهذا الجهد حيث تضررت قطاعات واسعة من حالة الانقسام وما تركه من تداعيات كارثية لذا من أجل الدفاع عن مصالحها مارست بعض المؤسسات الفاعلة جهدًا شعبيًا وضغطًا سلميًا وإعلاميًا باتجاه التأثير على صناع القرار لدى قيادات فتح وحماس ، من أجل المساهمة في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، رغم أن بعض المؤسسات تعرضت إلى محاولات الاحتواء و القمع والاقصاء، إلا أن بعضها أدّت دوراً فاعلاً باتجاه حماية الحريات العامة ، وتعزيز الوحدة الوطنية ، وقد تمثل ذلك من خلال العديد من المبادرات الشعبية والمؤسساتية،
وإن ظلت معظم الفعاليات والمبادرات النسوية والشبابية والمؤسساتية محدودة ومحصورة لأسباب تعود لضعف القائمين عليها ، أو لانحياز بعضها ، أو لغياب رؤية شاملة فيها ، أو لأسباب خارجي، وبالتالي لم يكن لها أثر كبير ولعل إبراز هذه الفعاليات الحراك الشبابي والشعبي في يوم 15/ آذار والذي تعرض إلى تحدي القمعِ من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لحكومتي رام الله وغزة ، إضافة إلى محاولات الاحتواء من قبل طرفي الانقسام وبعض القوي السياسية بقي عامل ثالث مقرر في عدم استكمال الحراك تمثلَ في بروز أمراض الزعامة المبكرة لدى القيادات الشابة المشرفة على الحرك.
وإذا ما أضفنا لذلك التحديات التي توجه، ووجهت منظمات المجتمع المدني يمكننا القول بأن مسيرة تلك الفعاليات والمبادرات قد حجمت وتراجعت وانحسرت في نطاق محدود، مع أن الواقع يقول بأنن صوت وحرك الشباب إلى جانب الفعاليات التي نظمتها المؤسسات الأهلية قد أدّت دوراً باستجابة القيادات السياسية للتوقيع على اتفاق القاهرة.
ومن الإنصاف أيضا القول أن بعض المنظمات الأهلية والمستقلين قد عرفت بعض المحاولات الإيجابية والجادة لاستعادة الوحدة إلا أن هذه العملية لم تأخذ حقها بعد لتشمل ظهور قدرتها على تنظيم ائتلافات "إفراد ومؤسسات وجماعات " ، فالحصاد لا يزال محدوداً كون بعض المبادرات كان مرجعتيها الترقيع، أو التسليم بالواقع قبول إدارة الانقسام بدل إنهاء الانقسام، هذا ربما يتطلب طاقات أكبر واندفاع أشد في اتجاه القواعد الشبابية والفئات الاجتماعية واستراتيجيات أكثر وضوحًا في الارتباط بالحركات الاجتماعية، وبرامج وخطط عمل تحول هذه الاستراتيجيات إلي أعمال ملموسة في مجال انهاء الانقسام .
يبدو جليا للمتابعين للحالة الفلسطينية، أن مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني قد نجحت في عدد من المهام التي توجب عليها القيام بها، وأخفقت في جوانب أخرى، على أن المثير في الأمر، وفي الجوانب الميدانية والعملية، أن هناك عددًا كبيرًا من مؤسسات العمل المدني في المجتمع الفلسطيني تتسم بقصور النظر وغياب التخطيط والمشاركة الاستراتيجية في تنمية، وتطوير، وتغيير المجتمع الفلسطيني، وبالتالي غابت أو هي بلا دور على الإطلاق، كما أن هناك عدم فهم واضح لدى الكثير من القائمين على هذه المؤسسات لماهية الدور التي يجب عليها القيام به، أما الأمر الأكثر مرارة فهو غياب التفاعل الايجابي أو حتى السلبي، ما بين هذه المؤسسات والمؤسسات المجتمعية الأخرى، وبينها وبين السلطات القائمة، وبالتالي غياب الدور المؤثر نتيجة لفقدان عملية الاتصال والتواصل وتبادل المعلومات، والحوار والتكامل في العلاقات، هنا يكمن الدور الصعب لمنظمات المجتمع المدني التي يجب أن تؤسس لدور طليعي بالمعنى السياسي والاجتماعي، يسهم في إعادة صياغة مشروع وطني وخطاب سياسي وثقافي واجتماعي وطني وإنساني، وتطوير الأداء الديمقراطي لمؤسسات النظام السياسي وحماية الحقوق والحريات ، فمؤسسات المجتمع المدني استطاعت وتستطيع من تجارب مختلف المجتمعات، أن تؤدي دور الحسم في الكثير من القضايا الوطنية المحورية والمفصلية في المجتمع الذي تعيش فيه، وهي بذلك إما أن تكون أداة تدعم وتعزز مفاهيم الحرية والوحدة والتسامح والديمقراطية، والحقوق الأساسية، أو أن تؤدي الدور العكسي.
ثانياً: دورُ المنظماتِ الحقوقية في تعزيز الديمقراطية وحماية الحريات
إن غاية الدفاع عن حقوق الإنسان من أنبل الغايات الإنسانية ، فما أعظم أن يدافع الإنسان عن حقوقه وحقوق أخيه، فهي محور اهتمام كل مهموم بقضايا احترام وصيانة حقوق الإنسان ، وليست تلك المهمة قاصرة على هيئات أو مؤسسات بعينها ، فلقد آلت الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على نفسها إلا تدخر جهدا ً للمشاركة بكل إمكانياتها في الدفاع عن حقوق الإنسان واحترام الحريات، والحديث عن دور هذه المنظمات في حماية حقوق الإنسان يقتضي منا التعرض لتعريف تلك المنظمات المحلية منها والدولية ، والتمييز بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية ، مع ذكر بعض المنظمات غير الحكومية في فلسطين ، ثم نتعرض لدور هذه المنظمات في حماية حقوق الإنسان.
كما أن دور المنظمات الحقوقية في تعزيز احترام حقوق الإنسان وحمايتها دور لا ينكره أحد ، فتستطيع تلك المنظمات من خلال اتصالها بالواقع الاجتماعي أن ترصد حقيقة الوضع في المجتمع من خلال ما تقوم به من دراسات وأبحاث وزيادات ميدانية وندوات وورش عمل بالاشتراك مع بعضها البعض أو مع المؤسسات الحكومية والوزارات المعنية، من خلال المداخلات التي تقوم بها لدى السلطات المعنية ولدى الرأي العام المحلي والدولي بهدف وضع حد لهذه الانتهاكات، فهي تقوم بدور المراقب الحارس الغيور علي حقوق المجتمع وأفراده من تصرفات جائرة ، وهي تبذل كل جهد للدفاع عن كل فرد في المجتمع وفق حقوقه المعترف بها، هذا إضافة إلي مساهمتها في النضال من أجل تعزيز الديمقراطية في المجتمع و توسيع دائرة الحقوق المحمية وتعريفها بدقة ، ومن أجل وضع الآليات القانونية لضمانها على أرض الواقع ورفع مستوي وعي المجتمع بها .
وهناك العديد من الأدوار التي قامت بها المؤسسات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني في سعيها لتحقيق أهدافها وغاياتها؛ ويمكن رصد أهم آليات عمل المنظمات الحقوقية للدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز الديمقراطية من خلال: تقديم المساعدة والخدمات القانونية في القضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية؛ رصد وتوثيق الانتهاكات وإصدار التقارير والدراسات والبيانات لكشف الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون سواء من طرف الاحتلال الإسرائيلي أو من طرف السلطات في الأراضي الفلسطينية ؛تكوين شبكات من المتطوعين والمهتمين والنشطاء لدفع العمل الأهلي والتطوعي في مجال حماية الحريات وحقوق الإنسان؛ تنظيم دورات وأنشطة توعية وتدريب من أجل تنمية وعي المواطنين بالديمقراطية وبالحقوق المتعلقة بقضاياهم؛ إسناد دور الحكومة في تطبيق سيادة القانون وتقديم الخدمات المختلفة والقيام بالدفاع عن مصالح وحقوق المواطنين؛ ممارسة الضغط والتعبئة والتأثير على مؤسسات النظام السياسي لضمان حماية حقوق الإنسان، وذلك من خلال تشكيل ائتلافات هدفها التأثير في التشريعات والسياسات العامة، وتعبئة وإدارة الموارد التي تعزز سيادة القانون من خلال ممارسة الضغط على المجلس التشريعي لضمان تشريعات تنسجم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان أو من خلال الضغط على الحكومة لضمان احترام الحريات العامة.
ثالثاً: العلاقة بين المنظمات الحقوقية والاهلية والسلطة
إن اضطلاع المنظمات الحقوقية بمهمة الدفاع عن حقوق الإنسان يحتم وجود علاقة متواصلة بينها وبين السلطات أو الحكومات في بلدانها التي تعتبر المسئول المباشر عن انتهاكات حقوق الإنسان، وغالباً ما تجد نفسها في صراع مع بلدانها علي خلفية هذه الانتهاكات ومعالجتها، فالعلاقة بين الحكومات وبين المنظمات غير الحكومية فيما يتعلق بحقوق الإنسان ، هي علاقة يشوبها التوتر ، لأن المنظمات غير الحكومية تقف بالمرصاد لتصرفات الحكومة وموظفيها، منتقدة ومحتجة أحياناً وفاضحة للانتهاكات لإثارة الرأي العام المحلي والدولي ، وبالتالي فالصراع الأساسي ما بين الحكومة والمنظمة غير الحكومية ، هو صراع بين المبدأ والمصلحة ، وصراع بين رؤية منظمة حقوق الإنسان للقانون كجهاز للحماية وبين رؤية الدولة لهذا القانون كأداة للسلطة وبسط النفوذ؛ وإجمالا تتراوح طبيعة علاقة مؤسسات المجتمع المدني بالسلطة في صور ثلاث نعرضها سريعًا:
علاقة تنافس، وهذه قد تنتج عن خلاف سياسي، أو عن اختلاف في الرؤية المجتمعية والسياسية والاقتصادية، أو نتيجة تنافس على مصادر التمويل، أو تنافس في الممارسة السياسية.
علاقات تكامل وشراكة، وهذا هو الوضع الطبيعي، ذلك أن هذه المؤسسات تقوم بالأدوار التي لا تستطيع الدولة القيام بها، أو تقوم بأنشطة مكملة لنشاطات الدولة.
علاقة استبدال، وفي هذه الحالة تحكم هذه العلاقة الفجوات الكبيرة والاختلاف في وجهات النظر.
في فلسطين فقد تراوحت علاقة مؤسسات حقوق الانسان والمجتمع المدني مع ( سلطتي الانقسام ) بين ثلاثة أنواع من العلاقات الأولى علاقة التنافس، وهذا راجع لطبيعة الانقسام الذي نجم عنه خلاف و صراع سياسي، واختلاف في الرؤية المجتمعية والاقتصادية بين مؤسسات المجتمع المدني التي تميل لفتح أو حماس، تبعه قيام كلا السلطتين في غزة ورام الله بمحاولة اقصاء واستبدال تلك المؤسسات وهذا ما جرى في الضفة وغزة من قبل كلتا السلطتين في محاولة إلى احتواء واقصاء مؤسسات الطرف الاخر، وبالتالي غابت إلى حد بعيد العلاقة المفترضة بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني والتي تقوم على التكامل والشراكة .
خمسة مشاهد في "أزمة العلاقة بين المجتمع المدني والسلطة
المشهد الأول: الحيرة: ماذا يحدث فى المجتمع ومن حولنا؟، وكيف نفهم هذه التغيرات المتلاحقة؟، وما موقعنا منها؟ فهناك نوع من الحيرة لدى مؤسسات المجتمع المدني الذى يجد العالم والمنطقة تتغير بمعدلات كبيرة ومتسارعة ونحن "محلك سر"، ونتغير بمعدلات أبطأ كما ونوعا، ونعتمد أكثر وأكثر على الخبرات والتمويل الخارجي، ونرفضها لكننا نعيش بها، ولا نستطيع أن نقدم البديل المناسب معنا ومع بيئتنا وثقافتا، ويصاحب هذه الحيرة سلوكيات شائعة تتسم بالقلق والأخذ بالأحوط .
المشهد الثاني: العزلة: ربما يلاحظ القارئ أن المشهد الأول مليء بالتساؤلات، تعبير عن الحيرة والارتباك، ويأتي المشهد الثاني تاليا أو حتى مصاحبا لمشهد الحيرة، والعزلة التي تجنح إليها بعض مؤسسات المجتمع المدني، أما بسبب الحيرة أو نظرا لغياب قنوات التعبير وتزايد الانتهاكات ، فيضعف الحافز نحو المشاركة في عملية التنمية، ويبحث عن أطر بديلة.
المشهد الثالث: الانقسام: يؤدى استمرار العزلة إلى ترسيخ الانقسام، سواء بين النخبة والمجتمع، أو بين منظمات المجتمع المدني والسياسة. وقد يعمد النظام السياسي والنخبة الحاكمة الى إبعاد الآخرين عن المشاركة في السلطة، إلا أن ثقافة الانقسام قد تتطور بشكل غير متوقع وتكون في غير صالح النظام القائم ذاته، وتبدو تجليات مشهد الانقسام في زيادة حدة الاستقطاب وتعدد مجالاته بين المؤسسات الاهلية نفسها، ( والانقسام بين جمعيات دينية ومدنية ، وشرعية وغير شرعية ، تيار تفاءل وتيار تشاءم ، فتح أو حماس أو يسار الخ.. )
المشهد الرابع: الصراع: عندما تتغير أوزان التيارات المنقسمة وتتوفر عوامل مهيئة ومحفزة، يتحول الانقسام إلى صراع، وقد يكون الصراع داخليا (بين المؤسسات والنخبة، المهم كيف نتعامل معه؟ ولعل التجسيد الأكثر انتشارا للصراعات يتعلق بنظرتنا تجاه العلاقة بين السلطة والمواطنين، حين تكرس النخبة الحاكمة وتفرض رؤيتها ورأيها بالقوة (بدعوى "فساد الجمعيات او تبعتها للخارج الخ.
المشهد الخامس: التحفز والقابلية للانفلات :هل يبدو المجتمع المدني وكأنه أصبح قابلا للاشتعال ؟، وهل نشهد نقطة تحول جيلي في منظومة السياسة والحكم أم نعيش مخاض مرحلة إصلاحية سلمية يدخل فيها المجتمع المدني كفاعل وشريك في عملية التجديد السياسي؟ والواقع أن النخب التقليدية السياسية والمجتمعية قد عمرّت طويلا ، وبالتالي ظهر جيل أو أكثر قليلا من المؤسسات الشابة والشباب الذى لم يتم استيعابه، وقد يصبح أقرب إلى الانفلات بالمعنى السلوكي، وربما السياسي أيضا، فالحكومات تحذر من القفز نحو مجهول، بينما تبدو تشكيلات الجديدة وخاصة من الشباب متحفزه للقفز، كوتهم يطرحون وسائل أكثر جرأة وسلوكا أكثر فتوّة من النخب الحاكمة، لاسيما أن هذه القيادات الشابة المعارضة تتعاطى مع اختلالات موضوعية في أداء السلطة في الشأن الوطني وفي أداء الحكم وفي مقومات الحياة وتوفيرها .
رابعاً: التحدياتُ التي تعيق عملَ المجتمع المدني:
يمكننا التعاطي مع هذه التحديات من زاويتين الأولى تتعلق بالتحديات الذاتية فيما الزاوية الأخرى تتعلق بالتحديات الموضوعية ، التي يقف على راسها التحديات التالية :
استمرار الاحتلال الإسرائيلي ممارساته وجرائمه بحق المواطنين والمؤسسات، إضافة إلى دور الاحتلال في تعميق واستمرار الانقسام ، وهذا بدوره أدى إلى تركيز دور منظمات المجتمع المدني على الاهتمام بالقضايا الوطنية العامة المتعلقة بممارسات الاحتلال وبهموم جميع المواطنين، والتي يمكن تحقيق تعبئة سريعة بنداء عام حولها، والتي يمكن أن ترفع عن نشطاء المنظمات الحقوقية والأهلية والشبابية الحرج في عجزهم عن التصدي للقضايا المباشرة والمرتبطة بالانتهاكات الداخلية لحقوق الإنسان والعجز عن تبني مبادرات الناس باعتبارهم أصحاب المصلحة وحشد قواهم من خلال تعزيز العمل الطوعي اليومي التراكمي والدؤوب والبسيط، والذي قد يتعلق أحياناً بمطالب صغيرة محدودة.
لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تؤدي وظائفها المهمة ولا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا توفرت لها أجواء من الحرية في إدارة نشاطاتها والرقابة عليها بما يضمن تعزيز الشفافية والمسائلة داخلها، إن في إطار تأسيسها أو في إطار إدارتها، خاصة وأن حرية الهيئات الأهلية من الحريات الأساسية التي ترعاها المواثيق الدولية والقانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية وينظم إطارها العام قانون الجمعيات الفلسطيني سابق الذكر، والمبدأ القانوني الأساسي الذي ترتكز عليه حرية الهيئات الأهلية في القانون الفلسطيني هو التأسيس دون الحاجة إلى ترخيص من جهة الإدارة، ومن هذا المنطلق نص المشرع الفلسطيني في المادة الأولى من قانون الجمعيات؛ إضافة إلى أن القانون قد قصر الرقابة الرسمية في عمل الهيئات الأهلية على الرقابة اللاحقة وليس المسبقة فالعمل بمبدأ الرقابة اللاحقة للإدارة وليس الرقابة المسبقة هو من المبادئ الأساسية التي استقر عليها الفقه والاجتهاد لتوفر حسن احترام حرية الجمعيات ، وعزز من مسائلة السلطة التنفيذية أمام القضاء فيما يتعلق بالهيئات الأهلية.
إن العلاقة بين الديموقراطية القائمة على أساس التمثيل والأخرى القائمة على أساس المشاركة، تسفر عن مشاكل عملية وحالات من التوتر، فبعض السياسيين المنتخبين لا يشعرون بالارتياح حيال الإدارة (أو الحكم) القائمة على المشاركة ذلك أنهم يعتبرون أنفسهم وحدهم دون غيرهم هم أصحاب القرار الشرعيين، ولأن انتخابهم تمَّ من قبل المواطنين وعن طريق الاقتراع الديموقراطي، فإنهم يرون أن مثل هذه العمليات التشاركية تجرّدهم من حق اتخاذ القرار والسيطرة.
يتمثل التحدي الآخر في العلاقة بين المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية فالكثير من تنظيمات المجتمع المدني لا تثق بالمؤسسات الحكومية، الأمر الذي يؤدي إلى طرح أسئلة بشأن ما إذا كان هذان المجالان مكملين لبعضهما أم أنهما في حالة تنافس مما يثير قضايا أخرى.. فهل يتم ضمان تحقيق الشمول بصورة أفضل إذا ما تم اختيار تنظيمات المجتمع المدني النابضة بالحيوية للمشاركة في عمليات أجهزة الحكم ؟ أو أن المشاركة في الحكم تعني ببساطة أن تنظيمات المجتمع المدني وقادتها سيتعرّضون للمضايقات من قبل الموظفين البيروقراطيين؟ هل يطبق الشمول على أفضل وجه من قبل مجموعات الضغط المعارضة في المجتمع المدني والتي لا تقع على عاتقها مسؤولية التنفيذ فيمكنها بالتالي محاسبة أجهزة الحكم دون وجل أو تحيز؟ أما الردود على هذه الأسئلة فليست مباشرة، فمن المؤكد فعلاً أن مجموعات المجتمع المدني ضرورية للقيام بأدوار من قبيل دور "كلب الحراسة" وذلك للتدقيق فيما تقوم به أجهزة الحكم من أعمال ولممارسة الضغط عليها، وبلا ريب أن هذا ينطبق على وسائل الإعلام، فإذا كانت جميع تنظيمات المجتمع المدني معارضة بشكل ثابت، سيكون من المتعذر أن يتم إدراج المنظورات التي يعتمدها المجتمع المدني، في أجهزة الحكم المحلي بأي طريقة من الطرق البناءة، إن طبيعة مشاركة تنظيمات المجتمع المدني تتوقف على الأرجح، على مدى الصدق الذي تلتزم به أجهزة الحكم في إبداء اهتمامها لدى الاستجابة لآراء التنظيمات.
يعتبر دور الحكومات دوراً حاسماً في تعزيز مشاركة المجتمع المدني، وبالفعل فإن فعالية المشاركة ترتهن بالموقف الذي تتخذه الحكومة، ففي وسعها إثباط مشاركة المواطنين وإخمادها أو العمل على تعزيزها بشكل ناشط من خلال خلق بيئة مواتية تفضي إلى المشاركة.
إن اضطلاع المنظمات غير الحكومية بمهمة الدفاع عن مصالح الفئات التي تمثلها وحقوق الإنسان يحتم وجود علاقة متواصلة بينها وبين السلطات أو الحكومات في بلدانها التي تعتبر المسئول المباشر عن انتهاكات حقوق الإنسان، وغالباً ما تجد نفسها في صراع مع بلدانها علي خلفية هذه الانتهاكات ومعالجتها ، فالعلاقة بين الحكومات وبين المنظمات غير الحكومية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، هي علاقة يشوبها التوتر ، لأن المنظمة غير الحكومية تقف بالمرصاد لتصرفات الحكومة وموظفيها ، منتقدة ومحتجة أحياناً وفاضحة للانتهاكات لإثارة الرأي العام المحلي والدولي، وبالتالي فالصراع الأساسي ما بين الحكومة والمنظمة غير الحكومية، هو صراع بين المبدأ والمصلحة، وصراع بين رؤية منظمة حقوق الإنسان للقانون كجهاز للحماية وبين رؤية الدولة لهذا القانون كأداة للسلطة وبسط النفوذ في بعض الأحيان، لدى تعاونت المنظمات غير الحكومية مع النظام الحاكم من أجل تعزيز الحماية القانونية لحقوق الإنسان، حيث أدت دوراً إيجابياً وفعالاً في تطوير القانون والآليات القضائية، وكثيراً ما تستشيرها الحكومة في هذا المجال، هذا إضافة إلى الدور الذي تقوم به هذه المنظمات في إقامة دورات تدريب وأنشطة تعليمية لأجهزة الشرطة حول احترام حقوق الإنسان وإنفاذ القانون .
تعرض منظمات المجتمع المدني الفاعلة لانتكاسة كبيرة في ظل السلطة الفلسطينية وحكوماتها المتعاقبة، الأمر الذي أدى إلى تغيرات في أجندة عملها وأولوياتها وجعل قياداتها تركز على احترف كتابة مقترحات المشاريع والتواؤم مع متطلبات الممولين لتصبح سمة الغالبة لعمل معظم المؤسسات الأهلية الانشداد و التنافس على التمويل الدولي والتوظيف واستمرارية عمل المؤسسة والحفاظ عليها في أجواء مضطربة وغير مستقرة، أكثر من انشدادها إلى القضايا الوطنية والارتباط مع مصالح الفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمشة، و منذ الانقسام السياسي طرأ تغير ملحوظ على هيكل أجهزة الحكم خلال السنوات الماضية، فالحكومة ومؤسساتها لم تعد بالأجهزة الموحدة، وقد ترك الانقسام تأثيرات سلبية على عمل مؤسسات المجتمع المدني التي تعرضت ذاتها لانتهاكات متنوعة أدت إلى اقصاء واحتواء وإضعاف عدد كبير منها ، فقد تعرضت منظمات المجتمع المدني لانتهاكات خطيرة من قبل الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية التابعة لحكومتي غزة والضفة، والتي وصلت إلى حد إغلاق بعض الجمعيات والنقابات، إضافة إلى إعاقة عملها، وأحيانا منع بعض أنشطتها، في انتهاك سافر لحرية الراي والتعبير والحق في التجمع السلمي، كما أن الفعالية السياسية لمنظمات المجتمع المدني قد تراجعت نتيجة التركيز على الجانب الاغاثي وتراجع أنشطة المدافعة والتأثير بسبب الانقسام، إضافة إلى نقص وتراجع الأنشطة المشتركة بين منظمات المجتمع المدني في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وتؤكد أن الانقسام وتداعياته أدى لغياب الحريات والخوف وبالتالي تعامل الناشطون في المجتمع المدني بحذر وبدرجة من الخوف على أمنهم الشخصي والخوف أيضا على مؤسساتهم.
تغليب الطابع النخبوي في مؤسسات العمل الأهلي والعجز عن بناء روافد لها من الفئات الاجتماعية صاحبة المصالحة في إنهاء الانقسام على سبيل المثال، فالقضايا الكبرى تتطلب طاقة هائلة حتى تحرز النجاح، مع ملاحظة أن حملات التوعية والتأثير تنجح بقدر ما تتحول إلى مطالب ملموسة تحملها فئات اجتماعية، ولعل ذلك يعود إلى غياب حركة اجتماعية وغياب الارتباط بالمنظمات الشعبية، وغياب العلاقة الفاعلة مع وسائل الإعلام، الأمر الذي أدى إلى تحويل منظمات المجتمع المدني إلى فروع شجرة بلا جذور، وبصرف النظر عن النوايا، فإن الوضع العام لمنظمات المجتمع المدني مع استثناءات قليلة، على سبيل المثال، وليس الحصر- مهدد بالتحول إلى بناء بيروقراطي مقطوع الصلة بالناس ومطالبهم الملحة.
تأثير ضغوط البيئة السياسية الخارجية الدولية والإقليمية والعربية، وحاجة أطراف الانقسام للانحياز إلى محور، والارتهان للمساعدات المقدمة له، مع استجابة منظمات المجتمع المدني – عامة - لهذه الضغوط حرصًا على الاستمرارية، ورغبة منها في الحصول على مساعدات من هذه الأطراف التي امتنعت في أحيان كثيرة عن تمويل المؤسسات الحكومية أو تقديم تمويل تبعا لتبعية المنظمات لطرف سياسي، وخاصة في قطاع غزة.
محدودية المهارات في إدارة الحوارات الداخلية وحل الصراعات ونقص المهارات في التشبيك وإدارة حملات مناصرة طويلة، فقد عجز المجتمع المدني عن إدارة حوارات داخلية لتقييم أسباب الفشل والنجاح، إلى جانب جمع كافة الأطراف صاحبة المصلحة لإنهاء الانقسام، إضافة إلى الإخفاق في بناء تحالف دائم قادر على إحداث التغيير وتقديم بديل ديمقراطي.
من أجل مواجهة ما سبق، فإن إحدى الاستراتيجيات المطروحة على منظمات المجتمع المدني لتعظيم فاعليتها هي مساعدة أصحاب المصالح لتنظيم أنفسهم، وبناء المنظمات القاعدية المعنية بالقضايا المباشرة، وتشجيع عملية تفعيل وبناء شبكة من الأفراد والمنظمات ذات التوجه المشترك، فكلما أصبحت مؤسسات المجتمع المدني أكثر ديمقراطية في حياتها الداخلية فإنها تكون أقدر على المساهمة في التطور الديمقراطي للمجتمع كله وحماية الحريات.
وهذا يتطلب توفر مجموعة من المعايير التي تتطلب تعزيز النمو في العضوية الفاعلة والنشطة، ومستوى المشاركة في نشاط وإدارة المؤسسة عبر وضع معدلات لتغيير عضوية مجالس الإدارة و ضمان مشاركة المرأة والشباب وإصلاح آليات إصدار القرارات، فإذا نجحت مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق المشاركة والتداول داخلها وفي هيئاتها القيادية المنتخبة وفرت بذلك أعدادا متزايدة من القيادات تتحرك للنشاط في مجالات سياسية مباشرة وتساهم في تعزيز الوحدة والديمقراطية السياسية في المجتمع، بمعني آخر ألا تكون المؤسسة أو المنظمة صورة مصغرة مما يجرى في المجتمع من احتكار فئة محدودة للسلطة أو انفراد فرد واحد بها، ونحن نلاحظ أن نمط القيادة الأبوية هو النمط السائد في المجتمع العربي عموما حيث ينفرد بالقيادة شخص واحد، وما لم يتغير هذا النمط في القيادة فإنه لا أمل في تطور المجتمع ديمقراطيا أو تحقيق الوحدة (كون فاقد الشيء لا يعطيه).
مما لا شك فيه أن منظمات المجتمع المدني ستبقى عاجزة عن القيام بهذه المهمات ولعب دورها بكفاءة وفعالية ما لم تجر عملية تقييم لهياكلها الإدارية والتنظيمية والتنسيقية لأدائها ولأساليب عملها وعلاقاتها وعلى رأس كل ذلك تدعيم بنيتها الديمقراطية وتعزيز الجانب الجماهيري التطوعي في عملها وبرامجها وتفعيل علاقات التنسيق والتشبيك والتعاون مع الجهات ذات الصلة والذي سيوفر القدرة للمنظمات الأهلية الفلسطينية للعب دور هام في عملية التحرر الوطني والبناء الديمقراطي.
وبالرغم من التحديات والتي أدت الي تراجع دور منظمات المجتمع المدني، إلا أن هذه المنظمات تتوفر فيها نخبة مرشحة للاتساع، ويوجد لها إمكانيات مؤسساتية تساهم في عملية التغيير إضافة إلى وجود مؤسسات وأطر في قيد النمو باستمرار، عموما إن الإجابة على التحديات السابقة قد تدخلنا في نقاشات غير مجدية لذا سوف نستعيض عنها بطرح أسئلة قد تحتوي في عمقها على إجابات منها: هل لدى منظمات المجتمع المدني استراتيجيات ووسائل عمل المجتمع واضحة ومعلنة في تعزيز الديمقراطية وحماية الحريات وتحقيق الوحدة الوطنية؟ ما هو الدور الذي تراه المنظمات الأهلية مجتمعة لنفسها في سياق مواجهة القضايا الوطنية والقضايا الاجتماعية الديمقراطية ؟ ما هو المستقبل الذي تراه المنظمات الأهلية لنفسها في ضوء الواقع الراهن؟ كيف نضمن فاعلية قوى المجتمع المدني الفلسطيني ونشاطها الدائم في مواجهة التحديات الوطنية وتعزيز الديمقراطية وحماية الحقوق والحريات ؟
خاتمة:
على الرغم من كل التحديات التي توجه منظمات المجتمع المدني إلا أنه ومن خلال ما تم استعراضه في الورقة، يظهر لنا أهمية دور منظمات المجتمع المدني في مجال تعزيز الديمقراطية وحماية الحقوق والحريات وإنهاء الانقسام وضمان الوحدة والسلم الأهلي، والمحافظة على النسيج الاجتماعي وبما يضمن تعزيز مقومات الصمود وتمكين شعبنا من مواجهة مشاريع الاحتلال الاستيطانية والعدوانية والتوسعية والعنصرية.
ولعل ما تقدم يشكل الخطوط العريضة لرؤية تتطلب خطة وبرنامج عمل وتحديد الآليات والأساليب الممكنة والأدوات بما يحقق مصالح واهداف الشعب الفلسطيني وهذا ينطلب انتزاع المبادرة الشعبية المؤسساتية من قبل المجتمع المدني لضمان تحقيق الوحدة والاستمرار في طريق المصالحة وعدم التراجع عنها بل تعزيزها وتطويرها وطنياً وديمقراطياً وحقوقياً، رغم أن الواقع يؤكد صعوبة تحقيق المصالحة الوطنية ما لم يتم تفعيل الضغط الشعبي للخروج من دائرة الانقسام إلى رحاب المصالحة والوحدة الوطنية ، فالرهان على العامل الجماعي التوحيدي كفيل بتحقيق أهداف شعبنا في استعادة الوحدة الوطنية .
وهنا لا بد من شجب كل محاولات القفز فوق قوة العمل الهادفة إلى إعادة الوحدة وبناء نظام ديمقراطي في المجتمع الفلسطيني الذي يعيش تحث الاحتلال، ولا يتحمل أي تباطؤ في انهاء الانقسام، وإعطاء المواطنين حقهم في العدالة والكرامة والانتصاف قبل أن يضطرهم استمرار الانتهاكات والقمع إلى التمرد واستخدام العنف من جديد بصورة قد تهدد مستقبل المجتمع الفلسطيني وقضيته الوطنية، فالحوار أفضل من القطيعة، التوافق أفضل بكثير من غياب الاتفاق.
هي إذا دعوة للنضال ودعوة إلى تجاوز كل التحديات والمعيقات التي يمكن أن تعطل قيام المجتمع المدني بكافة مكوناته بدور فاعل في موجهة التحديات الوطنية بما يضمن أدوارًا فاعلة لترتيب البيت الداخلي، حتى نعزز صمود شعبنا ونعظم من قدرته على تحقيق الأهداف الوطنية، وعلى المعنيين من " قوى وأفراد" التحرك الفاعل لفرض إعادة بناء كل مؤسسات النظام السياسي على أسس الشراكة والديمقراطية وضمان استقلال النظام القضائي وفصل السلطات واحترام حقوق الإنسان.
قائمة المراجع
ابراهيم ابراش، ورقة بعنوان " دور المجتمع المدني الفلسطيني في الدفاع عن القضايا الوطنية"، سبتمبر 2012
إبراهيم أبراش المجتمع المدني الفلسطيني من الثورة إلى تحديات تأسيس الدولة، " ورقة بحثية مقدمة إلى برنامج حوار الأربعاء فكر وآراء الذي ينظمه معهد كنعان"،( غزه: معهد كنعان، دون سنة طباعة) .
تسير محيسن؛ تقرير بعنوان " قراءة في دور المجتمع المدني في مرحلة ما بعد الربيع العربي..فلسطين نموذجا"، ديسمبر 2011
توفيق المديني، المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، ( دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، ، 1997).
جورج جقمان، المجتمع المدني والسلطة ،في موسى البديري (وآخرون) ،الديمقراطية الفلسطينية: أوراق نقدية،( رام الله :مواطن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية،1995).
زياد أبو عمرو، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في فلسطين، (رام الله :المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية،1995)
سائد ابو عدوان ، رسالة ماجستير بعنوان "دور منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في تعزيز التنمية البشرية- الضفة الغربية كحالة دراسة"، ، جامعة النجاح الوطنية، 2013
صلاح الدين موسى واخرون، واقع الجمعيات خلال عام 2009، ( رام الله: الهيئة المستقلة لحقوق الانسان، 2009).
صلاح عبد العاطي؛ ورقة عمل بعنوان "دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة التحديات وتحقيق الوحدة"، نوفمبر 2015
عبد البارى طاهر، أسئلة المجتمع المدني والدور في التحول الديمقراطية، (مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الانسان(HRITC) ،اليمن).
عبد الرحمن التميمي، ورقة عمل بعنوان "منظمات المجتمع المدني ودورها في مكافحة الفساد" شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية،2013
عزمي بشارة، مساهمة في نقد المجتمع المدني، ( رام الله: مواطن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 1996).
فلاح خليل الربيعي، مراحل تطور مفهوم المجتمع المدني، (موقع الحوار المتمدن:العد 2238 بتاريخ 1/4/2008).
فؤاد عبد الجليل الصلاحي، ثلاثية الدولة والقبيلة والمجتمع المدني، (اليمن:مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان ،2002).
محسن أبو رمضان" المجتمع المدني والتجاذبات السياسية"، نوفمبر 2016
محمد عابد الجابري، إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، المستقبل العربي، العدد 197،( كانون ثاني 1993).
محمود شاهين، حول الحق في التنظيم النقابي،(رام الله: الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، 2004).
المركز الفلسطيني لحقوق الانسان ندوة بعنوان " تأثير انقسام السلطة الفلسطينية على دور الجمعيات وتنظيمها القانوني" –، مايو 2013
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ملاحظات نقدية على مشروع قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الاجتماعية المقر بالقراءة الثانية في المجلس التشريعي الفلسطيني بتاريخ30/7/1998، (غزة : سلسلة الدراسات (13) ،1998) .
مريم سلطان لوتاه، المرأة والدولة ومؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، القدس ،13/5/2001.
معين البرغوثي؛ دراسة بعنوان " النزاهية والشفافية والمساءلة في الاتحادات الشعبية الجماهيرية، أمان، 2012.