يؤكد تقرير للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) أن سياسة الاغتيالات هي الأداة الأقل نجاعة والأكثر استخداما من قبل إسرائيل في الصراع مع الشعب الفلسطيني.
ويوضح “مدار” أن الجدل حول سياسة الاغتيالات بأبعادها المختلفة، ليس جديدا على الساحة الإسرائيلية، فهو وإن خبا لبرهة من الزمن، يعود من جديد مع كل عملية اغتيال جديدة، كما حدث عند اغتيال القيادي في سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا في العام الماضي في قطاع غزة.
ونوه إلى أن هذا الاغتيال تم في ذروة حملة بنيامين نتنياهو الانتخابية وقبل أيام معدودة من الانتخابات مما أثار شبهة استخدام الاغتيال لأغراض انتخابية، مثلما أثار السؤال مجددا حول الاعتبارات التي تقف خلف اللجوء إلى هذا الأسلوب وجدواه والأطر والدوائر التي يجب أن يمر بها قبل إقراره، بعدما تبين أن نتنياهو حاول تمرير قرار الاغتيال دون مصادقة المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت)، الأمر الذي عارضه بشدة وأدى إلى تأجيله المستشار القانوني للحكومة، كما كشف المراسل العسكري للقناة 13 ألون بن دافيد في مقالة له في صحيفة “معاريف”.
تعريف الاغتيالات وأهدافها
وحسب التقرير درجت إسرائيل على استخدام كلمة اغتيال لوصف عملية التصفية الجسدية التي تقوم بها أجهزتها الأمنية ضد قادة ومقاتلين فلسطينيين وعرب تتهمهم بالتورط في نشاط أو عمليات ضدها، وقد بقي هذا الاسم متداولا حتى العام 2000 حيث قدم القاضي في المحكمة العليا إلياكيم روبنشتاين الاسم “الأقل إجحافا” بحق إسرائيل حسب وصفه، وهو “إحباط موضعي” والذي يوحي بالحاجة الملحة جدا وعدم القدرة على الاستعاضة عن التصفية لمنع عملية وشيكة أو “تفكيك قنبلة موقوتة”، ليصبح هذا التعريف (المحايد) هو الاسم المعتمد لدى نائب رئيس الشاباك يوفال ديسكين في ذلك الوقت، والذي يعتبر مهندس هذا الأسلوب في مواجهة الانتفاضة. وما لبثت وسائل الإعلام والدوائر الرسمية أن تبنته بشكل حصري وذلك لتحقيق عدة أهداف تمت بلورتها مع الزمن وتطويرها إلى أن تحولت إلى نظرية قائمة بذاتها.
تعبير ملطف
يعتبر الدكتور بنحاس يحزقيلي، وهو رئيس سابق لقسم الأبحاث الاستراتيجية والسياسات في الجيش الإسرائيلي، أن كلمة اغتيال هي “صيغة ملطفة للقتل العمد والإعدام دون محاكمة”، وأن الدول تلجأ إلى هذه السياسة ضد جهات تعتبرها “إرهابية” لتحقيق عدة أهداف تتراوح بين أغراض عسكرية بحتة مثل الردع ومنع تنفيذ عملية وشيكة أو ما يوصف إسرائيليا بـ”القنبلة الموقوتة”، وصولا إلى أغراض معنوية مثل رفع معنويات الإسرائيليين والانتقام والرد على عملية موجعة.
ويقر يحزقيلي في تلخيصه حول الأهداف من وراء سياسة الاغتيالات، أنها لن تنهي ظاهرة “الإرهاب” وإنما، وفي أحسن الحالات، وعندما يكون هدف الاغتيال شخصية مركزية في شبكة يعتمد وجودها على هذه الشخصية، “إدخالها (الشبكة) في حالة من الفوضى لفترة من الزمن” قبل أن تستعيد عافيتها وربما على نحو أكثر عنفا.
ومن الأمثلة على ذلك اغتيال عباس موسوي، أمين عام حزب الله السابق، الذي خلفه حسن نصر الله والذي “حول الحزب من جماعة صغيرة إلى جيش منظم” كما يصفه ألون بن دافيد، أو كما في حالة الدكتور فتحي الشقاقي الذي لم يمنع اغتياله من تحول التنظيم الذي أسسه إلى قوة أكثر تهديدا لأمن إسرائيل.
الانتقام
رغم حضور عنصر العقوبة والانتقام كأحد مبررات اللجوء إلى سياسة الاغتيالات، إلا أن المنظومة الإسرائيلية تفضل التعريفات التي تصور الاغتيال على أنه مجرد أداة تنبع من اعتبارات وقائية ضد حالات استثنائية “تضطر” فيها إلى استخدام قوة قاتلة بشكل موجه ومقصود ضد أشخاص معروفي الهوية بشكل واضح ومسبق.
ويؤكد التقرير أن التعريف أعلاه تعوزه الدقة ولا يغطي مئات حالات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل إما بدافع العقوبة أو الانتقام وتدفيع الثمن، إلى جانب المس بمواطنين أبرياء لا علاقة لهم بالقضية وبعائلات وممتلكات من تصفهم بأنهم مطلوبون.
تاريخ الاغتيالات
وارتبطت سياسة الاغتيالات لدى المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية بشعار “يد إسرائيل الطويلة” القادرة على الوصول إلى كل مكان، والتي أدت إلى جعل “المقابر تمتلئ” بالضحايا ممن وصلت إليهم هذه اليد وقادت إلى تصفيتهم في مختلف أرجاء العالم، وفق تعبير ألون بن دافيد.
ويمكن التأريخ لسياسة الاغتيالات التي يتم فيها استهداف شخص معين محدد الهوية، يتم اختياره بشكل مسبق بهدف تصفيته بقرار رسمي.
في العام 1972 قررت رئيسة حكومة إسرائيل غولدا مائير ملاحقة واغتيال منفذي عملية ميونيخ التي نفذتها منظمة “أيلول الأسود” التابعة لحركة فتح ضد رياضيين إسرائيليين كانوا يشاركون في الأولمبياد في ألمانيا.
ويعتبر قرار مائير، وفق ألون بين دافيد الذي أعد سلسلة من أربع حلقات عرضها في القناة 13، أن إسرائيل “الدولة الوحيدة في الغرب التي يأمر فيها رئيس الحكومة بإعدام شخص دون أن يعود لأحد أو أن تشرف على قراره لجنة رقابية برلمانية”، لتتواصل بعدها عمليات الاغتيال والتصفية وتطال أدباء مثل غسان كنفاني وقادة أمنيين مثل أبو علي حسن سلامة وأمناء عامين مثل الشقاقي وعباس موسوي ومفكرين وقادة سياسيين في أصقاع الأرض المختلفة.
وأخذت سياسة الاغتيالات بعدا جديدا أكثر كثافة وتركيزا مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000 حيث “تحولت إلى سياسة منهجية وعلنية وجزء أساس من الحرب على الإرهاب” وفق معهد الاستراتيجية الصهيونية، والذي أحصى خمسين عملية اغتيال عن بعد عبر استخدام الطائرات والمروحيات في عام واحد (2005)، وهو ما يكشف عن الوتيرة الكبيرة التي تم استخدام هذا الأسلوب فيها ضد المقاتلين الفلسطينيين في هذه الموجة التي اعتبرت الأعنف منذ احتلال العام 1967 داخل الأراضي المحتلة.
وقد تميزت الاغتيالات في فترة الانتفاضة الثانية ليس بكونها أكثر كثافة، بل بكونها أصبحت بديلا مريحا عن الاعتقال وكمحاولة تقديم المشتبه به إلى المحاكمة، كما أنها طالت عناصر وجهات ميدانية غير مركزية لا يترك غيابها الفردي (بحد ذاتها) أي أثر جدي على الواقع السياسي والأمني، إلا أن استهدافها بشكل مكثف يخلق حالة من الترهيب والردع والانشغال في الحماية الشخصية ومحاولة التخفي بدل المبادرة لتنفيذ أو التخطيط لعمليات جديدة.
ويشير التقرير إلى أن كثافة الاغتيالات وتوسيع دائرة ومستوى المستهدفين وردود الفعل العنيفة التي قادت إليها، كما حدث مع اغتيال القيادي في كتائب شهداء الأقصى في طولكرم رائد الكرمي في العام 2002 الذي أدى إلى موجة عمليات تفجير في قلب المدن الإسرائيلية وانضمام حركة فتح للعمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر، أثارت جدلا كبيرا في إسرائيل حول قضيتين أساسيتين: جدوى وأخلاقية وقانونية الاغتيالات.
الجدل حول سياسة الاغتيالات: الجدوى
ويجزم ألون بن دافيد أن سياسة الاغتيالات لا تؤدي إلى “انتهاء ظاهرة الإرهابيين بل استبدالهم بآخرين فقط” وأنها قد تقود إلى نتائج عكسية وإلى تغذية دوامة الدم والعنف وتوسيعها، كما أنها لا تشكل بديلا عن الوسائل الأخرى، بالإضافة إلى ضررها على صورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، وتعريض ضباط وقادة إسرائيليين للملاحقة قضائيا في المحاكم الدولية.
وينوه إلى أنه إن لم يكن بسببها مباشرة فبسبب الأضرار الجانبية التي تنتج عنها والمس بالمدنيين الأبرياء كما حدث في عملية اغتيال القيادي في حركة حماس صلاح شحادة الذي أدت عملية اغتياله بإلقاء قنبلة تزن طنا من طائرة حربية على المبنى المكتظ الذي يقيم فيه إلى مقتل 14 مواطنا بريئا معظمهم أطفال وتقديم دعاوى ضد قائد سلاح الجو الأسبق دان حالوتس.
ونتج عن هذا الجدل بين من يؤيد السياسة ويعارضها وضع معايير لتقييد والحد من استخدامها، إذ نشر موقع (واللا) في العام 2019 ملخصها بالتشديد على أن تتم بشكل مدروس وفي حالات استثنائية وبعد استنفاد الوسائل الأخرى وامتلاك معلومات تؤكد أن الهدف المنوي اغتياله سينفذ فعلا عملية وأن اغتياله فقط يمكن أن يوقفها، إلى جانب التأكد من عدم المس بالآخرين.
من جهتها تقول الدكتورة رونيت مرزن، المستشرقة والمحاضرة في جامعة حيفا، إن “الاعتبارات تتداخل” ولا أحد يمكن أن يضمن أن لا “يدخل عامل الرغبة في الإذلال القومي والانتقام” لدى متخذ القرار الذي لا يمكن إلزامه بهذه المعايير في ظل غياب الرقابة التي يقابلها “ضغط الجمهور” الذي يريد أن يرى نتائج.
وتقترح إضافة ثلاثة أسئلة للمعايير السابقة، وأنه فقط في حال الإجابة عليها بشكل إيجابي يمكن اللجوء إلى اغتيال الشخص وهي: هل غياب هذا الشخص سيؤدي إلى إحداث ضرر لا يمكن إصلاحه للمنظومة التي يقودها؟ وهل سيزيد غيابه من فرص التقدم في المسار السياسي؟ والأهم، هل من سيحل مكانه معتدل أكثر منه أم لا؟
وتستنتج أن تجربة السنوات الماضية تثبت ليس فقط أن هذه الأسئلة لم تطرح، بل أن النتائج جاءت عكسية في الكثير من الحالات كما أكد ألون بن دافيد.
الجدل حول قانونية الاغتيالات
أما الإدانة الواسعة دوليا لسياسة الاغتيالات وتحديدا في الانتفاضة الثانية، والجدالات الإعلامية والسياسية الداخلية التي رافقتها في إسرائيل فقد دفعت اللجنة العامة ضد التعذيب إلى تقديم التماس ضد استخدام الجيش لهذه السياسة بدعوى أنه “وسع استخدامها أكثر من الغاية الأصلية التي حددها لها”، وأن اللجوء إلى هذه السياسة، بهذه الكثافة، والتسبب في وقوع ضحايا في صفوف المدنيين يتعارض مع القانون الدولي.
وقد طرحت القضية على طاولة أعلى هيئة قضائية في إسرائيل، المحكمة العليا، في ذروة الانتفاضة الثانية في 2002، إلا أنها بقيت تماطل وتتجنب البت في القضية لأربع سنوات متواصلة، وفقط بعد أن هدأت الانتفاضة وتراجعت عمليات الاغتيال، أصدرت قرارها الذي لم يتضمن إدانة واضحة لسياسة الاغتيالات ولا وضع قيود للحد منها، معتبرا أن “من يشارك في تنفيذ عملية إرهابية، يجب أن يـأخذ بالاعتبار أنه سيكون عرضة للمس من قبل الجيش”.
مظلة لتبرير الاغتيالات
ويتفق التقرير مع تقديرات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية أن موقف المحكمة العليا المنحاز للمؤسسة مكن الجيش من امتلاك مظلة لتبرير سياسة الاغتيالات وإقفال الباب حول الجدل القانوني حول شرعيتها ومدى أخلاقيتها، وهو ما عززته الكثير من الدراسات اللاحقة وأبرزها دراسات معهد أبحاث الأمن القومي والذي أعد دراسة في العام 2018 اعتبر فيها أن قضية الاغتيالات التي يتم اللجوء اليها في سياق الحرب على “الإرهاب” تجسد التصادم بين قيميتين أساسيتين هما الأمن الشخصي للمواطنين وحقوق الإنسان، وأن ضمان الأمن يبرر اللجوء إلى هذه السياسة التي وصفها الباحث عيدو روزنتسفايغ بأنها الأداة التي “ابتدعتها إسرائيل وتحولت إلى ظاهرة دولية وأداة مركزية في الحرب على “الإرهاب” على مستوى العالم، وهو الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال الإحصائية التي قدمها المعهد الذي وجد أن “ثلاث دول غربية متقدمة تستخدم سياسة الاغتيال ما بعد العام 2000”.
ويخلص التقرير للقول إنه لا يوجد بحث واحد ولا تجربة تثبت أن سياسة الاغتيالات حققت الردع أو ساهمت في تخفيف حدة العنف، بل على العكس من ذلك تثبت التجربة العملية أن هذه السياسة قادت إلى تأجيج العنف وتوسيع دائرة المنخرطين فيه وتوسيع نطاقه، وأن من تم اغتيالهم شغل مكانهم أشخاص أكثر راديكالية اعتبروا أن مهمتهم الأولى الثأر لقادتهم الذين تمت تصفيتهم.