كتب اللواء "محمد إبراهيم الدويري" نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية يوم السبت مقالاً بعنوان "هل هناك مستقبل لسلام فلسطيني مع إسرائيل؟".
وقال الدويري في "مقاله"، "تنتابني بين حين وآخر ومن خلال متابعتي لتطورات القضية الفلسطينية العديد من المشاعر المختلفة التي تتراوح بين التفاؤل والأمل تارة، والتشاؤم والإحباط تارةً أخرى، رغم أن هذه القضية ليست وليدة سنوات قليلة مضت وإنما مر عليها أكثر من نصف قرن شهدت خلاله متغيرات لا حصر لها سواء إيجابية أو سلبية، وكلها لم تُفضِ -في النهاية- إلى أي حل عادل وشامل يحقق المطالب الفلسطينية المشروعة".
وأضاف، أنّه "لن أتحدث في هذا المقال عن مستقبل السلام العربي-الإسرائيلي، حيث إن الفترة الأخيرة شهدت خلطًا كبيرًا في الأوراق التي لا يمكن معها تلمّس أن هناك سلامًا عربيًا إسرائيليًا شاملًا يمكن أن يلوح في الأفق القريب أو حتى البعيد، حيث إن اتفاقات التطبيع الإسرائيلي الأخيرة مع بعض الدول العربية -وهو حق أصيل لكل دولة طبقًا لمصالحها- لن تخرج عن إطار العلاقات الثنائية بين هذه الدول وتأثيراتها الإقليمية، ودون أي ارتباط موضوعي بشأن إحراز تقدم في القضية الفلسطينية".
وتابع، "سوف أركز في هذا المقال على مستقبل السلام الفلسطيني مع إسرائيل، حيث إن فلسطين هي الدولة الوحيدة التي ما زالت تعاني من الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، والتي تحتاج بقوة إلى جهود إقليمية ودولية حقيقية من أجل التوصل إلى حل عادل من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة ما زلنا نبحث عنها".
وأكمل مقاله قائلاً فيه:
ويظل السؤال الدائم والمنطقي يدور حول مدى إمكانية أن نشهد خلال المرحلة المقبلة أية تحركات إيجابية تنقل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من الوضع الحالي شديد الجمود والتعقيد والمليء بالعقبات ومحاولات فرض سياسة الأمر الواقع إلى مرحلة أفضل من الوضع الراهن ولو حتى قليلًا.
بدايةً، من المهم أن نستعرض تقييمًا للوضع العام المرتبط بالقضية الفلسطينية من خلال الإشارة إلى المحددات الخمسة التالية:
المحدد الأول: أن المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية متوقفة تمامًا منذ إبريل 2014، وبالتالي فإن كافة التحركات التي تمت منذ ذلك التاريخ -أي منذ أكثر من ست سنوات ونصف وحتى الآن- كانت بعيدة عن الدخول في أهم دائرة من دوائر العملية السياسية، وأقصد هنا دائرة التفاوض، تلك الوسيلة الوحيدة والمتاحة التي يمكن أن تُحقق نتائج على المدى القصير أو المتوسط.
المحدد الثاني: أن الرؤية العربية الوحيدة لحل الصراع العربي-الإسرائيلي وليس القضية الفلسطينية فقط تتمثل في مبادرة السلام العربية المطروحة منذ 2002، وقد يكون من المؤلم أن نشير إلى أن الدول العربية مجتمعة لم تنجح طوال هذين العقدين في تسويق هذه المبادرة أو فرضها أو حتى إقناع المجتمع الدولي بضرورة المساهمة في وضعها موضع التنفيذ.
المحدد الثالث: أن إدارة الرئيس “ترامب” طرحت ما يُسمى بـ”صفقة القرن” في يناير من العام الجاري 2020، وهي -في مجملها- خطة سلام تأخذ القضية الفلسطينية إلى مسار مختلف تمامًا يقضي على كل احتمالات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وإن كنا نأمل أن هذا الأمر سوف يشهد تغييرًا في المرحلة القادمة.
المحدد الرابع: أن الإجراءات الإسرائيلية في مجال التهويد والاستيطان لم تتوقف في أي مرحلة، بل زادت وتيرتها، خاصة في مدينة القدس، وهي كلها مقدمات لإعلان الضم الرسمي لأجزاء كبيرة من الضفة الغربية، وهو إجراء علينا توقعه في أي وقت مهما كانت إغراءات التطبيع العربي ومحاولات تحجيم إسرئيل عن مخططاتها.
المحدد الخامس: أن الموقف الفلسطيني لا يزال يعاني من أهم مشكلة واجهها منذ نكبة 48، وهي الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني الذي حدث في يوليو 2007 ولا يزال قائمًا حتى الآن ينهش بقوة في الجسد الفلسطيني، ولا يحقق في النهاية سوى المصالح الإسرائيلية ومصالح كل طرف يعارض إنهاء الانقسام.
وإذا تعرضنا إلى الموقف الإسرائيلي فسوف نجد أن إسرائيل قد شهدت خلال عام 2020 العديد من التطورات شديدة الإيجابية وغير المسبوقة لصالحها، أهمها قيام الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر 2017، ثم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وهو قرار لم يقم أي رئيس أمريكي باتخاذه منذ عام 1995, فضلًا عن اتخاذ الرئيس “ترامب” قرارًا آخر أكثر غرابة وتطرفًا في مارس 2019 وهو الاعتراف غير المسبوق بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية.
ومن جانب آخر، تزايدت الإيجابيات التي لحقت بوضعية إسرائيل بصورة كبيرة من خلال توقيعها على اتفاقات التطبيع مع كل من الإمارات والبحرين والسودان على التوالي، ثم أعقبها التوقيع على العديد من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية مع كل من الإمارات والبحرين في مجالات متعددة، والتي من شأنها أن تدعم من قوة هذه العلاقات. وتجدر الإشارة إلى أنه ما زالت هناك إمكانية لتوقيع اتفاقات تطبيع إسرائيلية مع دول عربية أخرى.
وبالرغم من هذه الإنجازات التي لحقت بموقف إسرائيل إلا أنها تواجه حاليًا مشكلة داخلية مؤثرة، حيث إن هناك توجهات قوية للتوجه لانتخابات برلمانية رابعة في أقل من عام أو أكثر قليلًا، وذلك في أعقاب موافقة الكنيست يوم 2 ديسمبر الجاري بالقراءة الأولى على حل الكنيست بأغلبية 61 صوتًا ومعارضة 54, ويتبقى أن نترقب تداعيات ماذا سيحدث في الأيام القليلة المقبلة ونتائج الصراع المحتدم بين رئيس الوزراء “نتنياهو” وشريكه الرئيسي في الائتلاف ووزير دفاعه “بيني جانتس”. وفي كل الأحوال فإن إسرائيل مقبلة على مرحلة من عدم الاستقرار السياسي التي سوف يكون لها تأثيرات بكل تأكيد على عملية السلام في حالة استئناف جهودها مرة أخرى، وهو ما يجب علينا وضعه في الحسبان.
ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن المشكلة الأهم تكمن في تصاعد قوة أحد الأحزاب اليمينية المتطرفة وزيادة شعبيته طبقًا لآخر استطلاعات للرأي (حصول حزب يمينا المتطرف بزعامة “نفتالي بينيت” على 22 مقعدًا، بينما كان قد حصل على 6 مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة) في الوقت الذي انخفضت فيه بشكل واضح شعبية “نتنياهو” والليكود (30 مقعدًا بعد أن كان 36 مقعدًا في الانتخابات الأخيرة)، الأمر الذي يدل على أن المجتمع الإسرائيلي في طريقه لمزيد من التوجهات اليمينية المتطرفة رغم توقيع اتفاقات السلام الإسرائيلية العربية، وهو أمر لا بد لنا من متابعته ودراسة تأثيراته.
وفي الوقت نفسه فقد أدت نتائج الانتخابات الأمريكية وعودة الإدارة الديمقراطية إلى البيت الأبيض، ابتداء من 20 يناير 2021، إلى فتح المجال أمام إمكانية تحريك القضية الفلسطينية. وفي هذا المجال لا أريد أن نعلق آمالًا كبيرة على حدوث تغيير دراماتيكي أمريكي في وقت قصير، لا سيما وأن إدارة “بايدن” سوف تركز في الأشهر الأولى على قضايا كورونا والعلاقات مع روسيا والصين وإيران؛ إلا أنه في كل الأحوال تظل الإدارة الأمريكية الجديدة أفضل كثيرًا من إدارة الرئيس “ترامب” بالنسبة للتعامل الموضوعي مع القضية الفلسطينية. ويكفي هنا أن نشير إلى أن إدارة “بايدن” لم تطرح أو تؤيد “صفقة القرن” المجحفة بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما يعني أن الأرضية أصبحت مُهيَّأة لتعامل أمريكي مختلف تجاه هذه القضية عما سبق.
وعلى المستوى العربي ليس من الإنصاف أن نتعامل حاليًا مع الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية من منطلق تحميله المسئولية الكاملة حول ضرورة تحقيق تقدم ملحوظ لحل جذري لهذه القضية، حيث إن الوضع الحالي في المنطقة العربية، والمشكلات التي تعاني منها في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، فضلًا عن الخلافات الخليجية القطرية؛ كلها أمور كفيلة بأن تعيق أي جهد عربي ناجح يغير بشكل كبير من الواقع الفلسطيني الراهن, إلا أن المسئولية العربية تقتضي التفكير بهدوء في كيفية الخروج من دائرة الجمود والتعقيد الحالية إلى مسار واقعي ننتهج فيه خطوات عملية يمكن تنفيذها لتحريك القضية، وأعتقد أن هذا الأمر -رغم اعترافي بصعوبته- ليس مستحيلًا.
وبالتالي، وفي ظل المتغيرات التي نشهدها حاليًا سواء تزايد اتفاقات التطبيع الإسرائيلي العربي أو اقتراب تولي إدارة أمريكية جديدة، فإننا يمكن القول إن هناك خطوات ضرورية يجب على كل من الجانبين الفلسطيني والعربي اتخاذها, وفي هذا المجال أود تحديد الخطوات الأربع التالية:
الخطوة الأولى: ضرورة أن يتم التركيز خلال المرحلة المقبلة على تبني ما يُسمى بمبدأ هجوم السلام على إسرائيل PEACE OFFENSIVE. وفي رأيي أن هذا هو العامل (الغائب أو المفقود) الذي يمكن أن يؤثر فعليًا على المجتمع الإسرائيلي الذي لا بد أن يشعر مرة أخرى بأن أمنه واستقراره لن يتحقق إلا بالحل العادل للقضية الفلسطينية.
الخطوة الثانية: عدم تحميل موضوع التطبيع الإسرائيلي العربي أكثر مما يحتمل، ولا داعي لأن نركز على مسألة الربط بين اتفاقات التطبيع وبين إحداث تقدم في القضية الفلسطينية، حيث إنه من الناحية العملية لم ولن يكون هناك أي ارتباط حقيقي بينهما، ولا يجب النظر إلى هذه الاتفاقات إلا في إطار كونها مجرد اتفاقات ثنائية علينا أن نتابعها وندرس آثارها وكيفية التعامل معها.
الخطوة الثالثة: أهمية أن يكون لدى الدول العربية رؤية واقعية متكاملة لحل القضية الفلسطينية يمكن طرحها أمام المجتمع الدولي في الوقت المناسب، وهنا لا أريد أن أتحدث عن رؤية لا تزال حبيسة الأدراج أو غيرها، وإنما أتحدث عن ضرورة امتلاك رؤية عربية، سواء كانت قديمة أم جديدة، بشرط أن تكون واقعية ونكون قادرين على تسويقها وإقناع الأطراف بقبولها قدر المستطاع.
الخطوة الرابعة: الإعداد الجاد منذ الآن لاستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية على أسس مقبولة من جانب كافة الأطراف, وما زلت على قناعة كاملة بأن مصر بوضعيتها وقيادتها السياسية الحكيمة هي الدولة الرئيسية المؤهلة لقيادة جهد عربي بل ودولي يدفع في اتجاه تحريك حقيقي للقضية الفلسطينية، يستند في جوهره على البدء بعملية تفاوضية يتم التمهيد لها تدريجيًا من الآن، على أن تبدأ عمليًا في أعقاب تولي الإدارة الأمريكية الجديدة,
ومن المهم أن نعيد واشنطن ونساعدها لتقوم بدورها الإيجابي الذي تميزت به في عملية السلام وهو دور الشريك الكامل FULL PARTNER والذي كانت له العديد من الإنجازات في معاهدتي السلام الإسرائيلية مع كل من مصر والأردن، وكذا اتفاقات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي ضوء ما سبق علينا أن نستثمر المرحلة القادمة في دفع عملية السلام بشكل حقيقي، ولا يمكن أو يصح أن ننتظر حدوث أي متغير في الموقف الإسرائيلي الذي يُعد الوضع الحالي هو الأمثل بالنسبة له، سواء من حيث جمود العملية السياسية، أو عدم وجود أية ضغوط عليه لوقف سياساته المتطرفة في المناطق المحتلة,
ومن ثم يجب أن نمتلك نحن مبادرة التحرك وندفع المجتمع الدولي للتفاعل الإيجابي معها، بالإضافة إلى ضرورة استثمار التوجهات الإيجابية المتوقعة لإدارة الرئيس “بايدن” تجاه القضية الفسطينية من أجل أن نبدأ مرحلة جديدة لا بد أن تكون -إذا أحسنا استغلالها- أفضل من الوضع الراهن الذي تشهد فيه هذه القضية تآكلًا وتراجعًا وخططًا مطروحة لا تأخذ في اعتبارها سوى المصالح والمطالب الإسرائيلية فقط. وباختصار، علينا أن نخترق الحواجز والعقبات الحالية مهما كانت النتائج المتوقعة.