قناع الأبيض على وجوه عرب جيّدين..!!حسن خضر

الثلاثاء 22 ديسمبر 2020 10:02 ص / بتوقيت القدس +2GMT
قناع الأبيض على وجوه عرب جيّدين..!!حسن خضر



نعود، بعد وقفة مع الحدث المغربي قبل أسبوع، إلى بن درور يميني، الصحافي الإسرائيلي من أصل يمني، الذي كتب عن زيارته لدبي نصاً يصلح كوسيلة إيضاح في تحليل خطاب الكولونيالية، ودلالات اللقاء الأوّل، وما يكتنفه من توتر وغموض ورغبة في الاكتشاف، مع السكّان الأصليين، ومفاهيم مألوفة كالمتوحّش النبيل، وهي معروفة للمطلعين على السجالات ذات الصلة بآداب الكولونيالية في القرن التاسع عشر، ودراسات ما بعد الكولونيالية، والدراسات الثقافية عموماً.
وضع المذكور، كما أسلفنا في معالجات سابقة، على وجهه قناع الرجل الأبيض، واستحضر (ولا يهم بطريقة واعية أم لا) ما في خطاب الكولونيالية من توابل النظرة من أعلى، والإشادة بالسكّان الأصليين (الذين يتكلّمون لغة الفاتحين، وينشدون أشعارهم، بل ويمكن بطفرة من طفرات النشوء والارتقاء اكتشاف أن بعض «القيم» الغربية قد برعمت هناك، ناهيك طبعاً عن الإعجاب غير المشروط بالفاتحين).
كان في وسعنا تحليل هذا الأمر بطريقة مختلفة، بطبيعة الحال، ولكنْ قناع يميني مُفتعل، وفيه ما ينم عن محاولة لتضميد جراح نرجسية. وفي هذا وذاك ما يُحرّض على تفسير معنى ودلالة المُفتعل، وكذلك الجراح النرجسية. ومن محاسن الصدف أن ما ينجم عن التفسير من نتائج يُقرّبنا أكثر من معنى ودلالة «سلام إبراهيم».
يذكر يميني، في مقالته، أن الجهة التي نظّمت زيارته إلى دبي هي «جنود الاحتياط في الخدمة»، وهي جمعية جديدة يريد مؤسسوها القول: إن خدمة الإسرائيليين في الجيش لا تنتهي عند خروجهم من الخدمة الفعلية إلى الاحتياط، بل تستمر، بطرق مختلفة، وهم في الاحتياط، أيضاً. وهذه الجمعية، التي ستفتح فرعاً لها في دبي (ولا أدري لماذا) وّجهت دعوات إلى عدد كبير من الصحافيين الإسرائيليين، ولكنه كان الوحيد الذي «لبى النداء».
ولا ضرورة للتذكير بأشياء من نوع أن القليل، فقط، من زملاء يميني يمكن أن يُسجّلوا على أنفسهم المشاركة في «بعثة دعوية» كهذه، حتى وإن كانوا من أشد الناس تعلّقاً بالجيش ودولته. فالناس، في التحليل الأخير، وفي إسرائيل، أيضاً، مقامات. و»الهاسبرا» (أي الدعاية لإسرائيل في الخارج) خاصة في ظل حكومات اليمين القومي - الديني، لم تعد ذات جاذبية خاصة.
المهم، قبل الأخ يميني الدعوة. ومَن كان معه؟ كان أغلب هؤلاء من «العرب الجيّدين» (استخدمُ هذا التعبير وفي الذهن كتاب المؤرخ الإسرائيلي هيلل كوهين عن «العرب الجيّدين»): طالب جامعي يقول بن درور، إنه في بداية الطريق كمثّقف، وآخر أصر على الخدمة في الجيش، وثالث كان أبوه ضابطاً في جيش لبنان الجنوبي، وطالبة حقوق بدوية). ولا أجد ما يبرر الكلام عن هؤلاء، أو وصفهم بأوصاف مُتوقّعة. كل ما في الأمر أن قانون القومية الإسرائيلي لا يعترف لهؤلاء بمواطنة الدرجة الأولى، التي يجعلها حقاً حصرياً لليهود الإسرائيليين، فقط، ولمَنْ شاء الإقامة في إسرائيل من يهود العالم. بمعنى أكثر مباشرة، ولأغراض هذه المعالجة، تعاني هوّيات المذكورين من تناقضات اجتماعية، وثقافية، وسياسية، ووجودية، تستعصي على الحل.
ولكن ماذا عن بن درور يميني؟ فهو يهودي إسرائيلي، أي صاحب حق مكفول في مواطنة الدرجة الأولى بنص قانون القوميّة نفسه! وهذا صحيح، ولكن مع تحفّظات لا غنى عنها. فقد أشرنا في معالجات سبقت إلى كيفية استدراج الدفعة الأولى من المهاجرين اليمنيين إلى فلسطين في العقود الأولى من القرن الماضي، للعمل في الحقول «لأنهم يشبهون العرب»، وتشغيل زوجاتهم وبناتهم في الحقول كخادمات، على حد تعبير بيرل كاتسنلسون.
للعنصرية، كما يعرف المعنيون بتاريخ يهود البلدان العربية والإسلامية في إسرائيل، تجليات يصعب حصرها (ولا يتسع المجال لذكرها) وهي مستمرة، بأشكال مختلفة، حتى يوم الناس هذا، ورغم فقدان الأشكناز لمكان الأغلبية بالمعنى الديموغرافي إلا أن تركتهم الأيديولوجية، والسياسية، وفي الجيش وبيروقراطية الدولة، والمال والأعمال، ما زالت ثقيلة.
ولكي لا يضيع الخيط، ونبقى في موضوع الأخ يميني ثمة ما يستدعي التذكير بحقيقة أن ملامحه الخارجية لا تشبه الأشكناز من قريب أو بعيد، فسحنته أقرب إلى الشرق أوسطيين والعرب. والمهم، وبما أن التاريخ لا يكف عن المزاح الثقيل أن أحد القرّاء لفت انتباهي قبل أسابيع إلى حادثة وقعت في جامعة تل أبيب، وشهدها بنفسه، في العام 1982، عندما خرج الطلاّب في تظاهرة احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي للبنان، واصطدموا بتظاهرة مضادة يقودها طلاّب يمينيون أيدوا الحرب. كان بن درور يميني على الرصيف، ولكن أحد أفراد التظاهرة المضادة تخيّل أنه «عربي» فانهال عليه بعدد من اللكمات.
ولا يبدو من قبيل المبالغة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتباس الهوّيات، توقّع أن تكون ذاكرة بن درور غنية بمفارقات تستحق الذكر عن مناسبات أوقفته فيها الشرطة الإسرائيلية في مدن كالقدس وتل أبيب، للتحقق من هويته. وبهذا المعنى، لا تبدو هويته كإسرائيلي كامل المواطنة صلبة تماماً، طالما كانت مرشحة لالتباس يسكن الفضاء العام. ولعل في هذا ما يمثل القاسم المشترك بينه وبين مرافقيه من أعضاء الوفد غير اليهود من «العرب الجيّدين». وضمن مجموعة كهذه، هو، إلى حد ما، «عربي جيد» أيضاً.
وبمعنى سنفسّره في معالجة لاحقة، لا يكون بن درور يميني إسرائيلياً «كاملاً»، ولا تبدو هويته مطمئنة، وغير مرشحة للالتباس، في إسرائيل نفسها، بل خارجها، حيث لا التباس في الهوية، وكذلك الأمر بالنسبة لمرافقيه. فاصل ونواصل.